رغم ما يبدو عند النظرة الأولى على السينما المصرية بأن الأفلام الرومانسية انقرضت، فإن الحقيقة عكس ذلك، إذ تكاد لا تخلو سنة من عرض فيلم رومانسي واحد على الأقل، لكن ما يبقى منها في الذاكرة قليل جدًا، لأسباب تتعلق بضعفها فنيًا في كثير من الأحيان، وبضعف تسويقها في أحيان أخرى. هذا يعزز الشعور بندرتها، ولهذا يعد إنتاج فيلم رومانسي جديد هو بمثابة مغامرة لصناعه.
في ظل هذه الندرة، يأتي فيلم «الهوى سلطان» من إخراج وتأليف هبة يسري، وبطولة منة شلبي وأحمد داود، وإنتاج هاني نجيب وأحمد فهمي.
التركيبة لافتة للنظر؛ مخرجة في فيلمها الروائي الطويل الأول، عمل رومانسي، وممثلون لديهم تجارب سينمائية ناجحة، ومنتجون قدموا مغامرة أخرى حققت نجاحًا العام الماضي هي «وش في وش». هذا فيلم سيبقى طويلًا في ذاكرة المشاهدين لأسباب سنذكرها في السطور التالية.
أي مُشاهد للأفلام الرومانسية أو الرومانسية الكوميدية سيفهم غالبًا قصة الفيلم من الإعلان، لدينا شخصيتان رئيسيتان: سارة (منة شلبي) وعلي (أحمد داود)، سيقعان في حالة حب نتابعها خلال مدة الفيلم. هكذا هي الأفلام الرومانسية في المطلق. المختلف عادة هو: شخصية بطل وبطلة الفيلم، والكيمياء بينهما التي تسمح بوقوعهما في الحب، والتحديات التي يواجهها كلاهما لاستكمال مشوارهما.
أول ما يجذبنا إلى سارة وعلي هو أنهما نموذجان لشخصيات نعرفها بشكل ما، بل شخصيات تشبه كثيرين منا. هما من شريحة مجتمعية متوسطة، يعملان في وظائف عادية، ويعيشان في بيوت عادية، سيارة سارة مكيف هوائها لا يعمل، وسيارة علي تمتلئ بالخدوش. على المستوى النفسي، تعاني سارة من مشكلات مع والدها الذي تزوج بعد وفاة أمها، وتخشى مواجهته أو حتى مواجهة نفسها؛ بينما يبحث علي عن الارتباط في محاولات متكررة فاشلة بدون أن يدرك مشكلته الحقيقية، أو أن يكون لديه قصة حب مكتملة، بل هو -مثل كثير من المصريين في سنه- يبحث فقط عن الزواج والاستقرار.
ليست مشكلات ضخمة، لكنها حقيقية جدًا، مررنا بها أو شاهدناها من قبل، لكن هل تكفي لصناعة فيلم كامل؟ بعد أن ندخل في حالة من الصداقة الكاملة مع هذا الثنائي، تظهر لنا الأزمة الحقيقية، فعلي وسارة اللذان تمتد صداقتهما منذ الطفولة لا يدركان أن ما بينهما أكثر من صداقة، هو قصة حب مكتملة، وهو ما لا يفهمانه حتى يظهر طرف آخر في حياة كل منهما.
يرتبط علي بليلى (جيهان الشماشرجي) وسارة برامي (أحمد خالد صالح) ويبدآن في استكشاف حياتيهما بشكل آخر، بعيدًا عن المساحة الآمنة التي كان يوفرها كل منهما للآخر. في هذا الفصل يظهر تحدٍ جديد أمام هبة يسري كمؤلفة، إذ أنها وضعت الكثير من المشاعر بالفعل في الشخصيتين الرئيسيتين، فماذا عن الشخصيتين الثانويتين اللتان تلعبان دورًا محوريًا في الأحداث؟ حاولت كاتبة السيناريو من خلال رامي وليلى إظهار المزيد من التفاصيل في شخصيتي علي وسارة، وفي هذا نجحت في أمرين مهمين.
