لو أن هناك سينمائي واحد يمكن وصف سينماه بأنها تحتفي بالجمال، فسيكون الإيطالي “باولو سورنتينو”، المتوج بالأوسكار عن “الجمال العظيم” `The great beauty في 2013 والذي عاد لمهرجان كان هذا العام بفيلم “بارتينوبيه” Parthenope الذي عُرِض ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان.
بارتينوبيهيقتبس اسمه من أسطورة شهيرة، عن حورية تنهي حياتها غرقاً بسبب فشلها في سحر “أوديسيوس” بأغانيها. تنتحر جميلة الأسطورة حينما تجد أن جمالها لم يعد ساحراً، أما الفيلم فينقل لنا رحلة امرأة من مدينة نابولي التي حملت قديما اسم تلك الحورية، ونرى حيرة البطلة التي تحمل الاسم نفسه بين جمالها الساحر ورغبتها في أن تُرَى لذكائها وليس فقط لأنوثتها.
كيف تصلح حكاية “بارتينوبيه” كصورة معاصرة عن الأسطورة؟ وكيف يمكننا قراءة فيلم سورنتينو الأول الذي يدور عن رحلة “إمرأة”؟
يختار سورنتينو لحكايته بطلة شابة تقوم بدورها الإيطالية “سيليستي ديلا بورتا”، تملك بارتينوبيه/ سيليستي جمال ساحر لكنه أيضا غير تقليدي بمقاييس الجمال الغربية، تبتعد بارثينوبي عن معايير جمال الشماليين، فلا تملك شعرا أشقر أو عيونا زرقاء، لكنها تمتلك جمال جنوبي بامتياز، شعر وعيون داكنة وجسد تعود على أشعة الشمس على شاطئ البحر المتوسط.
يتتبع فيلم سورنتينو هذه الفتاة الجميلة التي تحمل اسم يربطها بشكل حرفي بمدينتها “نابولي” منذ ميلادها داخل البحر، وكأنها عُمِّدت لتغدو حورية البحر في عصرنا، ثم مراهقتها وشبابها قبل أن نراها سريعا قبيل نهاية الفيلم وهي في فترة الكهولة.
يستكشف سورنتينو من خلال السرد عن طريق الصورة جمال بارتينوبيه الذي يكتمل شيئاً فشيئاً، وتدركه هي شخصيا مع مرور الوقت، جمال يزيد إشراقا في المشاهد الخارجية التي تظهر فيها “بارتينوبيه” وسط طبيعة نابولي الساحرة، وكأن كلا منهما يزيد من جمال الأخر.
يستمر سورنتينو في الفصل الأول من الفيلم في التحرك في بيئة يعرفها جيدا وتصبح مألوفة لكل محبي سينماه، مشاهد بين البحر، منزل إجازة الصيف مع العائلة والأصدقاء، الاستمتاع بالأكل الإيطالي سويا والسخرية على هامش الأحداث، لكن شخصيته الرئيسية النسوية هنا تنقل السخرية لبعد جديد في سينماه.
فبطلتنا “بارتينوبيه” تعتمد في رحلتها على صفة شخصية مميزة للغاية؛ أنها تستطيع دائماً الرد بتعليق سريع ساخر على من يناقشها، تثبت “بارتينوبيه” من خلال ذلك ذكاءها، لنفسها أولا قبل الآخرين، يبدو الأمر هاما للغاية لها، لأنها تريد أن يراها الناس ذكية قبل أن تكون جميلة.
سعيها نحو انتزاع الاعتراف بسحر ذكائها لا جمالها يجعلها تتورط في صداقة مضطربة مع الروائي “جون شيفر” الذي يقوم بدوره بمسرحية شديدة “جاري أولدمان” لتثبت لنفسها أنها تستطيع الحديث مع الأذكياء، وتبكي بحرقة بعد أن يصارحها رجل خابت آماله فيها بعد أن رفضت حبه بأنها ليست ذكية كما تعتقد.
تتحول “بارتينوبيه” مع مرور الزمن لنوع آخر من الذكاء، حينما تدرك أن جمالها أحد أدواتها التي يمكن أن تستخدمها، فتتلاعب بمن حولها من خلاله، ليصبح هذا هو وسيلتها لتثبت ذكاءها.
في الفصل الأخير من الحكاية يرسم “سورنتينو” علاقة صداقة صادقة تنشأ بين “بارتينوبيه” وأستاذها في الجامعة، علاقة لا يراها فيها الأستاذ كجسد جميل أو
أنثي يشتهيها، ولكن كابنة ذكية، ومعه تتحول “بارتينوبيه” لشخص أخر.
في “بارتينوبيه” يقدم سورنتينو رسالة حب جديدة لنابولي، تبدو كما لو كانت جزءًا ثانيًا من فيلمه السابق “يد الله” The hand of God. لكنها هنا تستمر كموسيقى خلفية لحكاية فتاة جميلة تستكشف أنوثتها وذكاءها، رسالة حب تخبرنا أن العلاقة بالوطن يختلط فيها الحب والكره، الرغبة في البقاء والتوق إلى الرحيل ثم الشوق إلى العودة. تعيش “بارتينوبيه” أجمل سنينها في “نابولي”، ترحل عنها للشمال حيث ما يعتبره كثيرون مكان تتاح فيه جودة حياة أفضل وأموال أكثر، هناك حيث يسخر الجميع من الجنوبيين، تجد نفسها شخصًا آخر.
ينتهي الفيلم بجماهير فريق نابولي لكرة القدم وهي تغني، النادي الذي فاز بالدوري الإيطالي في العام الماضي للمرة الأولى منذ أيام مارادونا في الثمانينيات، رغم الغياب لعشرات السنين عن منصة التتويج، لا تزال جماهير نابولي عاشقة لفريقها، يتحدثون عن جمال لا يراه أحد سواهم، هكذا هي علاقة سورنتينو بمدينته.
في الأسطورة تفضل “بارتينوبيه” الحورية الجميلة الموت على أن يرفض “أوديسيوس” سحرها، لكن في فيلم “سورنتينو” تستمر “بارتينوبيه” الإنسانة في الحياة، تختار أن تكمل حياتها كإمرأة ذكية ومثقفة تدرس الأنثربولوجي، وتستمر جماهير نابولي في رؤية جمالها حينما تعود، حتى بعد مرور الزمن، تماما كما يغنون لمدينتهم وفريقها.
اقرأ أيضا: «شرق 12» لهالة القوصي…كلّنا في الحلم شرق