لا تمل هوليوود إعادة إنتاج الأعمال السينمائية التي حققت شعبية كبيرة، خصوصًا المرتبطة منها بالقصص المصورة، بيد أن في أغلب الحالات تنجح المعالجة الأولى للقصص بشكل مدهش ومثير للاهتمام، ولكن المحاولات اللاحقة لإعادة تقديم القصص ذاتها غالبًا ما تتحول إلى مجرد نسخ مقلدة وساذجة لا تحمل أصالة النسخة الأولى، بل تقع في نفس الفخاخ السردية، مضافًا إليها اختلافات بسيطة ومبتذلة في تناول الخط الرئيسي للقصة؛ في الأغلب تكون مجرد اختلافات تقنية لا تضيف جديدًا على مستوى الحكي.
ينتظر من استعادة الحكاية لتقديمها بشكل مختلف ـ ما يسمى بال Reboot ــ أن يعني بالبناء والتأسيس القصصي إلى جانب تطوير الشخصيات ومنحها خصوصية على الشاشة؛ أي خلق تاريخ ودوافع للشخصية، حتى تخدم البناء بشكل منهجي وتدفع الإيقاع إلى الأمام، وهو ما يتجاهله المخرج روبرت ساندرز في محاولته السينمائية لإعادة إنتاج الفيلم الكلاسيكي «الغُراب ــ The Crow» ليخرِج لنا في النهاية نسخة سينمائية لا ترقى إلى تأثير ومكانة النسخة الأصلية التي أخرجها عام 1994 المخرج أليكس بروياس، خاصة أن نسخة بروياس الأصلية ارتبطت بوقائع وفاة بطل الفيلم براندُن لي ــ ابن أسطورة الفنون القتالية بروس لي ــ قبل إنجاز لقطاته كاملة، ما منح الفيلم دفعة خارجية للنجاح، ليكتسب بعدها شعبية كبيرة ويتحول إلى فيلم له طائفة من المريدين Cult أحبوا ملامحه الكئيبة ونمطه البصري المظلم.
يعالج فيلم «الغراب» فكرة البطل المختار داخل تيمة ما ورائية تشتبك مع فكرة الموت في مساحة أكثر مرونة، فالغراب يجسد دليل الأرواح في الميثولوجيا اليونانية، الذي ينقلها من عالم الأحياء إلى عالم الموتى، بعض الأرواح لا تعبر بين العالمين في سلام؛ إذ يمنحها القدر فرصة ثانية لتصويب الخطأ في عالم البشر؛ أي الانتقام، وهو ما يحصل في قصة إريك درافين (بيل سكارسجارد) الذي يلتقي شيلي (إف كيه إيه تويجز) في مصحة لإعادة التأهيل، ويقع كلاهما في الحب ليطورا علاقة من المفترض أن تكون عميقة، ولكن تنتهي قصة حبهما بشكل مأساوي على يد فينسينت روج (داني هيوستن)، الذي يمتلك قوى ما ورائية مظلمة، ليُبعث إريك بمساعدة كرونوس (سامي بوعجيلة) الذي يدفعه للانتقام من قتلة شيلي.
يقوم الفيلم على تيمة الانتقام، بيد أن دوافع الانتقام تستوجب حضور علاقة ذات بناء متماسك وقوي لتحفيز الانتقام وتمنحه المبررات الكافية، بحيث تخلق خصوصية للعلاقة، ولكن على العكس يقضي المخرج روبرت ساندرز قدرًا غير قليل من زمن الفيلم في استحضار كليشيهات تفتقر للمعنى، فلا نرى في تطور الشخصيات عاطفة كافية لخلق حالة من التوحد بين المشاهد والبطل، تكفل توريط المتفرج بدلًا من بقائه على مسافة كبير من الحكاية، يشاهد المعارك ولقطات الدم من بعيد، بدون أن يعير مصائر الشخصيات ونهايتها المأساوية اهتمامًا، لذا فالتأسيس منذ اللقطة الافتتاحية حتى منتصف الفيلم تقريبًا؛ أي طور البناء الذي يحدد كل شيء بعده، أخفق في خلق تلك الحالة، وحوّل العلاقة بين إريك وشيلي التي تعد محورية في القصة الأصلية، إلى رومانسية مبتذلة تفتقر للعمق والوزن العاطفي، الأمر أشبه بالسقوط دون رنين، سقوط صامت ينتهي بمجرد حدوثه.
