يقول المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس في فيلمه «نظرة أوليسيس Ulysses’ gaze»: «كانت الرحلة هي أول ما خلق الله، ثم جاء الشك، فالحنين». يتردد صدى هذا الشعور بعمق أثناء متابعة رحلة صديقين في رحلة عبر مدن السويد في الفيلم الوثائقي السعودي «الشتاء الأخير» للمخرج حيدر الداوود. حيث يوثق حيدر رحلته مع صديقه محسن أحمد في رحلة ظاهرها استكشاف السويد وبردها، قبل أن يتضح تدريجيًا أننا في رحلة مختلفة تمامًا، رحلة لنظم قصيدة شغف بالسينما وأولئك الذين كرسوا ويكرسون حياتهم لها.
تريلر الفيلم
ينقسم الفيلم إلى ثلاثة فصول عنونها المخرج بعناوين «جزيرة بيرغمان» و«أضواء الشمال» ثم أخيرًا «الوداع».
يُفتتح الفيلم الوثائقي بزيارة الصديقين لجزيرة «فارو» التي عشقها المخرج الأشهر في تاريخ السويد إنغمار بيرغمان. صنع بيرغمان في هذه الجزيرة بعضًا من أكثر أفلامه شهرة، بما في ذلك «من خلال زجاج مظلم -Through a glass darkly» (1961) و«بيرسونا – Persona » (1966)، و«مشاهد من زواج- Scenes from a marriage » (1973). إضافة إلى كثير من الأفلام الأخرى التي وضعت بيرغمان على خارطة المخرجين الأهم في تاريخ السينما.
تخلق كاميرا المخرج في «الشتاء الأخير» شعورًا ملموسًا بالحنين والألفة، موثقةً رحلة حجّ إلى إحدى منابع الفن السينمائي. لم يكن اختيار بيرغمان مرشدًا روحيًا لعاشقيّ السينما في هذه الرحلة صدفة، تجسد الجزيرة تزاوج الحب بالسينما وتعزز الشعور بالاضطراب الداخلي. تحمل الرحلة، رغم برودتها الشتوية، دفء الشغف والإصرار على التمسك بالفن والسينما كوسيلة للتعبير عن الذات والوجود.
ينطلق الصديقان في الفصل الثاني في مغامرة على أمل مشاهدة «الشفق القطبي الشمالي»، يشاركان تجاربهما وشغفهما بالسينما معنا ومع زوجين يتعرفان عليهما في هذه الرحلة. وهنا، تجسد كاميرا المخرج الجمال الأثيري للشفق القطبي الشمالي.
شخصيًا لا أعتقد بوجود معادل موضوعي للدهشة والرهبة اللتان يثيرهما هذا الشفق، إلا الرهبة والدهشة التي يمكن للسينما أن تثيرهما. يتوازى لقاء الزوجين الجديدين واستكشافهما لثقافات وبلدان مختلفة مع الرحلة التي تأخذنا فيها السينما، حيث نستكشف من خلالها الآخر.
يشبه البحث عن الشفق القطبي الشمالي وإمكانية عدم الوصول إليه (الشك من جديد بحسب أنجيلوبولوس) هاجس صانعي الأفلام حول جدوى رحلتهم السينمائية وإمكانية الوصول إلى الجمهور. ورغم اختلاف الشكل، يبقى المحتوى مشابهًا: الشك في الوصول إلى الهدف بعد الرحلة.
يسلّط هذا الفصل الضوء على التحديات التي يواجهها صانعو الأفلام في بلدٍ تنمو فيه صناعة السينما، لكنها لا تزال تصارع ضغوط النجاح التجاري مقابل النزاهة الفنية. بالنسبة لأولئك الذين يسعون لسرد قصص تحمل معنى، فإن الضغط لإرضاء الذوق العام قد يشوه رؤيتهم. هذا التوتر بين الفن والسوق ليس بجديد. لطالما كان موضوعًا يشغل بال الكثير من المخرجين الذين يرفضون الانسياق وراء التيار السائد.
من بين هؤلاء، يقتبس محسن أحمد جملة من المخرج المجري بيلا تار، جملة تعكس نظرة صادقة إلى روح السينما كما يراها محسن وتار على السواء، يقول تار «أنا أصنع الأفلام لأن لا أحد يعرف كيف يصنع الأفلام، وأغربل الثمين من الرديء.»
