فاصلة

مقالات

السينما.. مؤرخ المدن الخفي

Reading Time: 6 minutes

«من خلال فهم الناس يمكننا إدراك المكان بشكل أفضل ومن خلال فهم المكان يمكننا إدراك الأشخاص بشكل أفضل»

آجنيس فاردا

تعتمد السينما على الزمان والمكان كعاملين لتأطير السردية المروية بصرياً، ويتكئ صناع الفيلم من سيناريست ومونتير ومخرج على المكان بكافة أبعاده وتفاصيله. فالمكان هو الجندي المجهول في الأفلام، السردي منها والوثائقي، الممتد منها والقصير. 

وبالعودة لبعض التجارب السينمائية مثل الموجة الفرنسية و التيار الواقعي في  سينما الثمانينات المصرية؛ نجد أنه المكان له حضور طاغٍ لا يمكن تجاهله، فالمقاهي والشوارع وإشارات المرور والميادين كانت جزءًا لا يتجزأ من رحلة البطل/ة في السردية، أو أن الحكاية بدأت في ذهن صانع الفيلم من خلال المكان بسبب الارتباط الحميمي مع ذلك المكان وما يمثله في ذاكرة المؤلف / المخرج، مثل سلسلة أعمال يوسف شاهين التي تتخذ من الإسكندرية – مدينته الأثيرة- فضاءً عامًا للحكاية. أو مثل وثائقي المخرجة الفرنسية آجنيس فاردا Daguerreotypes، الذي تناولت فيه حياة بعض الأشخاص الذين يديرون محلات صغيرة في ذات الشارع الذي تقيم فيه. هذا الارتباط العاطفي دفعها لتعود بعد 30 عامًا لترصد التغيرات في حياة الناس والمكان من خلال فيلمها Rue Daguerre in 2005.
تشكل الأمكنة جزءًا مهمًا من تجربة فاردا السينمائية، فأشهر أفلامها Cléo from 5 to 7، الذي يعتبر من كلاسيكيات الموجة الفرنسية الجديدة، يتجاوز حكاية كيف تمضي امرأة جميلة ساعتين من الزمن يمزقها فيهما القلق والانتظار قبل موعدها مع الطبيب، بسبب احتمالية تعرضها لمرض خطير.

خلال تلك الرحلة، نستكشف ونقترب من مفاهيم ومعاني مختلفة للحياة عبر عدسة فاردا التي تستعرض جمال مدينة باريس وانعكاسات ملامح البطلة في الواجهات الزجاجية وجدران المقاهي والمرايا وزجاج النظارات، وكأنها في مواجهة مع ذاتها عبر الأزقة والمقاهي، ومنحت النهاية المفتوحة لمشاعر القلق أن تتخذ مسارات متعددة تتشكل فيها حسب ذهنية وتجربة المتلقي.

تبدو تجربة فاردا المكانية تجربة مميزة تستحق تسليط الضوء عليها، لأنها تحرص على إبراز تفاصيل تفاعل شخصياتها مع الحيز المكاني. اختارت فاردا الشواطئ عنوان لفيلمها الوثائقي شواطئ آجنيس«The Beaches of Agnes»  الذي تقوم فيه برحلة عبر الزمن، تستعرض من خلالها تجربتها وذكرياتها مع شواطئ مرت بها، ربما لأن الشواطئ تمنح مرتاديها مساحة للارتياح والتأمل، والقليل من الفضول تجاه الضفة الأخرى، وحتمًا بسبب اتساع الحب الذي تكنه فاردا للشواطئ وعبرت عنه في مقولة يمكن ترجمتها إلى: «لو فتحنا دواخل الأشخاص لوجدنا المناظر الطبيعية، وبداخلي توجد الشواطئ». 

يمكننا أن نعزو تميز تجربة فاردا وحميميتها إلى بداياتها التي سبقت دخولها مجال السينما، وهي مرحلة التصوير الفوتوغرافي وتجربتها في المسرح، ما منحها إدراك وفهم أعمق لأهمية إطار الصورة؛ فالمكان هو جزء من إطار تشكيل صورة الإنسان عن ذاته وعن الآخر. ومن المفارقات الجديرة بالذكر أن محل الإطارات المجاور لمنزلها الوردي الشهير في الدائرة الرابعة عشر في باريس، لا يزال يمارس نشاطه كما كان في الأيام الخوالي، وزيارته جزء من الجولة السياحية السينمائية للمهتمين بأعمال فاردا. 

