تمتاز مسابقة مهرجان كان الدولية دائمًا بكونها المساحة التي يجتمع فيها أكبر الأسماء في عالم الإخراج السينمائي، وكأنه كأس العالم في الإخراج، فتجد في كل عام قائمة ضخمة من الأسماء الرنانة التي يمتلك أصحابها مسيرة كبيرة من أعمال سابقة ضمنت لهم الوجود في هذه المنصة رفيعة المستوى. إلا أن اللحظات التي لا تُنسى هي تلك التي نكتشف فيها خلال المسابقة صوتًا جديدًا، مخرجًا كان يبدو للوهلة الأولى أصغر ممن يتنافسون معه، قبل أن تكشف الأفلام أن الكبار قدر حضروا جزئيًا بأسمائهم، بينما حضر الصغار بأعمالهم، فقط لأنهم يستحقون هذا المكان.
لعل الوصف السابق لا ينطبق في مسابقة كان 77 – على الأقل حتى نقطة منتصف الطريق الذي نكتب عندها هذا المقال-؛ قدر انطباقه على المخرجة الفرنسية كورالي فارجيا، التي جاء فيلمها الطويل الثاني «المادة The Substance» ليُعلن عن موهبة كبيرة، لفنانة شجاعة لا تخجل من إحداث الصدمة، ففيلمها مليء بكل أشكال المفاجآت الصادمة، لكنه مزدحم أيضًا بالقيمة، سواء على مستوى الأفكار المطروحة، أو في طريقة معالجة تلك الأفكار بصريًا ودراميًا.
براعة الاستهلال
نبدأ بالمعالجة البصرية، وهي باختصار ما يجعل المخرج السينمائي مخرجًا بحق: قدرته على خلق معادل مرئي للحكاية، يقدم المعنى بالصورة ويضع المشاهد داخل الحالة المزاجية المأمولة، وهو ما تفعله فارجيا بسهولة وسرعة واختلاف عبر تتابعين صامتين في بداية الفيلم، الأول لمادة يتم حقنها داخل بويضة فتجعلها تنقسم لنسختين من ذاتها، ثم مراحل حياة نجمة من نجوم ممشى المشاهير في هوليوود، من تثبيت النجمة والاحتفاء بصاحبتها واهتمام الناس بها، ثم خفوت الصيت وانزواء الأضواء وتحوّلها مجرد بقعة على الأرض يسير عليها البشر دون أن ينتبهوا للاسم المدوّن عليها.
باختصار وببساطة ودون كلمات تقريبًا تُدخلنا كورالي فارجيا داخل عالمها الفيلمي، عالم النجمة الهوليوودية إليزابيث سبارك، التي تجسدها النجمة ديمي مور بشجاعة تُحسد عليها، فالشخصية تكاد تكون صورة درامية لمور نفسها، نجمة كانت ملء السمع والبصر، قبل أن يمضي العمر وتتضاءل الأضواء المسلطة عليها. سبارك تُقدّم برنامج رياضي صباحي لا يبدو أحدًا راضيًا عن نجاحه بسبب عمر نجمته المتقدم. «مع الخمسين كل شيء يختفي»، يقولها لها المنتج صراحة وهو يخبرها أن البرنامج سيتوقف لأن عمرها صار أكبر من أن توضع في مركز الاهتمام.
وكما هو متوقع من التتابع الأول، يظهر الحل لإليزابيث متمثلًا في مادة تروّجها جهة غامضة، تجعل خلايا جسدها تنتج نسخة أفضل وأجمل وأكثر شبابًا منها، بشرط وحيد هو أن تعيش كل نسخة من الاثنين أسبوعًا كاملًا فقط، ثم توضع في سبات صناعي لتعيش النسخة الثانية الأسبوع التالي وهكذا. معادلة يجب تطبيقها بدون استثناءات، مع التأكيد على قاعدة يجب عليها إدراكها، هي أنهما نسختين لنفس الشخص، لا شخصيتين منفصلتين.
