فاصلة

مقالات

«ثلاثية الحياة لبازوليني»… المتمرد والخارج عن المألوف

Reading Time: 9 minutes

بالنسبة لأجيال من القراء العرب، تبدو تجربة استكشاف “ألف ليلة وليلة” الحقيقية خبرة جمعية، تشاركها مئات – وربما آلاف- البشر بالصورة نفسها: الافتتان بالنسخة الرسمية للعمل الكلاسيكي، المسموعة والمتلفزة والمنشورة في القنوات الشرعية، بما فيها من خيال شاسع وإحكام قصصي وإدراك مبكر لفكرة “التعلق بالحافة cliff-hanging” التي صارت قرينة بكل أشكال الدراما المرتبطة بالتشويق والإثارة. ثم تأتي مرحلة الصدمة والاستنارة عندما يكتشف القارئ/ المُشاهد/ المُستمع أن عمله الأثير لم يكن إلا نسخة معالجة بأكثر صور الرقابة قسوة وتعسفًا، حُذف منها كل ما يخرج عن المألوف والتقاليد والأخلاق الشائعة، بهدف بلوغ نسخة ظلت -على قدر ما تعرضت له من تشويه وتدجين- قادرة على إثارة الدهشة ونيل الإعجاب.

تجربة الانفتاح على النسخة الأصلية ظلت مقترنة بمزيج من الصدمة والدهشة واللذة المختلسة، واكتشاف أن النص ذي الهالة التي تكاد تلامس القُدسية، هو في حقيقته أقرب للبشرية منه لأي شيء آخر، وأن المادة الخام التي تحرك أغلب جوانبه تقوم على نزق المحبين والعشاق، على ألاعيب الجنس والخيانة، على ما يجعل البشر بشرًا ويثير حفيظة مقدمي الدرك ومحتسبي الأخلاق ممن يخل “النص الخارج” بتوازنهم فيدفعهم لقمعه وكبته وتهذيبه، بدون أن يكون هناك معيار واضح يضع حدودًا فاصلة بين “الخارج” و”المقبول”.

قد تبدو المقدمة السابقة بعيدة بعض الشيء عن موضوع المقال، أو قد يظن البعض أنها مدخل لتحليل معالجة بيير باولو بازوليني السينمائية لألف ليلة وليلة أو “الليالي العربية” كما تُعرف في الغرب، لكن الأمر في الحقيقة أبعد قليلًا، يتعلق بما فعله بازوليني في ثلاثيته المعروفة بلقب “ثلاثية الحياة The Trilogy of Life”، والتي تعامل فيها مع ثلاثة نصوص شعبية تجمعها السمات المميزة لألف ليلة وليلة: الإسهام الجمعي والتراكم التاريخي والتداخل القصصي. 

الثلاثية بدأت بفيلم “الديكاميرون The Decameron” (1971) المأخوذ عن مجموعة حكايات شعبية صاغها الشاعر الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو في القرن الرابع عشر، ثم تلاه “حكايات كانتربري The Canterbury Tales” (1972) المأخوذ عن كتاب تشوسر الحامل للاسم نفسه والمكتوب على نمط الديكاميرون كمجموعة من الحكايات الشعبية الطريفة والبذيئة التي يرويها مجموعة من الحجاج، وصولًا لاستكمال الثلاثية بفيلم “الليالي العربي Arabian Nights” (1974) المأخوذ عن ألف ليلة وليلة، العمل الذي لا يملكه مؤلف واحد؛ وإنما صاغه الخيال الجمعي لسكان منطقة الشرق الأوسط.

بازوليني

البحث عن جوهر الرؤية

بالإمكان إيجاد رابط واضح بين الأعمال الأدبية الثلاثة، لكن ما يهمنا هنا ليس ما يجمع هذه الأعمال بشكل مجرد، وإنما ماذا وجد فيها فنان وشاعر وروائي وفيلسوف مثل بيير باولو بازوليني؟ ما سر افتتانه الذي جعله يكرّس أعوامًا من حياته لمعالجة تلك الأعمال، وتقديمها بدأب وتواصل جعلها العمل الفني الأكثر اكتمالًا في حياته القصيرة الحافلة بالمغامرات الفنية والفكرية؟

