في الذكرى الثامنة لرحيله عن عالمنا، لا تزال أفلام المخرج الكبير محمد خان صالحة لمزيد من الزيارات والتأملات، بتفاصيلها الثرية وتنوع الشخصيات والعلاقات والموضوعات التي تناولها خان دومًا من مدخلين إنساني وسينمائي. إنساني لأنه ينشغل بتعقيد النفس البشرية وما تواجهه من تحديات في المجتمعات المعاصرة، وسينمائي لأن التعبير عن ذلك يأتي بصياغات تنتمي لطبيعة الوسيط السينمائي، دون استسلام للأدب والخطابة والمسرح الذي لطالما نهلت منه الأفلام المصرية، حتى الجيد منها.
ولأن موضوعنا في هذا المقال هو إلقاء نظرة جديدة على المرأة في سينما محمد خان، فلا بد وأن تكون البداية مع أول النساء في أفلامه: سلوى في «ضربة شمس»، والتي لعبتها نورا، الممثلة التي كثيرًا ما ننسى حضورها البارز في كثير من الأفلام التي شكلت وجداننا.
لسلوى مكانة تاريخية خاصة في سينما خان، فهي صاحبة أول لقطة مقربة في أفلام المخرج الموهوب، وهي صاحبة أول جملة منطوقة في أعماله، وهي التي خصّها بمشهد تقديمي عبّر فيه من الدقيقة الأولى عن روح التمرد التي ستلازمه طيلة حياته.
يبدأ خان «ضربة شمس» في الشقة الصغيرة التي يسكنها بطله المصوّر الصحفي في إحدى بنايات وسط القاهرة. شمس يفتح الشباك الذي نفهم لماذا كان مغلقًا عندما نجد جواره شابة تواصل ارتداء ملابسها أمام المرآة، بينما ينشغل حبيبها بلعبته المفضلة (الكاميرا)، ملتقطًا صورة لوجهها المبتسم له.
سيناريو فايز غالي يوظّف حوارًا حاذقًا، أقرب لما يُعرف في العامية المصرية بـ «حوار الطُرشان»، أي الحوار الذي لا يسمع طرفيه بعضهما، ليقدم لنا طبيعة العلاقة بين العاشقين الشابين: شمس، المصور البوهيمي المفتون بالتقاط صور صحفية درامية تحمل قصصًا داخلها، وسلوى حبيبته التي يُمكن اعتبارها النموذج الأولى للمرأة المثالية كما تفهمها سينما محمد خان. سلوى التي لا تمر دقائق إلا وتقول لحبيبها وهي تركب وراءه الدراجة البخارية إنها تحلم بأن يستبدلها بسيارة.
«نفسي أقعد جنبك، مش وراك!»
عبارة مُصاغة بذكاء يجعلها أقرب للشعارات النسوية، وهو ما جعلها من الجمل الأكثر تكرارًا في المواد النقدية التي تناولت سينما محمد خان، غالبًا باعتبارها نموذجًا للحس النسوي في أفلامه ودعمه الدائم للمرأة، التي تدافع هنا عن حقها في المساواة، أن تكون جوار الرجل، لا خلفه.
حسنًا، سينما خان نسوية في مجملها بالفعل، وأفلام مثل «موعد على العشاء» و«أحلام هند وكاميليا» و«فتاة المصنع» مجرد أمثلة على هذا الميل الواضح لتبني وجهة النظر الأنثوية. لكن ما يميّز الحضور النسوي في أفلامه هو تحديدًا ما يجعلنا نقول بأن جملة سلوى الشهيرة هي نموذج واضح لنزع الأمور من سياقها، وللتبسيط المخل في طرح القضايا المُعقدة، إما لغرض في نفس الكاتب، أو لعجز عن فهم ما يكمن وراء الكلمات من معانٍ أعمق من مفرداتها المباشرة.
رغبة في المساواة أم أمر آخر؟
صحيح أن عبارة سلوى تبدو أشبه بشعار يدعو للمساواة، لكن وضعها داخل سياقها الدرامي قد يمنحها تفسيرًا مغايرًا كليًا.
فإذا عدنا للحوار الدائر في المشهد الأول، سنجد سلوى تحاول جاهدة أن تشرح لشمس – ولنا – الموقف المعقد الذي تعيشه: فتاة معاصرة تحاول الاستقلال، يبدو من ذهابها للدراسة صباحًا والعمل مساءً أنها تنتمي لطبقة متوسطة أو أدنى. تحب شابًا متحررًا باع شقة عائلته ليشتري بدلًا منها شقة صغيرة أقرب للاستوديو، تناسب نمط حياته وتجعله أقرب لمراكز الصحف الكبرى في وسط المدينة. سلوى لا تجد غضاضة في دخول علاقة جسدية مع حبيبها الشاب خارج إطار المؤسسات الرسمية والشرعية، دون أن يبدو عليها أي شعور بالذنب أو تأنيب للضمير، لكن مشكلاتها تنبع من أسباب أخرى.
