لا يحيل عنوان فيلم المخرج اليمني عمرو جمال (المرهقون) إلى الوصف الدقيق لحال أبطال الفيلم، فهم منهكون وممزقون وفي حالة انتحار جماعي وليسوا مرهقين فقط، كما أن قصة الفيلم ليست قصة استثنائية ونادرة الحدوث، فهي قصة أبناء الطبقة المتوسطة في مناطق الأزمات إذ تطأهم الحياة تحت أقدامها، وتحرمهم من أدنى مقومات العيش. لكن تغييب الإحالة هذا مقصود تمامًا، بل هو تحديدًا ما يميز الفيلم ويجعله يكتسب احترامنا له كمادة فنية لا كتعليق على حالة اجتماعية.
أقول احترامنا لا تعاطفنا، لأن التعاطف يسهل أن يثيره أي فيلم يتناول الظرف الذي يدور فيه فيلم المرهقون. فالفيلم روائي يمني طويل، وهذه حالة سينمائية نادرة، وتدور أحداثه أثناء الحرب على اليمن، وواقعي تدور أحداثه في مدينة عدن ذات البعد التاريخي الضارب في القِدم.
ولكن رغم هذه الظروف المضمونة لإنجاح الفيلم؛ يضرب مخرجه وكاتبه عمرو جمال بكل هذه الأسباب عرض الحائط، وينحاز عوضًا عن ذلك إلى قيمة مخاطبة جمهوره المحلي، في حالة نادرة الحدوث وتدل على وعي حقيقي بقيمة الفن في تصوير حال الإنسان بأمانة عالية، فليس من طبيعة الشعب اليمني التباكي، أو ممارسة «اللطميات»، أو استدرار التعاطف، بل من طبيعته الصمود والعمل ومواصلة الأمل.
الأمل الذي اختار بطل الفيلم وزوجه أن يكونا واقعيين ويجهضانه، لا بسبب اليأس وانهيار منظومة الحياة، كما هو بادٍ، بل بسبب الإرهاق كما يحيل عنوان الفيلم، وقبل عنوان الفيلم بسبب وعيهما، فهما متعلمان ويعملان في الإعلام، والزوج لا يرغب في ممارسة التملق، في ذات الوقت لا يسمحان بالتضحية بتعليم أبنائهم، حتى لو كان المقابل سكن مريح أو لقمة عيش هانئة، لذلك بدت فكرة قتل الطفل القادم والتضحية به من أجل ألا يتأثر أطفالهم الآخرين تضحية منطقية، بل ومبررة.
أعترف أن دمعتي هطلت في موضعين في الفيلم، الأول عندما قال البطل لصديقه السمسار بعد أن لامه على تفكيره في إجهاض الجنين في بطن زوجته، واستشهاده بحالة قتل النفس في قصة الخضر في القرآن الكريم، بأن الخضر نبي وليس مثلك، فقال له «هو نبي وأنا مُرهَق»، الثانية عندما بكت زوجته وهي مستسلمة لمحاولة إنهاء الحمل في البيت بعد أن كشفت خطتهما أختها الطبيبة، الرافضة لمبدأ التخلي عن الجنين من جهة الحرمة الدينية لهذا الفعل، هذان المشهدان شكلا لدي تصورًا لأقصى حالات الإرهاق داخل مجتمع تلك الأسرة الصغيرة، التي تعاني من يأس ليس في إمكانها التصريح به لأحد. الزوجان ينشدان الموت بل ويمارسان حالة الاحتضار اليومي، لكن دون أن يسمحا لنفسيهما بممارسة الصراخ أو العويل.
كان بإمكان المخرج أن يأتي بالسلاح وأن يدخلنا إلى الدم والقصف، ليعطينا المبرر الجاهز، لكنه آثر بدلاً من ذلك أن يرينا ماذا فعلت تلك الأشياء الكبيرة، التي يسهل توقع شكلها، بأناس يشبهون معظم سكان الأماكن المأزومة بسبب الحرب، ناس خدعوا بالأمل، واعتمدوا على العيش اليومي الممكن إلى أن جاءت اللحظة التي أصبح فيها العيش الهانئ والممكن متعذرًا بشكل تام.
إن مأساة الحياة المشلولة بسبب الحرب هي أحد مبررات طلب الموت كما يبين لنا الفيلم. وبالإضافة إلى هذا البيان الصادم فإن فنيات العمل لا تبتعد عن تكوينه الفلسفي شديد الدقة والعمق، فكل شيء موضوع في مكانه تحت خدمة الخط الرئيسي، وهو استدعاء الموت بدون إظهار الحالة الجنائزية، لذلك أتت صورة الفيلم البصرية في غاية الواقعية، فأبرزت الجماليات الطبيعية للمكان (عدن) دون مؤثرات بصرية أو صوتية، واعتمدت بدلًا من المؤثرات على زوايا بسيطة للكاميرا، وبديكورات المكان العضوية، وأزياء ناسه العادية، ما جعل البطولة في الفيلم تذهب إلى الأداء التمثيلي، للزوجة والزوج، اللذين لعبا دورهما المبدعان (عبير خالد) و(خالد حمدان) ولحركتهما الواقعية داخل المكان (عدن).
عندما خرجت من الفيلم شعرت بالامتنان العظيم الذي منحني إياه مخرج الفيلم، لأنه اجتهد أيما اجتهاد في نقل صورة أمينة وجميلة في ذات الوقت لمكان ما كان في خاطري أن أذهب إليه، لقد مكنني الفيلم من الربط الجغرافي بين عدن كمدينة نقرأ عنها في الكتب، وبين مدن ساحلية أخرى في السعودية، التشكيل العمراني نفسه، الشوارع والأحياء ذاتها، لقد استخدم جغرافيا المدينة المشابهة للمدن الأخرى على البحر الأحمر، دون أن يلجأ إلى حيل السينما الواقعية الموجعة، التي تظهر قاع المدينة، وكأنه يريد أن يوصل لنا رسالة نبيلة وذكية في الوقت نفسه، رسالة التماثل لا الاختلاف، وربما التطابق أيضًا، لكنه من خلال هذه الجغرافيا المتطابقة أعطانا حكاية إنسانية مختلفة وليست متطابقة، تظهر لنا أن التمايز موجود بشكل خاص في المصائر الإنسانية، التي سببها وجود شبح اسمه الحرب.
إن مثل هذا النموذج في السينما العربية وقبله بعض النماذج القادمة من سوريا أو من السودان على سبيل المثال لا الحصر، تعطينا الأمل في فكرة تصدر السينما العربية البديلة، التي تحرج سينما المركز وتتطاول عليه وعيًا وفنًا، والموضوع ليس تنافسيًا وإن بدا التنافس مشروعًا ومستحقًا، بل هو أشبه ببث الحياة في جغرافيا الأطراف، وتقديم مصائر إنسانها، الذي لا يقل جمالًا وروعة عن إنسان المدن المركزية، كما أن هذا الفعل السينمائي بدوره يقدم لنا التنوع الصحي والمطلوب، ويساهم في رفع الذائقة الفنية، بخلاف كونه فعل إنساني بامتياز، يقرب جمهور ومحبي السينما من حيوات الناس في الهامش.
أخيرًا أستطيع القول إن فيلم (المرهقون) قدم لنا حكاية إنسانية غائرة في وجعها، جميلة من حيث بيانها الفلسفي، صادمة من ناحية قربها من ضمير الإنسان العربي، حكاية جعلتنا نرى إرهاقنا الشخصي في حيوات الآخرين.
اقرأ أيضا: «أخيرًا»… الزمن ينصف كلود ليلوش