الإجابة بالنسبة لأي فنان سينمائي تقليدي قد تكمن في كون النصوص الثلاثة مادة خام لا تنضب للحكايات: عدد لا نهائي من الشخصيات والمواقف والقصص التي تتداخل مع بعضها لتشكل عالمًا كاملًا، مع ظهور واضح لما يُسمى بنموذج العلب الصينية أو الدُمى (العرائس) الروسية “الماتريوشكا Matryoshka”، حيث توجد داخل كل علبة أو دمية نسخة مصغرة منها. ويعادل ذلك في الأدب القصص التي تُفضي لبعضها البعض، فتبدأ قصة وقبل أن تنتهي تقودك للأخرى التي تأخذك لثالثة، وهو بالضبط النموذج الذي قامت عليه خدعة شهرزاد للاحتفاظ باهتمام شهريار قائمًا ليلة بعد ليلة، لتضمن بقاءها على قيد الحياة طالما لم تنته الحكايات. هذا النموذج يمتلك قدرًا هائلًا من الجاذبية، وكثير من المؤلفين يُسيطر عليهم الهوس به وتظهر آثاره في أعمالهم حتى وإن لم ينتبهوا.

إلا أن بازوليني ليس مجرد فنان آخر، ولا يمكن الاكتفاء بجاذبية القصص المتتالية والمتداخلة لتكون المحرك الرئيسي لافتتانه بنصوص ثلاثية الحياة. صحيح أنه يوظف تلك التقنيات في الأفلام بشكل أو بآخر، ولكنه يفعل ذلك برغبة ملموسة في الابتعاد عن التعقيد غير المفهوم، فيضع إطارًا واضحًا للحكايات، بحيث يُمكن التعامل مع كل فيلم باعتباره أنطولوجيا Anthology مكوّنة من عدة حكايات يربطها رابط ما، بل يُمكن مشاهدة أغلب هذه الحكايات بشكل منفصل فلا يقل التأثر والانبهار بها، بينما تُراكم مشاهدتها معًا شعورًا متصاعدًا يبلغ ذروته بالوصول لنهاية الفيلم. ويكفي للتوكيد على رغبة التبسيط أن “الليالي العربية” يستغني كليًا عن شخصيتي شهرزاد وشهريار وقصتهما المؤسسة لليالي والموصلة بين الحكايات.

بازوليني

الحرية والتمرد: أهداف كبرى

إذن فما إجابة السؤال الذي طرحناه؟ ما الذي يجعل “الديكاميرون” و”حكايات كانتربري” و”ألف ليلة وليلة” جذابة بهذه الصورة لفنان استثنائي، بعيدًا عن قوالبها السردية المدهشة بالنظر لزمن كتابتها؟ 

الإجابة في تقديري تكمُن في الشعور الواضح بقيمتي الحرية والتمرد اللتين يمكن اعتبارهما العنوانين الأبرز لثلاثية بازوليني. 

نبدأ بالحرية، هذه نصوص حرّة تمامًا، صاغتها العقول بشكل جمعي وتناقلتها من جيل إلى جيل (وإن كان للنص مؤلف معلوم كما في الحالتين الإيطالية والإنجليزية). قصص لم تُكتب في بلاط النُبلاء ولم تُصَغ لتسلية أحد السادة، وإنما ابتكرتها قريحة سُكان الأزقة الصغيرة والقرى النائية، قصص لا تُحكى من وجهة نظر الملك الذي يحكم بقطع رقبة أحد الفاسدين، ولا من وجهة النظر الجلاد الذي يُنفذ الحكم في قلب الميدان، وإنما تروى من عيني الفقراء المحتشدين لمشاهدة الإعدام من دون أن يملكوا قدرة على إيقافه أو تغييره، لكنهم يملكون القدرة على سرد القصة نفسها من زاوية أخرى، ساخرين من الحُكم ومن صاحبه ومُنفّذه، وربما محولين الضحية إلى أسطورة تدخل التاريخ من باب الصعاليك والشطار ممن يؤرقون مضاجع السادة ويهزون عروشهم.

