عند الإشارة إلى السينما الفنية في مشهدها الحالي، وسؤالنا عن أهم الأسماء التي برزت خلال السنوات الأخيرة، فلا بد أن يتصدر المخرج ريوسكي هاماغوتشي القائمة بعد أن أهلته أعماله لأن يصبح المخرج الياباني الأهم في الوقت الحالي، وأحد الأعمدة الرئيسية التي تقود راية السينما الفنية على المستوى العالمي، من بعد تقديم 4 أفلام حققت نجاحًا فنيًا واسعًا منذ تحفته “ساعة سعيدة 2015” وصولًا إلى عام 2021 مع فيلمي “عجلة الحظ والخيال” والأكثر نجاحاً “قودي سيارتي” الذي نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية ورُشِّح لثلاثة جوائز أخرى، منها أفضل فيلم للعام وأفضل مخرج وأفضل سيناريو مقتبس.
في نهاية يوليو الماضي، فوجئ السينمائيين والنقاد بإعلان مهرجان البندقية عن وجود فيلم لهاماغوتشي هذا العام، حيث لم يسبق ذلك أي خبر و تصريح أو اشارة عن فيلمٍ قادم للمخرج، وكأن “الشر ليس له وجود” عملٌ قد ظهر فجأة، خارج نطاق التحضيرات أو الترقب، كفكرة تظهر وتُصدر في لحظتها، ومع ذلك فإن “الشر ليس له وجود” هو عمل غريبٌ على سياق ريوسكي هاماغوتشي وعن سينماه التي تفحص التواصل البشري والعلاقات الانسانية ودور اللغة في خلق الاحتمالات التي تدفع الدراما الإنسانية.
يستكشف هاماغوتشي في فيلمه الأحدث العلاقة المعقدة بين الكائنات الحية والطبيعة، مسلطًا الضوء على التباين والتناغم بين الإنسان المديني (ابن الحداثة) والإنسان الريفي.
يعبّر هاماغوتشي عن هذه الإحالة منذ المشهد الأول، إذ تتحرك الكاميرا إلى الأمام والصورة باتجاه الأعلى، ملتقطة الأشجار الشاهقة وفروعها الخالية من الأوراق وسط غابة لا نهاية لها، ولمدة قد تتجاوز العشرة دقائق؛ يقطع هذا المشهد في مناسبتين خلفية سوداء باسماء طاقم الفيلم، هنا يفصل هاماغوتشي – وبذكاء- انترو المقدمة عن الافتتاحية، مشيرًا إلى أن هذه المناظر الطبيعية ليست خلفية، بل شخصية رئيسية فيما نحن مقبلين إليه. وعبر موسيقى المؤلفة الموسيقية إيكو إيشيباشي ينضبط إيقاع متناقض؛ يُمكن اعتباره تأملًا جماليًّا، وفي الوقت نفسه ينذرنا بالخطر.
ثاني الشخصيات التي نتعرف عليها هي “تاكومي”؛ رجلٌ ريفيٌ قليل الكلام، متعدد المهام، وعميق الفهم بأمور الطبيعية. يعيش تاكومي رفقة ابنته “هانا” ذات الثمانية أعوام. نلتقي به أولًا من خلال الأفعال الريفية الهادئة والساكنة، يُقطع بفأسه الحطب باستقامة الخبير ودقة البارع، ويقوم بتحميلها فوق عربة نقل يدوية، يصفُّها القطعة فوق القطعة، ويعبئ العبوات البلاستيكية بمياه الينابيع العذبة، ويحمّلها في مركبته العبوة تلو الأخرى، إذ يضعنا هذا التكثيف التأملي في سياق الحياة اليومية، وبشكل أخص في مد التدفق الساكن للممارسات الحياتية، والتي تذكرنا مشاهدها بعمل ليساندرو ألونسو “لي ليبيرتاد 2001″، في الصورة المنسابة والاندماج الفرداني مع الطبيعة والتجانس لأجلها.
الأمور ليست حلوة كما نظن
كما كانت الشاشة السوداء تقاطع المشهد الافتتاحي؛ يقطع هاماغوتشي التدفق المنساب في عدة أشكال مع سريان الأحداث، بدءًا من سماع الشخصيات لدوي اطلاق نار في التلال البعيدة مقاطعةً سكينة الحياة الريفية، أو حتى على المستوى التقني بالتوقف المفاجئ للموسيقى الذي يكسر حالة الانسجام، كحيلة تقنية تفصل الصوت عن الصورة، وتضع مسافة لإفاقة الوعي فيها بشكل ساخر لحقيقة الطبيعة من دون الزخرفة الدخيلة عليها. الأمر نفسه يأتي في اختيار الفيلم للشتاء موسمًا تدور فيه عملية التكثيف البصري لوجود الطبيعة، وذلك من دون أوراقها الخضراء، مما يجعل تناول الطبيعة هنا كموضوع؛ لا تأملُا في عناصرها الجمالية.
