بعد فيلمها الأول (جزائرهم)، التي حاولت خلاله استكشاف هوّيتها الجزائريّة عن طريق إعادة خلق صورٍ وذكريّات تتمحور حول والدها الممثل الفرنسي من أصول جزائريّة “زين الدين سويلم”، أعادت من خلالها استكشاف الماضي في أنماط أكثر حميمية، تعود المخرجة لينا سويلم إلى نسقها الاستعادي لتداعب النصف الأخر من هويّتها؛ الجُزء الفلسطيني الأشد تعقيدًا والأكثر خصوصية على أكثر من مستوى، بداية من كونه يتعلق بالنساء اللائي يشكلن إطارًا يُحيط السرديّة من كُل الجوانب، وصولًا للجانب الحكائي المتعلق بالأداء أمام الكاميرا والتعليق الصوتي المستخدمان في حكي التجربة الذاتية للأم والممثلة والمرأة؛ بطلة الفيلم، هيام عباس.
يرتبط “باي باي طبرية” أحدث أفلام لينا سويلم كثيرًا بالحركة والترحال، ويُثير تساؤلات حقيقية عن ماهية الوطن والهويّة، ويحاول النظر في قرارات قديمة تدفع لتشكيل المستقبل والشكل والهوية التي صارت إليها الأم الآن، ومن خلالها تتحدث وتروي، والابنة التي تظل جُزءًا حقيقيًا من ذلك الماضي العائلي الممتد، وقُدرة كلتاهما على خلق مُنتج إبداعي يتماس مع ذكرياتهما كأشخاص وكمُبدعات.
تتحرك لينا سويلم، مخرجة الفيلم والابنة لأجيال من الفلسطينيات عبر والدتها – الفنانة هيام عباس- من دائرة حكي ضيقة وبسيطة، إلى دائرة أوسع. وتنتقل بسلاسة من الشخصيّ إلى العام، لنجد في تتبعها لأربعة أجيال من النساء في عائلتها الفلسطينية تقاطعات الوقائع التاريخية مع البنية الذاتية والحميمية للنص والفرد، فكُل القصص الفلسطينيّة يشوبها الحُزن، بحكم المصير الجماعي. لكن ثقل الأقاصيص الفرديّة هو ما يجعل هذا الفيلم متفردًا، فالمُعاناة الجماعيّة تطول كُل فلسطيني وتؤثر في تكوينه، لذلك فالحُزن قدر جماعي؛ أما الأقصوصة الفرديّة أو مجموعة الذكريات التي تربط الأفراد بهويّتهم وتنجح في خلق تسلسل يأخذ منحنيات دراميّة، فهي ما يمنح فيلم “باي باي طبريا” قيمته.
لا يسعى الفيلم في حكيه لاحتكار المُعاناة، ولا يحاول اللعب على فكرة واحدة يُمكن أن تكون مساحة آمنة لاستجلاب أحاسيس الشفقة والعاطفة، بل يتفرَّد بمادة فوتوغرافية ومصورة ولقطات أرشيفيّة وبعض الخواطر المكتوبة لرحلة حميميّة، تأخذ فعل الحركة والمُغادرة كتيمة أساسيّة للبقاء، فنصطدم بمفاهيم الإزاحة والتهجير والغُربة والاغتراب، ونغرق في حُمى الأحلام المُحققة، وأنصاف الأحلام التي ما زالت تطوف فوق سطح الذكريات.
تتبع لينا سويلم أربعة أجيال فلسطينية، بداية من أم علي، الجدّة الكبرى للمُخرِجة، وجدّة هيام عباس التي تقص حكاياتها كأنها موازاة لحكاية فلسطين الأرض، فذكر أم علي مقرون بالنكبة والتهجير والنزوح إلى “دير حنا” مع أولادها الثمانيّة، ثم يبدأ سيناريو التقسيم، الذي لم يطل الأرض فقط، بل طال الأبناء كذلك لتنزح “حسنية”، إحدى البنات إلى سوريا، بينما بقي الآخرون في دير حنا، لتبدأ دائرة أخرى من الشقاء لتربية الأولاد، خصوصًا بعد موت الأب حسرة على حياته وأرضه وهويّته المسلوبة، ليفارق الحياة ويترك الأم وحيدة مع ماكينة خياطة، تنجح من ورائها في تربية الأولاد وتمرير الذكريّات إلى الجيل التالي المتمثل في جدة لينا “نعمات”، وهي الحلقة الأكثر تأثيرًا في سرد الفيلم، لأنها تأخذ مساحة كبيرة من السرد كنُقطة اتصال بين جيلين مُهمين: جيل الجدة، أم علي، التي واجهت التهجير الأول مع النكبة والتقسيم، والأم هيام عباس التي وجدت نفسها في مواجهة سبيل آخر من الاغتراب وإعادة تشكيل الهوية. وما بين الجيلين يقع تاريخ لا يمكن نسيانه؛ تقع ذاكرة فلسطين كمكان يرصد الفيلم تحولاته من خلال ذخيرة من اللقطات المصورة والصور الفوتوغرافيّة.