تقدم فرنسا فيما يتعلق بالسينما وصناعها تجربة مختلفة في نواحي عدة ، وهذا أمر يليق جدًا ببلد ارتبطت بدايات السينما باسمه من خلال الأخوة لوميير. هذه التجربة تتضح بشكل جلي في السياحة السينمائية، التي تعتبر جزءًا من صناعة السياحة، فبعض الدول تقوم بالترويج لبرامج سياحية متخذة من أماكن تصوير الأفلام والمسلسلات الناجحة، وبعض دور النشر او المؤسسات المختصة بالفن السابع تصدر منشورات أو كتب تتحدث عن المدن التي ظهرت في أفلام سينمائية شهيرة،  مثل السلسلة الصادرة عن معهد الأفلام البريطاني التي تناولت مدن مثل نيويورك ولندن ولوس أنجلوس وطوكيو وباريس ولاس فيغاس. لكن التجربة الفرنسية لا تتعلق بزيارة أماكن التصوير؛ لكنها تربط تجربتك كسائح بحياة صُنَّاع الأفلام من حيث أماكن إقامتهم وتفاصيل يومياتهم ومقاهيهم وحاناتهم المفضلة، وعلاقاتهم مع الوسط الثقافي، وحتى مواقفهم في القضايا الاجتماعية. مما يخلق لدى السائح فهم أعمق عن صناع السينما وكيف تكونت رؤيتهم وأحلامهم التي عبروا عنها في أفلامهم.

ومن اللافت للنظر أن هذه التجربة لا تغفل تاريخ المدينة العمراني والتغيرات التي حدثت في المكان من وقت تصوير الفيلم حتى يومنا هذا، فتبدو السينما مؤرخًا ينحاز للجمال في كتابة التاريخ، ولاعبًا مهمًا في تدوين تاريخ المدن.

تتضح علاقة السينما بكتابة تاريخ المدن من خلال الفرضية التي ناقشها الدكتور نزار الصياد مع طلابه في تخصص العمارة والتاريخ العمراني ودونها في كتاب «القاهرة السينمائية: عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع»، عن اختفاء نيويورك ولوس أنجلوس بسبب كارثة طبيعية أو حرب نووية، بحيث لا يبقى من هذه المدن سوى صورها التي سجلتها الأفلام السينمائية التي أخرجها وودي آلن ومارتن سكورسيزي. ثم يطلب من الطلاب تخيل المدينتين استنادًا على الصور السينمائية.

هذه الفرضية تقدم برهان عن أهمية السينما ودورها في كتابة التاريخ المصور عن الإنسان ومدينته وإبراز العلاقة بينهما. 

العمق في التجربة الفرنسية وغزارة المعلومات التي تحظى بها كسائح مهتم بالأفلام وتاريخ صناعتها، يعود للاهتمام بالتدوين والنشر بأشكال متعددة كالنشرات والدوريات والكتب التي يضعها المهتمون ومؤسسات الدولة الثقافية، مما يشكل أرشيفًا غنيًا وثريًا يسهل للقائمين على تقديم الجولات السياحية الاستفادة في جولاتهم. وما نعد ما ذكرناه سابقًا من تجربة فاردا في تدوين حياة جيرانها في الشارع إلا جزءًا من هذه الاهتمام. ويسهم وجود الجمهور المتعطش والشغوف في انتعاش هذا المجال، فعلى سبيل المثال بعد جولة قمت بها مع مرشدة سياحية فرنسية لزيارة أهم المعالم في تجربة فاردا، مثل بيتها  الوردي وشركة الإنتاج الخاصة بها التي تجاوره، والشوارع والمنازل والمقهى والصيدلية، و حتـى الدوار الذي يتوسطه تمثال الأسد الشهير الذي منحته شكلًا مختلف من خلال دس العظمة في فمه، والمقبرة التي تضم رفاتها والعواميد الحديدة القصيرة  المحاذية للمقبرة والتي قام حفيدها بتلوين جزء منها باللون الأحمر تأبينًا لجدته وابقاءً لذكراها. بعدما شاهدت كل هذا أخبرتني المرشدة  ونحن نعرج على المبنى الذي أقامت به سيمون دي بوفوار – التي تقاطعت تجربتها النسوية مع فاردا في نهاية الستينات وبداية السبعينات-؛ أنها ستقوم عصرًا بجولة باللغة الفرنسية لمجموعة جلها أشخاص تجاوزا الستين من العمر، لتتبع أثر تروفو السينمائي في باريس، وأنها انتهت من نشر كتاب يهتم في هذا الموضوع باللغة الفرنسية. 