الأول أنها قدمت شخصيات متباينة بشكل دقيق، مع الطرفين الآخرين. فليلى ليست نقيضًا لسارة، ولكنها تختلف عنها وعن علي أيضًا، تنتمي لطبقة اجتماعية أعلى قليلًا، ويظهر هذا في ملابسها وزينتها وأصدقائها وأماكن سهرها، وكذلك في شخصيتها الاجتماعية المنفتحة. أما رامي فهو صاحب شخصية قوية وأهداف محددة، ليس فوضويًا مثل سارة، وكذلك ليس مهاودًا مثل علي، بل على العكس تتسم شخصيته بالذكورية التي تظهر في جُمل عابرة مثل حديثه عن أن زوجته من ستتولى الطبخ بعد الزواج.
الأمر الثاني وهو الخاص بشخصية الفيلم نفسها، إذ لا يدين أيًا من شخصياته، ولا يجنح السيناريو إلى شيطنة الشخصيات الثانوية ليظهر ملائكية سارة وعلي، بل جميعهم بشر بمزايا وعيوب نقبلها أو نرفضها، ولكل منهم شخصية تتغير نتيجة الكثير من العوامل مجتمعة.
جورج وسوف وبهاء سلطان
من أكثر العوامل الجذابة في الفيلم هو شريط الصوت الذي يمتلئ بأغاني لعدد من المطربين، مغزولة بشكل مُحمّل بالمشاعر داخل نسيج الفيلم.
كان بطل النصف الأول هو جورج وسوف مع أغنية «حلف القمر»، بينما بطل النصف الثاني بامتياز هو «بهاء سلطان» بعدة أغنيات أبرزها «أنا من غيرك» وهي الأغنية الدعائية للفيلم، بجانب عدد آخر من الأغنيات التي يأتي ذكرها على ألسنة الشخصيات.
تعد هذه الأغاني في الفيلم وسيلة ذكية لاستكمال الحوار والتعبير عن المشاعر. وهو الأمر الذي تجدر الإشارة إليه بشكل عام داخل أحداث الفيلم، الحوار. فباستثناء مشهد واحد كاشف بشكل واضح لتاريخ معرفة سارة وعلي عن طريق والدة علي (سوسن بدر)، يأخذ الفيلم وقته تمامًا ليعرفنا بالشخصيات ويكشف لنا المشاعر، وربما يأتي هذا بشكل أبطأ من اللازم في الفصل الأول الذي كان أطول من اللازم، إذ ضم أيضًا عددًا من أصدقاء سارة وعلي لم توظفهم الكاتبة والمخرجة لاحقًا بالشكل الكافي، وإن كانت الكوميديا المختلفة في النصف الأول جعلت مدته الطويلة تمر بسلاسة.
بينما مع بداية الفصل الثاني وحتى نهاية الفيلم سنستمع إلى واحد من أكثر الحوارات صدقًا في الأفلام المصرية مؤخرًا. قيمة الحوار الحقيقية تأتي من مدى ملاءمته للشخصيات وللسياق العام الذي يُقال فيه، وهو ما نشاهده في «الهوى سلطان». لا توجد تشبيهات معقدة أو جمل شرطية ذات تركيبات عجيبة، بل يكفي أن يقول علي لسارة «بهاء سلطان نزل أغنية جديدة» لندرك أنه يقول لها «أنا أحبك» وندرك أيضًا أنه -مثل كثيرين- لا يدري كيف يعبر عن هذه العبارة الكبيرة، فيتخفّى وراء أغنية بهاء سلطان.
يصعب إنهاء المقال دون الوقف عند الأداء الدافئ من الممثلين وخاصة الثنائية الجذابة بين أحمد داود ومنة شلبي، فهذه الأخيرة تقدم أبرز أدوارها منذ عدة سنوات، دور يليق بموهبتها وبحساسيتها في التعبير عن المشاعر.
فيلم «الهوى سلطان» هو فيلم مصري رقيق، ومفعم بالبساطة، ولكنه دقيق الصنع، مُمتع على شاشة السينما، بينما سيبقى في قائمة المشاهدة طويلًا بمجرد انتقاله للمنصات أيضًا.
اقرأ أيضا: «ريش»… الصوت كزمن.. الصوت كمكان