بين فيلم النوع والأفكار العميقة
لو كنت من محبي أفلام الخيال العلمي والرعب سيتمكن الملخص السابق بسهولة من إثارة اهتمامك. أما إن كنت ممن يميلون لاعتبار أفلام النوع أعمالًا من الدرجة الثانية، فقد يثير الأمر داخلك تساؤلًا حول سبب اختلاف هذا الفيلم، الذي يجعل مهرجان كان يعرضه في مسابقته الدولية.
قد تتساءل أيضًا عما حمّس نجمتين بحجم ديمي مور ومارجريت كوَيلي للمشاركة في العمل، رغم ما يتضمنه من تحد جسدي كبير، سواء في ظهور كامل الجسد عاريًا أو شبه عار لفترات زمنية طويلة (وهو ما لا تفضله الممثلات عادة)، أو فيما يعنيه هذا الظهور من معان. ففي حالة ديمي مور يمثل جسدها الذبول، بداية الشيخوخة والتآكل التدريجي الذي يجعل النجمة تفقد بريقها القديم.
أما في حالة كويلي فالجسد يمثل تشييء للمرأة، والمخرجة تتعمد هنا إظهار ما تملكه بطلتها من جمال جسدي يكاد يلامس الكمال، والتأكيد على أن قدرتها على إيقاع الكل في حبها تنبع قبل كل شيء من مظهرها. ففي أحد المشاهد يدق الباب جار غاضب ينتظر أن تفتح جارته الممثلة الخمسينية الباب لينفجر في وجهها بسبب ما تحدثه من ضوضاء، وما أن يُفتح الباب ليرى أمامه نسختها الشابة، إلا ويغيّر الجار موقفه كليًا فيصير متسامحًا مع الضوضاء، بل ومستعدًا للمشاركة فيها لو رغبت جارته الجميلة في الاستعانة به!
المخرجة وبطلتاها تعين جيدًا أن تشييء المرأة عنصر جوهري في فيلمهن. أو لنكن أكثر دقة: تشييء النجوم وتقديس الكمال. كي تكون نجمًا يجب أن تكون كاملًا على المستوى الشكلي، وكي تتواصل النجومية ينبغي عليك الحفاظ على هذا الكمال بأي صورة ممكنة، حتى لو كان الثمن أن تنسلخ عن نفسك، وتصير نسخة مختلفة من ذاتك، تماما مثل سو، النسخة الشابة الجذّابة التي تكره اضطرارها أن تعيش أسبوعًا من كل اثنين في جسد إليزابيث، حتى وإن كانت إليزابيث هي الأصل الذي لولاها ما وُجِدت سو.
عن النشوة والتآكل
التفسير السطحي لفيلم كورالي فارجيا يرتبط بهوس جراحات التجميل الذي سيطر على القطاع الأكبر من النجوم، إناثًا وذكور، فصاروا في سباق عبثي محموم ينتهي في كل مرة وقد صار صاحبه نسخة مختلفة تمامًا عن الأصل، يتوهم وحده كونها أجمل وأكثر شبابًا. لكن التفسير الأعمق يتجاوز هوس التجميل إلى فكرة الإدمان بشكل عام، هوس الفرد بوجود «مادة» قادرة على جعله صورة أفضل من نفسه، حتى لو أكلت هذه الصورة تدريجيًا من الأصل في كل يوم عن سابقه. لاحظ أن مصطلح «المادة» يُستخدم في أغلب الدول الناطقة بالإنجليزية للتعبير أساسًا عن المخدرات.
من ينظر للفيلم من هذه الزاوية سيجده دراسة حالة عميقة، بالغة التشويق، غير مألوفة عن التردي التدريجي في هاوية الإدمان، وكيف يتوهم المدمن في البداية أنه سيتمكن من استخدام «المادة» بتوازن يجعله يظهر للآخرين في أفضل صورة ممكنة، ثم يعود لذاته بأمان عندما يغلق عليه باب بيته. غير أن هذا التوازن واهم، متطاير، لا يدوم، لسبب بديهي هو أن النسخة الأفضل أفضل – كما يبدو لصاحبها – وأنه سيُفضِّل في كل مرة أن يزيد من زمن استمتاعه بالصورة الأكمل، حتى يصحو يومًا فيجد الأصل قد تشوه بما لا يمكن علاجه أو ترميمه.
