قبل ثلاثة أعوام شاركت المخرجة السعودية الشابة جواهر العامري ضمن مجموعة من خمس مخرجات سعوديات شابات بفيلمهن «بلوغ» وذلك في افتتاح مسابقة «آفاق السينما العربية» ضمن فعاليات الدورة الـ43 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومرة أخرى تعود المخرجة الشابة إلى شاشة المهرجان الكبير مشاركة بفيلمها القصير «انصراف» (14 ق) ضمن مسابقة «سينما الغد للأفلام القصيرة» بالدورة الـ45 للمهرجان.
يمكن القول إن لدى جواهر ملامح مشروع سينمائي يتشكل على مهل، بالتجربة والمحاولة، وخوض المغامرة، في بلوغ المكون من خمسة أفلام قصيرة جدا، كان فيلمها يتحدث عن فتاة في العاشرة من عمرها تواجه أسئلة العالم الكبير الذي يتحدث عما ينتظرها عند تحولها من طفلة إلى امرأة فسيولوجيا، تعليقات ضخمة فوق طاقتها الاستيعابية تهيئ وجدانها الغض لما ينتظرها من (معاناة) و(مسؤولية) و(هم) شهري أو حياتي طول المدى!
في حين كانت عيونها تفضح حجم المأساة التي تتجسد من خلال التعاطي مع مسألة بيولوجية عادية على اعتبار أنها (أمانة) في عنقها ليوم الدين! بينما الأمر أبسط من ذلك بكثير، وفي الحياة والعالم أمور أكثر أهمية وقيمة وأهداف أكثر شمولية ورقي من مجرد هذه الدورة الطبيعية لكائن حي طبيعي مثل آلاف الإناث من مختلف الأجناس التي تدب على الأرض.
ما بين البلوغ والموت
في تجربتها الجديدة تعود جواهر للمنطقة التي استكشفتها في فيلمها الأول، بداية من المستوى الفكري أو النفسي وهو تعرض وعي هش في طور التشكل إلى سؤال وجودي يأخذ أكبر من حجمه بكثير بسبب فراغ العقول أو اتساع المسافة ما بين إدراك أهمية الحياة وبين المعاش فعليا، أو ما يتصور المجتمع أو أصحاب النفوذ النفسي والإنساني أنه الحياة كما يجب أن تعاش، والسؤال الإجباري الذي وضعوه هم أنفسهم بالنيابة عن السماء.
في فيلمها «انصراف» لدينا نفس الكتل تقريبا التي سبق وان احتككنا بها في «بلوغ»، الكبار أصحاب النفوذ والسلطة، والصغار الذين يحاولون التشكل بفطرة سليمة في علاقتهم بأسئلة العالم!
نحن في مدرسة كما يوحي العنوان نسبيًا، مدرسة فتيات في عمر المراهقة – يمكن تصور أن واحدة من بطلات الفيلم هي نفسها فتاة «بلوغ» قبل ثلاث سنوات ولكن هنا بعد أن صارت أكبر سنا بقليل وبدأت أسئلة وتعليقات وإملاءات جديدة تصك وجدانها-.
من خلال المعلومات المتاحة بشكل واضح وحواري صريح نفهم أن مجموعة طالبات المدرسة تعرضن إلى أزمة إنسانية ونفسية عنيفة إثر فقدهن لواحدة من زميلاتهن التي ماتت في حادث سيارة من شهر تقريبًا، وبالتالي ثمة حالة من الحزن القابض الثقيل تخيم على نفوسهن الرقيقة وتهلك وجدانهن الذي فاجأه أقسى يقين تواجه البشرية منذ الخليقة (كل نفس ذائقة الموت).