يقودنا هذا إلى العنوان الثاني وهو التمرد، فأحد الأفكار الرئيسية التي تُكرسها ثلاثية بازوليني، بل وتكرسها مسيرته الفنية والشخصية بشكل عام، هو رفض القيود السائدة والأخلاق الراسخة، سياسية كانت أو دينية أو جنسية، فبازوليني الذي كان مثليًّا ماركسيًّا معارضًا للسلطات الدينية والثقافة الرومانية بشكل معلن، والذي مات قتيلًا بعد إنجاز “الليالي العربية” بشهور في حادث لا تزال تفاصيله وظروفه غامضة حتى يومنا هذا، قام في الثلاثية الفيلمية بجمع واختيار كل ما يمكن اعتباره نقدًا وسخرية من رموز القيم السائدة، وانتصارًا لروح النزق والتمرد والخروج عن المألوف، أي إنه قام بالضبط بعكس ما قامت به كل النسخ الرسمية من “ألف ليلة وليلة”، فبدلًا من التمسك بالحكايات شكليًا والانبهار ببنائها الدرامي وحده، وتفريغها من كل ما هو شائك وخلافي ومثير للجدل؛ تبدو معالجته قفزًا حرًا داخل الممنوع والمرفوض، قفز يُقدّر الإنجاز السردي للنصوص الكلاسيكية ويحترمه قدر الإمكان، لكنه ينشغل بما هو أهم: بجوهر هذه النصوص وقدرتها على الاحتفاظ بنفس الأثر اللاذع والمثير للغواية بعد قرون من تأليفها.

بازوليني

المدهش أن عالمنا اليوم، وبعد مرور نصف قرن بالضبط على اكتمال الأفلام، يظل جامعًا نفس التناقضات المؤسسة لثلاثية بازوليني: فمن جهة، نجد الوضع المتأزم يدفع السلطات في كل مكان لمحاولة إسكات الأصوات النزقة والخارجة عن المألوف بحجة أهمية التكاتف لعبور الأزمات، ومن جهة أخرى توقد محاولات الإسكات تلك شرارة المزيد من النزق والسخرية وغواية النكتة والمقلب واللذة المخطوفة خطفًا.

 نحاول هنا إعادة النظر إلى ثلاثية الحياة، محاولين الربط بين أجزائها والإشارة للكيفية التي قدّم بها بازوليني هجاءه للسلطات السياسية والدينية والجنسية في الأفلام الثلاثة، وكأنها رسالة تصلنا من فنان رحل عن عالمنا منذ عقود، لكنه لا يزال قادرًا على إرسال رسائله اللعوب المدغدغة لكل ما هو طريف وحر ومنخرط في الحياة داخلنا.

في ذم السلطة والثروة

تبدأ الثلاثية في “الديكاميرون” بحكاية افتتاحية تُجسد موقف بازوليني من السلطة والثروة، متمثلة في التاجر الآتي من بيرودجا (حيث المال والمكانة) إلى نابولي في الجنوب كي يشتري أحصنة. الفيلم بأكمله تم تصويره بلهجة نابولي، وهي لهجة الفقراء الذين يتعامل معهم سكان الشمال بكثير من الاستعلاء. واختيار اللغة واللهجة عنصر بالغ الأهمية في أعمال بازوليني عمومًا، وهو من اختار أن يكتب مجموعته القصصية “قصص من مدينة الرب Stories From the City of God” باللغة الفيريولية Friulian التي لا يتحدثها إلا قرابة 600 ألف أغلبهم يعدونها لغتهم الثانية بعد الإيطالية.

التاجر يصل المدينة حاملًا المال وكثير من الغرور، لكنه سرعان ما يقع تحت أيدي عائلة تقوم بالنصب عليه والاستيلاء على أمواله ثم إلقاءه داخل حوض من النفايات البشرية. يؤسس المخرج هنا من البداية أكثر من قاعدة، على رأسها النبرة العامة للثلاثية، والتي تمزج بين جدية الحدث وخفة التناول، والتصالح مع ارتكاب بعض الجرائم والمخالفات القانونية طالما أشبع ذلك رغبة ما في التمرد وكسر غرور السادة، يؤسس كذلك للموقف من الأثرياء ورجال السلطة طالما ظلوا داخلها، أما التاجر الذي فقد ماله وملابسه واحترامه فقد تحول بذلك إلى طائفة من يحبهم الفيلم، ليقوم في الحكاية التالية بالانتصار لنفسه بشكل ما عندما ينجح في استغلال الظروف ليخرج من موقف صعب وقد حصل على خاتم ثمين.

بازوليني

من أبرز الحكايات الدالة على الموقف من السلطة حكاية التاجر الثري في “حكايات كانتربري”، والذي يتزوج شابة جميلة فقيرة على عكس رغبتها، فيأتي له الفيلم سريعًا بلعنة تصيبه بالعمى، لتمارس الزوجة حريتها الجنسية باطمئنان، وعندما يعود البصر لزوجها فجأة ويراها خلال علاقة، تنجح في خداعة وإقناعه أن ذلك لم يحدث وأنها مجرد ضلالات خُيّلت لها أثناء استعادة بصره.