ترغب سلوى في أن تكمل حياتها مع حبيبها، تأمل في أن يترك هوسه بالتقاط صورة درامية يبيعها لصحيفة كل فترة، وأن يفتتح استوديو تصوير خاص به يجلب له دخلًا ثابتًا. نفدت حججها أمام تساؤلات والدتها المتكررة عن سر تأخرها في العودة للمنزل كل يوم. تحلم باليوم الذي يتغير فيه شمس قليلًا. لا تريده أن ينقلب شخصًا آخر، لكنها تريده فقط أن يأخذ حياته وعلاقتهما بجدية أكثر. باختصار، لا تريد حياة تقليدية مع زوج موظف، لكنها تريد إضفاء شرعية مجتمعية مع بعض الاستقرار لعلاقة الحب التي منحتها كل شيء.
هنا يمكن النظر لعبارة سلوى الشهير من زاوية أخرى، صحيحة غالبًا، لا تطالب فيها بمزيد من الحرية، بل بمزيد من القيود. الجلوس جوار شمس بدلًا من ركوب الدراجة وراءه ليس سعيًا للمساواة، وإنما هو سعي لقدر من التصالح مع المجتمع المحيط، لحياة ترتبط فيها رسميًا بحبيبها بدلًا من مقابلته في الخفاء، يعرف فيها العالم أنها زوجة هذا الشاب، وليست الفتاة التي تركب وراءه الدراجة كالمراهقين. سلوى تعيش حب مراهقة تأمل في أن يتحول حبًا ناضجًا، تسعى للنضج الذي سيزيل عن عاتقها قائمة من الهموم اليومية، وفي ذلك التناقض بين السعي للالتزام وبين ما سيتيحه هذا الالتزام من راحة عملية، تكمن قدرة سينما محمد خان الفريدة في التعامل مع قضايا المرأة بشكل ناضج، ينبع من الواقع لا من التصورات الرومانسية عنه.
التمرد كرد فعل
على ما تزخر به أفلام المخرج الكبير من شخصيات نسائية، تتبنى رؤيتها وتتحدث بصوتها وتدافع عن حقها في أن تعيش حياة كريمة سعيدة تمتلك فيها حريتها وقرارها، نادرًا ما تجد في أفلامه امرأة متمردة كليًّا على أعراف المجتمع. وحتى عندما قدّم امرأة تقترب من هذا الوصف هي نجاح، بائعة الهوى الصاخبة في «مشوار عمر»، فلم تمض عدة سنوات إلا وعاد ليروي في أحد فصول «فارس المدينة» مصيرها بعدما حققت قدرًا من الاستقرار المادي الذي جعلها تتوقف عن نمط حياتها السابق، وتستبدله بحياة أهدأ وأكثر ارتباطًا بالأشخاص لا بالمغامرة والتمرد.
وإذا كان أبطال خان الذكور متمردين بطبيعتهم، شمس في فيلمه الأول، وفارس بطل ثلاثيته الشهيرة «طائر على الطريق» و«الحريف» و«فارس المدينة»، وعمر في «مشوار عمر»، وعيد في «أحلام هند وكاميليا»، وغيرهم، بل إن بعضهم يمتلك حس تدمير ذاتي يجعل تمرده نقمة عليه، تقوده لمواقف عسيرة وحياة معقدة، فإن بطلات خان – في أفلامه التي تلعب بطولتها امرأة – على النقيض، يدفعهم العالم دفعًا نحو التمرد، لم تكن أيٌ منهن لتُعلن عصيانها ما لم يكن هو الحل الأخير أمامها بعدما فقدت كل فرصة أخرى.
لو لم يصمم عزت زوج نوال السابق على امتلاكه لها، ويتدخل لينهي زيجتها الجديدة، لما قادها يأسها لأن تقتله وتنتحر معه في «موعد على العشاء»، ولكانت قد أكملت حياتها بسعادة مع زوجها الجديد، حتى وإن كان مجرد كوافير فقير لا يُقارن اجتماعيًا بعزت. ولو وجدت أحلام في «أحلام هند وكاميليا» رجال حولها يرعونها بما يكفي لسد رمقها لما كانت قد خرجت للعالم تتحداه محاولة انتزاع الفتات. ناهيك عن البطلات اللاتي لا تتمردن أصلًا مهما تعرضن له من آلام، مثل كاميليا رفيقة درب أحلام، ومثل مُنى، بطلة «زوجة رجل مهم» التي رغم ما تعرضت له من عذاب على يد رجل شوهت السلطة المطلقة نفسه، لكنها ظلت للنهاية جواره بعدما فقد كل شيء، بمزيج من الخوف من رد فعله لو قررت الرحيل والإشفاق على من كان يومًا شابًا جذابًا وقعت في حبه. قرار البقاء كلف منى الكثير ومنحنا نهاية مأساوية كررها خان أكثر من مرة في أفلامه النسائية.