يحاول المخرج خلق نسخته الخاصة من الفيلم، ويفضل منح فينسنت روج بعدًا ميتافيزيقًا من خلال منحه قوة خارقة للطبيعة، ليضعه في مواجهة جماعة لا نفهم عنها شيئًا تقريبًا إلا بعض اللمحات التي تظهر كلقطات خاطفة لمشاهد عنف ولغة شيطانية يهمس بها روج في آذان ضحاياه ليسلب إرادتهم، ومن خلال تلك القوة المضادة لقوة البطل الذي بُعث من الظلام، يحاول المخرج أخذ الصراع إلى مستوى آخر مختلف عن الفيلم الأصلي، غير أنه في الوقت ذاته يتخلى عن وجوده في الشارع، والتعامل مع شخصيات قريبة من واقع المتفرج كانت من الممكن أن تأخذ الفيلم إلى مساحات مختلفة يمكن استكشافها على هامش القصة الثرية، كما فعل بروياس، إلى جانب أنه يدع الشخصية الشريرة يلفها الغموض، دون اشتباك معها، فالشرير موجود لضرورته في الحبكة لسد فراغ الشخصية المضادة أو الغريم الذي يحاول قتل البطل، إنما لا نعرف عنه شيء إلا لمحات، وهذا لا يفيد القصة لأنها لا تلمس جوهر البعد الفلسفي للقصة الأصلية، بل تقوم على نمط بصري حركي وتجاري، فتبدو القصة في نمطها الخطي كسهم طائش لأعلى دون طبقات أو توترات، بل تعتمد على إبراز العنف والدماء لتغطية فجوات القصة في نصفها الثاني حيث تتحرك مسرعة جدًا دون قضاء وقت كاف مع الشخصيات أو حتى معرفة الشخصيات لبعضها، لقد أحب إيريك شيلي في محض دقائق على الشاشة دون تبرير لذلك التسارع المبهم أو تأسيس له.
يعتمد الفيلم على الأسلوب الصدامي والتعبير بالحركة العنيفة، خصوصًا بعد إحياء إيريك، ليتحول إلى فيلم حركة صرف، ويفتقد لذلك التوازن الذي كان حاضرًا في نسخة 1994 بين ما هو حركي وما هو عاطفي، فالحركة دون محفزات مثل فوهة مسدس فارغ من الداخل، مجوف لا يسمن ولا يغني، صحيح أن الحركة أضافت الكثير من الحيوية على مستوى تصميم المعارك ومشاهد الأكشن المميزة، ولكنها تفتقر للقيمة الجوهرية وهي الأساس السودوي الذي يميز ذلك النوع من القصص التي تلعب بين أجناس فيلمية مختلفة، رعب قوطي وفانتازيا ظلامية وحركة وإثارة وغموض، جميعها يمكن استثمارها داخل إطار الحكاية، بيد أن المخرج يتجه لناحية واحدة، ويذوب داخلها تماما، فالشخصيات لا تنمو إلا في تلك الناحية، لا تظهر قيمتها إلا على مستوى الحركة والأكشن فقط.
بالنسبة لأداء الممثلين، كان مرضيًا ولكن لا يُقارن بالفيلم الأصلي، لأن البناء القصصي والكتابة لا تسمح لهم أن يكونوا أكثر مما أظهروه على الشاشة، لذلك فالشخصيات نفسها افتقدت للجاذبية والعمق، افتقدت للمساحة والراحة الكافية للتعبير في مواقف واشتباكات، بالإضافة لذلك فقد صوّر الفيلم في جمهورية التشيك، لا في ديترويت كما في الفيلم الأصلي، ما يقدم رؤية بصرية مختلفة جعلته يتأخر عن الفيلم الأصلي، فالمكان بالنسبة للفيلم الأصلي لم يكن مجرد صور أو أبنية محيطة للبطل، بل كان شخصية مستقلة بين أبطال الفيلم، نجح المخرج في مزجها مع الأجواء الظلامية والإضاءة الخافتة ليكوّن مزاج لوني وعاطفي خاص، وعلى الناحية الأخرى فقد طمح المخرج روبرت ساندرز إلى أن يأخذ القصة لمساحة مختلفة نحو أرضية ميتافيزيقية، ليثري الجانب الشرير ويمنحه نوعًا من الحياة ذات الأبعاد المتغيرة، ولكنه فشل في كتابة تلك الخلفية الماورائية، واهتم أكثر بالحركة.
اقرأ أيضا: «ريفنشتال»… زيارة جديدة لعبقرية مثيرة للجدل