يتشابه هنا سؤال الموت (الكبير) مع سؤال البلوغ (الكبير) أيضا في الفيلم السابق لجواهر، ولكنها ضخامة مفتعلة، مزيفة، ليس لأن الموت أو البلوغ أمور هينة أو عادية ولكنها عناصر طبيعية ضمن دورة الحياة، الحياة التي تضم بلا شك عناصر وامور كثيرة جدا بجانب البلوغ والموت، بل أن يتضاءل بجانبها اسئلة الموت والبلوغ لان كلاهما أمور لا دخل فيهم لعمل الإنسان أو فعله او فعاليته في الحياة، على عكس عشرات العناصر الأخرى التي تستحق أن يتوقف أمامها الإنسان بالتفكير والتأمل والوعي والتنظيم والمشاركة.
يمكن هنا أن نتوقف أمام عناصر محددة مشتركة في تجارب جواهر:
أولا: شيوع الأسئلة الكبرى عن الحياة وحالة الضخامة المزيفة التي تنتجها عقول محدودة أو غير مهذبة حضاريا وفكريا بالقدر الكافي.
ثانيا: المرحلة العمرية التي تتحرك فيها شخصياتها وهي مرحلة البلوغ بمختلف طبقاتها النفسية واختلاف سنواتها الوجدانية.
ثالثا: المكان الواحد؛ حيث يدور كل من «بلوغ» و«انصراف» في مكان واحد فقط، الأول في بيت لعائلة تقليدية والثاني في مدرسة حكومية للفتيات وكلاهما امتداد للآخر لو حررناهما من الجغرافيا التقليدية ووضعناهما في سياق المجاز الاجتماعي والحضاري.
يمكن هنا أن نزيد على هذا العنصر ما سبق وأن ذكرناه من أن بطلة «بلوغ» يمكن أن تكون هي ذاتها بطلة «انصراف»! بعد أن تراكمت عليها سنوات من العمر وأصبحت مراهقة أكثر حدة وصلابة في مواجهة حالة التضخيم المزيفة للأسئلة وسياقات الحياة، وبالتالي أصبح لديها القدرة على أن تقاوم هذه الحالة بالاعتراض والفضح والمقاومة أو حتى بغناء أنشودة الرثاء الخاصة بزميلتها المتوفاة والتي كان من الممكن بقليل من الاحتواء كما رغبت واحدة من المدرسات أن يتم تلاوة الأنشودة في الإذاعة المدرسية بدلا من اقتراح المدرسة الأخرى (الأكثر تشددا ورمز زمن الصحوة بكل أدرانه) أن تتحول فقرة الإذاعة والنشاط الاجتماعي إلى محاضرة حول كيفية تكفين الموتى، وجلب واحدة من الفتيات – الهشات جدا- لتصبح (موديل) لما ينتظرهم جميعا من تمدد على طاولة الغُسل والاستسلام للحنوط والقطن وطبقات الكفن الكئيبة الملوثة بالتدين الزائف.
يتفتحن!!
في اللقطة الأولى من انصراف تقدم لنا جواهر نظرة علوية من زاوية (عين الإله) المعروفة، ذات الدلالات العديدة جدا خاصة في افتتاحية فيلم يتحدث عن (تفضيل الموت كتقوى أم الحياة كوجود حي مفعم بالروح والمحبة).
من زاوية اللقطة العلوية نشاهد مجموعة فتيات المدرسة وهن يخلعن الحجاب والعباءات بالتوازي والتتابع وكأنهن يتفتحن، أو يخرجن من أسفل أثقال القماش الأسود المشحون بالرمز الواضح، ثم يقف مرتديات زيهن الأخضر الزيتوني مثل وردات جميلة، على وشك الإشراق.
يمكن اعتبار اللقطة الأولى مقياس مهم في جودة بناء أي فيلم، عبر التوقف أمام أي مشهد أخر في سياق الشريط أو لحظة درامية مهمة وتحسس الرابط العضوي والبنائي بينها وبين اللقطة الأولى أو المشهد الأول من الفيلم، بل إن المظاهرة الرمزية التي ينتهي بها الفيلم عقب تمرد الفتيات وإعلانهن رفض الأسلوب غير التربوي الذي يتم من خلاله تلقين حب الموت كجزء من تقوى النفوس بدلا من محبة الحياة من أجل إعمارها بالروح، نقول إن المظاهرة الرمزية الأخيرة التي تحاول المدرسات التصدي لها بطفايات الحريق – كرمز لمحاولة إخماد نار الفتنة كما تراها إدارة المدرسة- هي نفسها على المستوى المجازي والنفسي والدرامي لقطة خلع الحجاب والعباءات والتهيؤ لتلاوة الأنشودة التي ترثي الرحيل المبكر وتعبر عن الحزن الشفاف الذي مزق حريره الحاد نفوس زميلات الطالبة الراحلة.