المرأة ضد نفسها
العالم المحيط يدفع بطلات خان للتمرد هروبًا من التعاسة، وعندما نقول «العالم» نفهم جيدًا – كما يفهم الفنان – أن العالم غير مكوّن من الرجال فقط. صحيح أن المنظومة الذكورية تحكم هذا العالم وتضع قواعده، لكنها قواعد تتشبع بها النساء كما الرجال. لذلك ستجد دومًا للنساء دورًا فاعلًا في وضع المزيد من الضغوط على البطلات، بداية من والدة سلوى التي تطاردها بالأسئلة، ووالدة نوال التي تدفعها نحو التعاسة بحجة الحفاظ على بيتها، وصديقاتها اللاتي يشرعنّ لها الخيانة كطريقة للتعايش مع زوج متجبر. أمثلة كثيرة تمتد إلى النساء المحيطات بهيام بطلة «فتاة المصنع»، التي تزدريها شقيقة وأم حبيبها، وتخونها صديقتها، بل ويتجسد ضغط الأقران لها في لقطة لا تُنسى، تقوم فيها الجدة حرفيًا بسحق وجه حفيدتها بقدمها حتى تفيق لنفسها وتتصالح مع خيانة العالم لحبها الصادق!
تجعلنا أفلام خان – بطريقة ذكية وسينمائية – نُدرك أن الأزمة ليست في معركة مباشرة تواجه فيها المرأة قهر الرجل، وإنما هي مواجهة أكبر ضد منظومات قيمية وأخلاقية ومجتمعية كاملة، تؤمن بها بعض النساء أيضًا، بل وتجتهد هؤلاء المؤمنات لضمان انصياع أكبر قدر ممكن من النساء للمنظومات نفسها.
المرأة المثالية في سينما خان
إذا حاولنا البناء على ما سبق، وبالتأمل في مزيد من أفلام المخرج الكبير، أن نرسم صورة مثالية للمرأة في سينما خان، سنجد مرة أخرى أن سلوى تُمثل النواة الأولى لها، تمامًا كما يصلح شمس لأن يكون نموذجًا أوليًا للبطل الفارس الذي سيتجلى لاحقًا بصور أعقد.
المرأة «الخانية» إذن: معاصرة، مليئة بالحماس، منفتحة على الحياة على طريقتها الخاصة. تؤمن بالحب كقيمة عُليا تسعى لها، وتميل بالأساس لرجل يحمل قدرًا من الشطط لا يجعله شخصًا اعتياديًا. لكنها تأمل في أن تتمكن من تهذيب هذا الشطط، فتبقى منه الجاذبية ويصبح الرجل ملكًا لها، وتحاول تحقيق هذا الهدف عبر الانخراط في الحب دون حسابات، الاستمتاع باللحظة وتصور أنها ستدوم للأبد، حتى لو كانت كل الإشارات تقول عكس ذلك.
المرأة الخانية أيضًا ليست صدامية بطبيعتها، لا تعتبر التمرد قيمة مجردة، وإنما تُدفع إليه دفعًا عندما تُدرك أن أحلامها غير قابلة للتحقيق، بل أن عليها الكفاح فقط لتضمن لنفسها الحد الأدنى من السعادة واحترام الذات. وعندما تصل إلى نقطة الانفجار التي تفقد عندها الأمل في إيجاد سبيل سلمي لهذا الحد الأدنى، بإمكانها هنا أن تفعل أي شيء يعيد لها كرامتها، حتى لو دفعت أبهظ الأثمان لتحقيق ذلك.
ربما يكون هذا التركيب بين الانفتاح والسعي للأمان، بين الوداعة والشراسة، وبين ضغوط الرجال والنساء معًا، هو ما جعلنا نشعر دائمًا بقدرة أفلام محمد خان على التعبير عن المرأة بصدق والانحياز لها، دون أن تكون أفلامًا نضالية تطرح قضايا المرأة موضوعًا أساسيًا للنقاش وترفع الشعارات الرنانة. ولهذا تحديدًا نقول إن «نفسي أقعد جنبك، مش وراك!» يبدو بالفعل لأول وهلة شعارًا نسويًا، لكننا بقليل من التدبر ندرك إنه – كأفلام صاحبه – يحمل المزيد والمزيد من القراءات الأفضل.
اقرأ أيضا: النساء والأغاني في أفلام محمد خان