أما الموقف الأكثر وضوحًا مع أصحاب السلطة فيظهر في نفس الفيلم مع حكاية الموظف الحكومي الذي يكتشف علاقة مثلية، لكنه يقبل رشوة من الطرف الثري فيتجاهل إدانته، بينما يعجز الفقير عن دفع الرشوة فينتهي الأمر بإعدامه علنًا بتهمة الفجور، وإذا كانت التهمة توجه فقط لمن لا يملك ثمن شراء نجاته، فهذا وحده كفيل بتقويض فكرة العدالة والطعن في أن السلطة تعتقد حقًا أن ما حدث جريمة تستحق العقاب.

بازوليني

رجال الدين في مرمى النيران

نلاحظ في الثلاثية صورتين متكررتين لرجل/ سيدة الدين (المسيحي غالبًا بحكم سياق الفيلمين الأول والثاني)، فهناك صورة من يتظاهر بالطهرانية والتبتل علنًا لكنه يستجيب لرغباته سرًا، كما نشاهد في “الديكاميرون” عندما يتظاهر شاب بالصمم ليعمل في أحد الأديرة، فيصبح هدف كل الراهبات اللائي يتوافدن على كوخه لممارسة الجنس معه مطمئنات لأنه لن يتمكن من الرفض أو الحكي، أو السيدات المتدينات (المحجبات) اللاتي تربطهن علاقة مماثلة بالشاب نور الدين بطل “الليالي العربية”. يجدر القول هنا بأن هذه الصورة لطيفة وإنسانية، لن تثير حفيظة أي شخص سوى المتشدقين بالأخلاق، بينما يتعامل الفيلم مع هؤلاء الأشخاص (وهن من النساء غالبًا) بكثير من المحبة وخفة الظل وتفهم المأزق الطريف؛ فهن في النهاية بشر لديهن حاجات جسدية لكنهن مضطرات لكبتها والتظاهر بغيابها.

بازوليني

الصورة الثانية تتعلق بالجشع والرغبة في جمع المكاسب المادية على حساب سعادة الآخرين، اعتمادًا على الكذب وتوزيع صكوك الغفران، وهي الصورة المتكررة التي تبلغ ذروتها مع الحكاية الختامية لفيلم “حكايات كانتربري”، التي تبدأ براهب يزور ثري على فراش الموت محاولًا إقناعه بأن يهب ثروته للكنيسة كي يضمن الخلود، فيخدعه الرجل الموشك على الرحيل ويقربه منه ثم يُطلق ريحًا في وجهه! لا ينتهي الأمر هنا، بل يكمله بازوليني بأحد أكثر صور الثلاثية غرابة وخلودًا، بالانتقال للجحيم الذي كان الراهب يحذر الرجل منه، لنجد الشيطان يخرج من مؤخرته سيلًا من الرهبان الذين استغلوا مكانتهم لابتزاز البشر.

صورة صادمة ومثيرة للجدل يصعب أن تخرج من ذهن من يشاهدها، يتجسد فيها موقف الثلاثية وصانعها، وأيضًا ذائقة الكوميديا فيها والمعتمدة بشكل كبير على تفاصيل معوية قد يراها البعض مثيرة للتقزز. الخط الذي سيمده بازوليني لاحقًا لأقصى حدوده في آخر وأجرأ أفلامه “سالو أو 120 يومًا من سدوم Salò, or the 120 Days of Sodom” الذي أنجزه بعد الثلاثية، ولا تزال بعض الأساطير تربط بينه وبين مقتله حتى الآن.

بازوليني

الجنس.. الحرية وسيلة وغاية

نصل إلى الفكرة المركزية في الثلاثية، وربما مصدر الجذب الأوليّ للكثير من عوام المشاهدين، وهي افتتان بازوليني بقدر الحرية الجسدية التي تظهر جلية في النصوص الثلاثة، والتي أجاد المخرج الموهوب تجسيدها في صورة أكثر فهمًا لجوهر تلك الأعمال، تهضمها وتربطها بثقافة اللحظة الراهنة عالميًّا، حيث كان العالم في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات يعيش ذروة ثورة الشباب في كل مكان، والتي ارتبطت بثورة جنسية تتمرد على التقاليد البطريركية التي سادت قرونًا، مؤكدة على قيمة الحرية الفردية، وعلى اختلاف الميول بين البشر، وعلى إمكانية التعامل مع اللذة الجنسية باعتبارها شيء لذيذ يمارسه البشر على هامش حياتهم بانفتاح من دون منحه قيمة مركزية. وكثير من الأفكار الشبيهة التي سادت لاحقًا في أغلب بقاع العالم المتحضر، بل وصارت في بعض البلاد مقننة ومحمية بقوة القانون.