ربما يفتقد «انصراف» إلى ميزتين توفرتا في تجربة «بلوغ» وغابتا هنا نسبيًا:
الأولى: هي الأداء التمثيلي الجيد للشخصية الرئيسية، صحيح أن العمل ككل هنا تبدو له البطولة الدرامية، ونعني به الحدث الذي يتم فيه اختيار فتاة لتمثل دور جثة بدلا من أن نتركها تغني رثاءً لزميلتها الراحلة، ومن ثم تُصاب بحالة هلع شديدة تفقد على أثرها الوعي فلا نعود نعرف هل أغمى عليها أو رحلت هي الأخرى!
ولكن يفتقد الأداء التمثيلي لشخصية الطالبة المتمردة -التي ترسم على يدها خريطة السماء كأنها تبحث بين النجوم على روح صاحبتها الراحلة- الكثير من الطبيعية والتلقائية والإتقان، رغم أن عينيها تتحدثان بقوة وتعلنان عن كل ما يعتمل في داخلها ودواخل كل زميلاتها، بل يمكن الجزم بأنها (ليتها ما نطقت) لأن ما تحدثت به سواء على مستوى الأداء أو الحوار ساذج ومفعم بالطفولية، كأننا في مشهد لمسرحية مدرسية تعليمية.
الثانية: هي الخروج المقصود عن الخط الواقعي وتحويل فينال الفيلم إلى مظاهرة رمزية بتلاوة الأنشودة – تعقبها أغنية طويلة في التيتر بنفس المعنى والمجازات تقريبا- وتصدّي المدرسات لهذه المظاهرة الرمزية بطفايات الحريق كما أشرنا في ترميز واضح لفكرة إخماد نار الفتنة!
هذا الخروج عن أسلوب الفيلم الواقعي جدا من البداية حول دفة التلقي من الاستغراق الواعي وغير الواعي في الأزمة إلى مجرد التعاطف والتشجيع، والعديد من صناع الأفلام في تجاربهم الأولى يقع في نفوسهم الظن بأن الرمزية الاحتفالية أو الاحتفائية تولد شعور ملحمي ضخم لدى المتلقي خصوصا في الفينال، لكن في الحقيقة فإن هذا النوع من التضخيم أو الشعاراتية خصوصا عقب الإيهام الواقعي جدًا يخلق صدمة تفصل وعي المتلقي عن قيمة العمل الأصلية وتزيحه نحو حالة نشوة مؤقتة أو حماسة عابرة، في حين أن المحافظة على شخصية الفيلم النوعية – خصوصا في التناول الواقعي الجاف والخشن كما صاغت جواهر متن التجربة الأساسي- يخلق أثر أكبر بكثير ويمد خط السؤال من الشاشة إلى صالة العرض ويراكم الشعور بالاستفزاز أو القلق المستحب عقب هزات الوعي التي تنتجها القصص المروية بعناية أسلوبية ناضجة وهادئة ودقيقة.
نعود في النهاية للتأكيد على أن جواهر العامري ومجمل جيلها من صانعات الأفلام السعوديات/العربيات الشابات هن بالفعل مكسب حقيقي لشرايين صناعة السينما، سواء الوليدة في المملكة، أو مترامية الإنتاجات على المستوى الإقليمي والدولي، وبالتالي كل تجربة لها تستحق الاحتفاء بالقدر الذي يمنحها ثقة الاستمرارية، ويهدئ من روعها الإبداعي قليلًا بالنصيحة، وتحليل مشروعها العام، الذي يتشكل بوهج وحماس.
اقرأ أيضا: «موندوف»… حكي وثائقي عن ريف لبنان القاسي