استهلاليّة الفيلم ذاتها تتماس مع طبيعة المكان الجغرافية، حيث تسبح لينا وأمها هيام في بحيرة طبريا. ذلك النوع من اللقطات يتعاطى مع المكان كطبيعة سائلة فوق مادية، كذاكرة تربط الأجيال المتعاقبة بالمكان، لتنقل للمشاهد ذخيرة شعورية يضيف إليها ما للطبيعة المشهدية من تأثير على مساحة التأويل والمجاز، فرُبما من أجل هذه اللقطة بالذات، استوعبت لينا وتشرّبت مياه بحيرة طبريا، لتعود مرّة أخرى وتخلق بُحيرة من الذكريات، يغرقون فيها هي وعائلتها، ويستسلمون لإغراءات الذكريات، إلى حد فُقدان الوعي، ومع كُل استفاقة تصادم بين عينين، بين شخصيتين، بين ذاكرتين، وفي كُل هذه المساحات ينبُت سؤال عن الهويّة، من أنا؟ فعلاقة “نعمات” بابنتها “هيام” ووالدها علاقة شائكة، فهيام فتاة مُرتبكة في علاقتها بالمكان، ومتمردة مع علاقاتها بنفسها، وكما كُل الفلسطينيين ولِدت متغرِّبة ومُغتربة، مُطاردة بخيالات تحقيق الذات بينما تحمل داخلها الحنين إلى الأرض، فتُقرر هيام المُغادرة لتلاحق أحلام تحقق الذات الفنية، وتنشطر بين عالمين: عالمها الأوليّ المنهوب الذي – رغم ذلك- يمنح بكُل جوارحه، وعالمها التالي المُركب الذي يعطي بقدر ما يأخذ.
عملت نعمات – أم هيام عباس- معلمة وربت عشرة أطفال مع زوجها. ومن خلال الفوتوغرافيا ولقطات الفيديو، تختبر لينا شعورًا استعاديًا، فهي تُعيد خلق شجرة العائلة أمام عينيها بالمعنى الحرفي، تخلق أحجيّتها الخاصة وتجمع أركانها لتبدأ الأم هيام في التجرد بشكل كامل من كونها ممثلة شهيرة، وترجع إلى حقيقتها الأوليّة كفرد في عائلة مفعمة بالحُزن والحيوية، لتنشأ علاقة مُكاشفة بينها وبين الكاميرا، فتتعرى بشكل شبه كامل أمام أعين المشاهدين، حياتها وطموحاتها وعلاقاتها بأمها واخوتها، شعورها تجاه الوطن وتجاه نفسها، وطريقها نحو الاستقلال بحياتها.
لا تكتفي المخرجة بذلك، بل تُعيد تمثيل مواقف حقيقية، لتُضيف من خلالها للفيلم نوعًا من الطرافة، إلى أن نصل إلى اللحظة التي تؤسس لها المخرجة، حيث يجب للمرء أن يترك كُل شيء وراءه ويغادر، ولكنه حتمًا سينظر للوراء وتداهمه مشاعر مختلطة بالندم والحنين والسعادة والحُزن.
في “باي باي طبريا” تُقدم لينا مرثية للماضي، لكنها في نفس الوقت تحتفي به، سواء على المستوى التاريخي أو الذاتي، وفي ممرات الأجيال يبدو أن كُل شيء تغير من جيل إلى آخر، ولكن الحقيقة هي أن شعوري الانتماء والاغتراب نفسيهما يتجددان بطريقة سحرية، وإلى الأبد.
اقرأ أيضا: «ماء العين»… أن تفسد الطبخة في فصلها الأخير