قدمت المملكة العربية السعودية تسهيلات عدة تهدف إلى تطوير صناعة السينما وجذب صناع الأفلام من خارج المملكة لتصوير أفلامهم فيها. وتنوعت الأماكن بين الصحراء والمدينة. فعلى سبيل المثال أفلام مثل قندهار وCherry وولاد رزق 3، كلها وثقت جغرافية الأرض وملامح المدن.

على النطاق المحلي يبدو هذا التوثيق بشكل أكثر حميمية ودفءً في أعمال المخرجين السعوديين الأخيرة، والتي تبدو قصائدًا بصرية تجاه مدنهم الأثيرة، لأن المدن بعدسة المخرجين تصبح ساحرة وتفضح أسرارها بسهولة.

واللافت أن المخرجين يفضلون الليل فضاءً زمنيًا لهذا السرد، ربما لأن الليل في ذهنية المتلقي هو وقت السمر والسرد والحكايات. ففي الذاكرة شهرزاد ثرثارة في الليل، صامتة في حضرة النهار. أو لأن الليل كما يقال أبو الأسرار؛ فمثلًا كانت كاميرا المخرج علي الكلثمي في فيلم «مندوب الليل» تستعرض أسوار وأضواء الرياض التي تخفي الكثير خلفها، كالتباين والطبقية الاجتماعية في ليل الرياض الشتوي بين طرقات الديرة والمنفوحة مقابل مباني حطين. أما المخرج محمود صباغ فقد اختار شوارع جدة وميادينها مبتدأ الليل والحب في فيلم «آخر سهرة في طريق ر» والنهاية كانت الصحراء على مشارف الرياض. 

آخر سهرة في طريق ر

ولأن السينما بشكل عام هي ثقافة تراكمية، وبالنظر للتجربة الرائدة والمميزة في الشرق الأوسط والأقرب لنا جغرافيًا وهي تجربة السينما المصرية، يجدر بنا التعلم من تأثير غياب التوثيق المتعلق في صناعة السينما وتحديدًا أماكن التصوير للأفلام التي تعتبر من كلاسيكيات  السينما المصرية، فالإنتاج الضخم والتاريخ الطويل للسينما المصرية لم يقابله ما يليق به من تدوين وأرشيف وحفظ للمعلومات، فأغلب المنشورات هي أعمال صدرت على هامش المهرجانات أو طبعت لمره واحدة، وبالتالي لا يسهل الحصول عليها للمهتمين بالاطلاع بشكل أكثر توسعًا عن القاهرة والإسكندرية في عيون مخرجيها، أو زيارة أماكن التصوير. ولتقريب الصورة دعنا نتخيل ماذا لو صدر كتاب تحت عنوان «أطلس القاهرة السينمائي» على غرار كتاب الدكتورة سامية محرز «أطلس القاهرة الأدبي» الذي وثقت فيه شوارع القاهرة كما ظهرت في روايات نجيب محفوظ، ويحي حقي، ويوسف إدريس، وغيرهم! 

تبدو الفكرة ساحرة لكنها تحتاج جهودًا عديدة في مجال التوثيق، بالإضافة إلى احتمالية ضياع بعض المعلومات بسبب مرور الزمن. لذلك أتمنى وجود مبادرة سينمائية في السعودية تهتم بتوثيق المعلومات بشكل مفصل عن الأماكن وسبب اهتمام المخرجين بها تحديدًا، وارتباطها بتجربتهم الإنسانية وذاكرتهم حتى نخلق لمن يأتي بعدنا أرشيفًا يليق بصناع بدايات السينما السعودية. 

اقرأ أيضا: السينما والأدب.. تاريخ من الاقتباسات

شارك هذا المنشور