ومع ذلك، تأتي المقاطعة الأبرز في الفيلم على الصعيد السردي، حيث يتعكر صفو هذه الحالة اليومية فور دخول إحدى الشركات إلى محيطها، إذ تخطط لإقامة فندق تخييم فاخر وسط الغابات القريبة، مما يتطلب تأييدًا معنويًا لأناس هذه القرية، من شأنه أن يفسد البيئة الريفية ويؤثر على المياه التي يعتمد عليها السكان.
نشهد هنا مقدمة لحكاية قد تكررت عشرات المرات في السينما، والتي تقص رواية الجشع عند الإنسان الحديث وفتكه بالطبيعة لغرض الكسب المادي، لكن هاماغوتشي يتفادى ببراعة هذا النمط المستهلك، من خلال بناء مسبق لتيارٍ غامض تحت هذا السطح الهادئ، والذي يكمن في الإيماءات المستمرة لعنوان الفيلم وسط هذا السيل المتغيّر للأحداث، عبر كل تحرك سردي لما هو بريء مثل الطبيعة، أو كل شرٍ يظهر ليفسدها.
ففور تعرّفنا عن كثب على شخصيتي “تكاهاشي” و”مايازومي”، المكلفان من قبل الشركة بإقناع سكان القرية بهذا المشروع، يحدث هاماغوتشي تغيرًا في اسلوب سرده ويعود فجأةً لأسلوبه المتفرد، مفسحًا المجال للغة بالتحرك داخل هذا التمدد الغامض للعنوان، مستخدمًا الحوارات في قيادة المشاهد إلى مساحة أوسع.
فمن خلال الحوار (التواصُل) يتغير موقف الشر المهدِّد الذي جاء به كل من “تكاهاشي” و”مايازومي”، ليستحيل تعاطفًا إنسانيًا مع مبررات هؤلاء السكان. ويستعرض هاماغوتشي تحولهما عبر هزل مميز؛ حيث تتحول لقاءات إقناع السكان إلى مصدر إلهام يدفع من جاؤوا لتغيير نظرة السكان إى تغيير نظرتيهما، كما جاء في مشهد تقطيع الحطب اللاحق. وبقدر ما لدى الشر قابلية للتغير، فإن العكس كذلك يمكن أن يكون، باعتبار أن في ذلك إشارة أوليه للنهاية الصادمة التي ستلحق بهذا العمل.
الشر ليس له وجود
نرى التهديد هنا والخير كذلك، وفي الوقت ذاته تتبدل الأدوار بشكل مستمر، إلا أن عنصر النقاء الأكبر في سير الاحداث هو الذي يأتينا مع شخصية “هانا” التي تعلب دورًا غامضًا في نسيج الفيلم، تقوده بعناصرها البصرية التي تعطيها تمييزًا خياليًّا لافتًا. ومن خلال الصبغة التجريدية في معطفها الأزرق ولمعان قفازاتها الزعفرانية؛ يظهر تحركها في الغابة ملائكيًا ومنتميًا لما هو سماوي وخال من أي تشويه. حيث تذكرنا مركزيتها البصرية مباشرةً بالمكانة الجوهرية للمركبة الحمراء في “قودي سيارتي” وسط ذلك الصقيع.
وفي النهاية، يدخل السرد منطقة التجريد هذه بشكلٍ أعمق، فالطبيعة يمكن أن تكذب، والريفي يمكن أن يصبح مُهدِّدًا، فالكل هنا يتصادم مع الآخر بأشد الطرق عنفًا. وفقًا لذلك، فالطبيعة بذاتها قادرة على إلحاق الضرر بأكثر الكائنات براءة، والريفي يمكن أن يكون دفاعيًا بعنف تجاه حتى الأشخاص الأكثر تعاطفًا معه، هذه النهاية هي ما تصقل العنوان، وتضع ختامًا بأن كل شيء يتحرك داخل الإطار يؤدي غرض وجوده الذاتي، فلا الشر ولا الخير موجود وفق نظامها.
اقرأ أيضا: “مندوب الليل”.. وحيدًا في مواجهة المدينة