يتحدث محسن أحمد، أحد صانعي الفيلم، بشغف يتسم بالرقة والعمق وجلاء الرؤية إن جاز التعبير. حبه للسينما أشبه بحبيب يتحدث عن محبوبته، مما يضفي دفئًا على المشهد البارد لمدن السويد. تجد تأملات محسن حول دور السينما في الكشف عن طبيعة البشر والزمن صدى عميقًا على الأقل عند مشاهد مثلي تشكل السينما عالمًا موازيًا لعالم أكثر مثالية. يسترجع رسالة من أحد المشاهدين إلى دارين أرنوفسكي، يقول فيها إن الفيلم أنقذ حياته. تدفع هذه الحكاية أحمد إلى التساؤل: «هل يمكن لفيلم تافه أن ينقذ حياة شخص ما؟» تأملاته هذه شهادة على قوة التغيير التي تملكها السينما، الشكل الفني الأكثر قدرة ربما على تغيير شكل الحياة ووجهات النظر.
ولأن الرحلة تحتاج إلى وسيلة للترحال فالقطار الذي يصفه محسن وهو على صواب بأنه أحد العناصر السينمائية ستكون مطيته في هذه الرحلة. كان القطار رمزًا حاضرًا دائمًا منذ فجر السينما، مسارًا لرحلات لا تنتهي عبر الزمان والمكان. من فيلم «وصول القطار إلى محطة لاسيوت» للأخوين لوميير، إلى أفلام مثل «الجنرال The General» و«السطو الكبير على القطار The Great Train Robbery»، كان القطار دائمًا جزءًا من هذه الرحلة السينمائية. وكما كانت السينما في بداياتها وسيلة لاستكشاف المجهول.
القطار هنا ليس مجرد وسيلة نقل، بل يغدو وسيلة لاكتشاف عوالم داخلية وخارجية، تمامًا كما يفعل أبطال الفيلم وهم يخوضون في رحلة تأمل في الناس، والسينما، والظواهر الطبيعية. القطار هو استعارة للرحلة السينمائية التي يخوضها كل عاشق للسينما، حيث تفتح كل مشهد نافذة جديدة على العوالم الخفية. يتعمق الحوار بين الصديقين في مقصورتهما الضيقة، لتصبح المسافة بينهما أصغر، ويصبح الموضوع الذي يعشقانه: السينما، إلى القلوب أقرب. هذه الحميمية التي تنشأ في ذلك الفضاء الضيق، لا تبقى محصورة بينهما، بل تنتقل إلينا كجمهور، فنشعر وكأننا جزء من هذه الرحلة، نصغي إلى تلك الأحاديث وكأننا معهم على متن هذا القطار الذي لا يتوقف إلا لبداية رحلة جديدة.
تقنيًا، يضيف استخدام كاميرا محمولة باليد طوال الفيلم الوثائقي مزيدًا من الأصالة والحميمية. يسمح هذا الخيار بتجربة شخصية أكثر خصوصية، مما يجذب الجمهور إلى الرحلة كما لو كانوا يسافرون إلى جانب صانعي الفيلم. كما يعزز التحرير السلس والانتقالات السلسة بين المشاهد هذا الشعور بالاستمرارية والتدفق.
تضفي موسيقى شوبان وساتي على الفيلم طابعًا شاعريًا وتأمليًا يعمق التجربة السينمائية. تعزز مقطوعات شوبان الرومانسية من لحظات الحميمية والتأمل الداخلي للشخصيات، فتربط المشاهد بعواطفهم بشكل رقيق وحالم، نتحدث هنا عن سينمائيين يشكل الحلم محركًا أساسيًا لحياتهم. أما موسيقى ساتي، فتخلق أجواء هادئة تتناغم مع رحلة الشخصيات تعكس إيقاعًا هادئًا يمنح الفرصة للتفكير والتأمل في هواجس محسن كصانع أفلام يحاول تثبيت خطاه في عالم لا يشبهه كثيرًا.
ينقل الفيلم في النهاية رسالة حب دائم للسينما. وعلى الرغم من التحديات والإحباطات، يظل شغف صانعي الفيلم ثابتًا لا يتزعزع. فهم يعبّرون عن رغبتهم العميقة في بناء إرثهما السينمائي في بلدهما، متمسكين مثلنا بإيمانهما بأن لدى وطنهم الكثير ليقدمه.
اقرأ أيضا: «سانتوش»… ما معنى الهزيمة؟