لاحظ أن أغلب الحكايات التي ذكرناها في المبحثين السابقين حول علاقة الثلاثية بالسلطة والدين تتعلق أيضًا بالجنس بشكل أو بآخر، فصاحب الثروة يجبر الفتاة على الزيجة فتتلاعب برغباتها بعد عماه، وصاحب السلطة يطبقها على المخالفين للمعايير الجنسية القانونية (فقط لو كانوا فقراء)، والراهبات تحركهن رغباتهن الجسدية المكبوتة، وهكذا. 

إلا أن كثيرًا من حكايات الأفلام تتعلق بالجنس وحده، وبلذة اختلاسه التي توازي في كثير من الحالات لذة ممارسته. ففي “الديكاميرون” نجد حكاية العشيق الذي يختبئ داخل قِدر “زلعة” ويتلاعب مع الزوجة بزوجها عندما يتظاهر بأنه مشتري يريد شراء القطعة فيدخل الزوج لتنظيفها بينما العشيق يمارس الحب مع الزوجة خارجها، وهي حكاية مقاربة جدًا للطالب الذي يتظاهر بالقدسية ويخدع زوج المرأة التي يحبها، فيقنعه بحلول طوفان ضخم، ويجعله ينام داخل دلو كبير معلق يحميه من المياه التي لن تأتي بينما يمرح الشاب مع زوجته. التقارب الشديد بين الحكايات (ومثيلاتها في ألف ليلة وليلة) يكشف عن قدر التقارب بين خيال الشعوب، ويمنحنا أسبابًا أكثر نفهم من خلالها علاقة بازوليني بنصوصه.

الجنس في الثلاثية لا يقتصر على الخيانات الزوجية، بل يمتد بالطبع لعوالم المثلية في حكايات كثيرة منها المثلي الذي يشعر بالذنب قبل موته لكنه يتحول بصورة ما قديسًا يُجلّه من حوله في “الديكاميرون” وشخصية الشاعر المحب للشباب اليافع في “الليالي العربية”. يمتد أيضًا إلى المرأة العجوز الشبقة جنسيًّا والتي تنتقل من زوج شاب إلى آخر في “حكايات كانتربري”، والتي رغم موتها في نهاية الحكاية فإن الفيلم ينتصر دراميًا لها ولسعيها الدائم لإشباع رغباتها طالما قامت بذلك بدون الإضرار بالآخرين.

الثلاثية تمر أيضًا على فكرة اكتشاف الجنس للمرة الأولى ولذة حب المراهقين، مثل حكاية العاشقين الشابين الذين يتلاقيان في سرير الحديقة في “الديكاميرون”، أو في تحدي وقوع شاب وفتاة يتقابلان للمرة الأولى في الحب والرغبة والذي يمثل نقطة مفصلية في دراما “الليالي العربية”

يمكننا الاستمرار طويلًا في ضرب الأمثلة التي تؤكد رغبة بازوليني في الانتصار للإنسانية، برغباتها وضعفها وقدرتها على التمرد والخروج عن المألوف، لكن ليس هناك ما يمكن أن يوضح هذا الذنب سوى الحكاية الختامية في “الديكاميرون”، والتي يخوض فيها أصدقاء جدلًا حول شرعية ممارسة الجنس، فيعد أحدهم بأن يصل للحقيقة عندما يموت، وبالفعل يموت ثم يعود شبحه سعيدًا ليوفي بعهده ويؤكد للجميع أنه تأكد من كونه “ليس ذنبا”!

أعلم جيدًا أن كثيرًا من كلمات هذا المقال قد يكون صادمًا أو مستفزًا لبعض القراء، لكنها تبقى مجرد كلمات لا توازي أثر مشاهدة ذلك على الشاشة، لذلك وكما نحتفظ داخل نفوسنا بأثر لحظة اكتشاف حقيقة كون “ألف ليلة وليلة” مختلفة عن الحكايات المهذبة المرويّة بصوت زوزو نبيل وتمثيل شريهان، فإنني -وكثيرين مثلي- ندين بالفضل للفنان الاستثنائي بيير باولو بازوليني الذي سمح لنا باختبار لذة سينمائية لا تُشبه غيرها.

اقرأ أيضا: جورج لوكاس… «المهووس» الذي غيّر وجه السينما الأميركية

شارك هذا المنشور