فاصلة

مراجعات

«الوحشي»… طريق أدريان برودي إلى أوسكار ثانية؟

Reading Time: 3 minutes

في عام 2002 نجح أدريان برودي في اقتناص جائزة الأوسكار عن دور البطولة في فيلم رومان بولانسكي «عازف البيانو The Pianist». وسبق الأوسكار وتلاها عدة جوائز أخرى حصدها عن الدور نفسه الذي يصور رحلة نجاة عازف بيانو يهودي بولندي أثناء الاجتياح النازي.

والآن، بعد مرور نحو 22 عامًا من هذا النجاح المدوي، يعود برودي إلى الحقبة التاريخية نفسها ليلعب شخصية أخرى تعاني من أهوال الحرب العالمية الثانية في فيلم «الوحشي The Brutalist» للمخرج برادي كوربيت، والمعروض ضمن المسابقة الرئيسية للدورة الحادية والثمانين لمهرجان فينيسيا.

هذه المرة يلعب برودي دور لازلو توت، معماري مبدع يهرب من المجر إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، بينما تبقى زوجته هناك غير قادرة على اللحاق به. في الولايات المتحدة، يحاول توت البقاء على قيد الحياة، حتى تأتيه الفرصة لإعادة تقديم إبداعه المعماري على يد أحد الأثرياء فتتغير حياته تمامًا.

أدريان برودي من فيلم الوحشي
أدريان برودي من فيلم The Brutalist

لا يدخر المخرج جهدًا لجعل هذا العمل أقرب لملحمة، سواء بصريًا أو سرديًا، أو حتى من خلال مغازلة خيال المشاهد بإحالات لعدة لأفلام كلاسيكية، وذلك خلال مدة الفيلم الطويلة التي تصل إلى ثلاث ساعات ونصف الساعة. لكن العنصر الأكثر إثارة للدهشة في هذا الفيلم هو السيناريو. القصة التي ذكرناها في السطور السابقة، والتي تشبه بالفعل كثير من القصص التي خرجت من رحم مأساة الحرب العالمية الثانية، ليست قصة حقيقية على الإطلاق، فلا يوجد معماري بهذا الاسم، لكن السيناريو الذي كتبه كوربيت بمشاركة مونا فاستفولد، يصنع تفاصيل للشخصية وعالمها ولذلك الزمن بدقة ممتعة، حتى أننا نشاهد الفيلم مقسمًا لفصول من خلال سنوات محددة في مسيرة هذا الشخص. هذه السنوات بقدر ما كانت تماثل مراحل في حياة بطل الفيلم، فإنها أيضًا مراحل في تاريخ أمريكا الحديث.

مشهد من فيلم The Brutalist
مشهد من فيلم The Brutalist

على العكس من كثير من الأفلام الشبيهة التي تصور الولايات المتحدة كأرض للأحلام، وجنة الهاربين من جحيم أوروبا آنذاك، فإن «الوحشي» (إشارة إلى اتجاه فني معماري يحمل هذا الاسم) يقدم صورة ذات عمق أكبر، لعرض كيف فادت واستفادت أمريكا من هؤلاء المهاجرين. من خلال هذا التصور متعدد الأبعاد، نشاهد «أرض الأحلام والفرص» كيف تمد يدها بالفعل لـ توت في إحدى المراحل، وتسحقه في مرحلة أخرى. فالمهاجر الذي يعمل في منجم فحم ويبيت في مأوى للمشردين، يجد خلاصه في الثري هاريسون لي فان بورين (غاي بيرس)، ونلاحظ هنا اختيار الاسم الذي ينضح بأوروبية واضحة، لكن فان بورين الذي جاء واستقر في أمريكا في وقت سابق وصار من أصحاب الأملاك، يتعامل مع لازلو توت بطريقة معقدة، فهو يساعده ويمد له يد العون، لكنه في الآن ذاته يحتقره، يوظف موهبته، ولكنه في أحيان أخرى يبدو وكأنه فقط يستخدمه لتحقيق أهدافه. بورين يمكن أن يكون ممثلًا لأمريكا نفسها في مرحلة من المراحل.

في المقابل، ولأجل جعل الصراع أكثر إمتاعًا في الفيلم، نرى لازلو توت شخصية شديدة الشبه بالكثير من المبدعين الذين يمرون بتحولات ضخمة بين الثقة في الموهبة، واهتزاز الشخصية الذي يكون له تبعاته على جميع قرارته، بل ويؤدي به إلى الإدمان. هذه الشخصية المركبة في مقابل شخصية الثري المتحكم الذي يود التحكم بالأمور، تصنع تصاعدًا دراميًا تزداد جاذبيته حتى قبل الفصل الأخير تقريبًا.

لماذا قبل الفصل الأخير؟ لأن هذا الفصل أخذ الأحداث فجأة إلى اتجاه ميلودرامي، لم يحافظ على الاتزان الذي كان حاضرًا في فصول الفيلم السابقة، ويؤثر هذا على تتابعات النهاية كلها، والتي تقدم قفزة زمنية كبيرة غير مُقنعة بعد أن كنا نمشي مع الشخصية سنة بسنة طوال الفيلم.

مشهد من فيلم الوحشي
مشهد من فيلم The Brutalist

إن كنا تطرقنا إلى هذه التفاصيل والصراع، فإنه لا يمكن الكتابة عن الفيلم دون الوقوف عند الأداء شديد الحساسية الذي قدمه أدريان برودي. بداية من اللكنة شرق الأوروبية الواضحة في لغته الإنجليزية (والدا برودي تعود أصولهم لشرق أوروبا وتحديدًا المجر وبولندا)، مرورًا بالحفاظ الدقيق على نظرة انكسار ما في عينيه بينما يمر بأغلب الأحداث، إذ أن الشخصية لا تخلو من مرارة تحملها حتى في أكثر لحظاتها سعادة، وانتهاء بتقديم الانفعالات بشكل متزن دون مبالغات غير مطلوبة.

فيلم «الوحشي» من الأفلام التي يزداد الاستمتاع بها كلما عدنا للتفكير فيها وفي تفاصيل صناعتها. فإن كانت صناعة شخصية مثل هذه بكل تفاصيلها هي أمر صعب، فإن النجاح في نقل تفاصيل هذه الفترة الزمنية الطويلة بتغيراتها، مع الإبقاء على صورة شديدة الجمال هو أمر أكثر صعوبة، وحتى ينقل المزيد من الإحساس بالزمن، فقد صور برادي كوربيت فيلمه باستخدام خام VistaVision والذي جعل الصورة تنطق بالمزيد من التفاصيل التي لا ينقلها إلا التصوير على الخام، لا التصوير الرقمي.

اقرأ أيضا: «سودان يا غالي»… كيف يدفعك الانبهار بحدث إلى الفشل في قراءته؟

شارك هذا المنشور