الفصل الختامي في الفيلم شديد الدلالة والذكاء. لن نحرق تفاصيله لكننا سنقول إنه تعبير فيلمي جديد كليًا عن موقف شاهدناه مرارًا في عالم الترفيه: نجم يصعد إلى المسرح في حالة مزرية، فيرتكب أفعالًا ويردد كلماتٍ تدمر حياته المهنية. يبدو الأمر غريبًا، فلماذا يُقدم أي إنسان على تدمير نفسه أمام الجميع هكذا؟ «المادة» يخبرنا أن الأمر ليس اختيارًا، فلا يُمكن إعادة الجني إلى المصباح بعد إطلاقه.
تناقضات وتفاصيل
يمتلئ فيلم كورالي فارجيا بكثير من المفارقات والمتناقضات، من الجمال الكامل إلى القبح الموحش، من مشاهد تسيل اللعاب شبقًا لأخرى تكفي كي تشعر بالتقزز من الطعام لأسبوع كامل. الفيلم حافل أيضًا بالتفاصيل الدرامية الصغيرة التي تُعمّق المعنى وتؤكد أن المخرجة تعرف جيدًا كل أبعاد فكرتها.
عندما تقابل إليزابيث في بداية الفيلم – مثلًا – زميل دراسة قديم منبهر بمقابلة زميلته التي صارت نجمة، وبالرغم من كونها في أسوأ لحظات حياتها المهنية على الإطلاق، إلا أن ثقتها في كونها أجمل وأقوى من الزميل القديم تجعلها تتعامل معه باستعلاء نجمة تخاطب معجبًا يائسًا. بينما تتحول مقابلة نفس الرجل إلى تحدٍ مخيف لإليزابيث بعدما تظهر شخصية سو وترى بعينيها الفارق بين الجمال الحالي والجمال الذي كان.
لم يتغير الرجل إطلاقًا وبالكاد تغيرت البطلة تغيرًا طفيفًا، لكن ما قلب موازين القوى رأسًا على عقب هو نظرتها لنفسها. كم سمعنا من حكايات عن نجم موهوب كان يُبهر الجميع دون مشقة، ثم تعلم المخدرات فساعدته أن يؤدي بشكل أفضل، لكنه في المقابل صار عاريًا بدونها، عاجزًا عن أداء ما كان يفعله بسهولة قبل دخول «المادة» إلى عالمه.
غير أن كل ما سبق قد يعطي انطباعًا خاطئًا بأن «المادة» فيلم وعظي ضد إدمان التجميل والمخدرات، والحقيقة أن الأفكار موجودة فيه بوضوح، لكنها في خلفية القصة المشوّقة والإحكام البصري والأداء التمثيلي الشجاع من ديمي مور ومارجريت كويلي. هذا فيلم يمكن بسهولة الرهان على أنه سيصير موضوعًا رائجًا على وسائل التواصل الاجتماعي عندما تطرحه منصة موبي mubi المشاركة في الإنتاج بعد انتهاء دورته في المهرجانات والقاعات.
أما لو أردنا في النهاية أن نذكر أجمل ما في «المادة»، فستكون بالتأكيد معاصرته. هذا فيلم ابن اللحظة الراهنة شكلًا ومضمونًا، يطرح أفكارًا يجب طرحها في زمننا الحاضر، بطريقة عصرية جذابة تخاطب ذائقة قطاع واسع من الجمهور (فقط لو تمكنوا من تحمل مشاهد النصف الثاني من الفيلم). فيلم ممتع وكبير يُقدم لنا مخرجة موهوبة سيكون لها شأن خلال السنوات المقبلة.
اقرأ أيضا: نبيل عيوش: أتمنى عرض «الجميع يحب تودا» في السعودية