فاصلة

مراجعات

«السنيور .. عقدة الخواجة»: نقد خطاب تلميع «الأجنبي»!

Reading Time: 6 minutes

يبدأ فيلم «السنيور .. عقدة الخواجة» بظهور عبارة مواربة نوعاً ما، تشير إلى كون الفيلم غير مقتبس من قصة حقيقية، مع وضع «إيموجي» ضاحك بجانبها، وهذا يشي بأن الفيلم من الممكن أن لا يبتعد كثيراً عن واقعنا وحالنا المعاصر. 

لكن هل استطاع فيلم «السنيور»، بعيداً عن كونه مقتبساً من الواقع أو لا، أن يقدم قصة وحبكة مقنعة ومنطقية ترتبط مباشرة مع ما يريد أن يقدمه ويقوله؟ إلى أي درجة استطاع الفيلم أن يقترب من موضوع ليس بالجديد كحالة مجتمعية معايشة ومرتبطة بالذهن؟

 إن ما يُقصد بـ«عقدة الخواجة»، كما هو معلوم، مصطلح يشير إلى حال الكثير من المجتمعات العربية عموماً الواقعة تحت سطوة الرجل الغربي وإشعاعه، بغض النظر عن الكفاءات التي يحملها، إذ ما دام «من تلك الجهة» فمعنى ذلك أن له الحضور الطاغي؛ وهذا يجعل أخطاءه غير موجودة، أو يمكن التساهل معها. 

يدور فيلم السنيور الذي جاء من إخراج أيمن خوجة، وهو الكاتب، إضافة إلى العنود سعود وبدر العساف، حول المهندس السعودي «سالم» (ياسر السقاف) ذي الكفاءة العالية، أو هذا ما نظنه به، إما لأنه سيُرَقَّى إلى منصب أعلى من منصبه، كما سنعرف في بداية الفيلم، وإما لإتقانه اللغة الإنجليزية، عكس كل الموجودين في العمل، وسنأتي على نقد هذه النقطة فيما بعد. وبالرغم من كل هذه الكفاءة والتميز يُطرَد «سالم» بشكل مفاجئ ومتعسف من الشركة؛ بسبب المهندس الأجنبي (الخواجة) ذي الكفاءة المتدنية «كارلوس»، الذي له الكلمة العُليا عند صاحب الشركة. 

يواجه «سالم» عندها الكثير من الرفض وعدم القبول من الشركات الأخرى، ويأتيه الحل بأن ينتحل صفة مهندس أجنبي من إيطاليا كي يحظى بالوظيفة التي يعمل فيها أخو زوجته (الممثل محمد الزريق). وبطبيعة الحال يأتي هذا الوضع بالكثير من المفارقات والمنعطفات والتحديات، التي تتخلق من خلالها ما يمكن أن نسميها: «كوميديا»، في مثل هذا الظرف.

مشهد من فيلم السنيور .. عقدة الخواجة
مشهد من فيلم السنيور .. عقدة الخواجة

من يتابع «السنيور» سوف يستحضر مباشرة أفلاماً كثيرة ومشهورة قَدمت ما يشبه أزمة الفيلم، في أن هناك شخصية تُرفض في وضع ما، ولكي تصل إلى ما تريده تلجأ إلى الحيلة والتخفي لكي تصل إلى مرادها. ومن أمثلة ذلك «Mrs. Doubtfire» الذي أخرجه كريس كولومبوس ومثّل فيه روبن ويليامز. و«Tootsie» بإخراج سيدني بولاك، وتمثيل داستن هوفمان. و«Some Like It Hot» من إخراج بيلي وايلدر وتمثيل مارلين مونرو وجاك ليمون… 

تلك النوعية من الأفلام تعالج بطبيعتها الإشكالية ذاتها التي يصطدم بها البطل، وما يصاحب قراره بالتخفي، الذي يجلب له نتائج وعواقب تتسم حكاياتها بالفكاهة والكوميديا. والتأمل في المأزق الوجودي في طائفة الأفلام هذه أيضاً يجعلنا أقرب إلى تفهّم اتخاذ أبطالها مثل هذا القرار والتعاطف معهم. 

مشهد من فيلم «Mrs. Doubtfire»
مشهد من فيلم «Mrs. Doubtfire»

فيلم «السنيور»، بالرغم من أنه يحمل المنطلقات والرغبات نفسها، إلا أنه ابتعد عن موضوعه أكثر مما أقترب منه؛ وهذا أوقعه في التشتت والترهل، ومِن ثم الضعف في إيصال ما يريد أن يقوله. فرغبة المهندس سالم في الحصول على مبتغاه من خلال التخفي في شخصية المهندس الإيطالي كان متاحاً لها أن تكوّن إطار قصة وتحولات ومفارقات كبيرة لو أن الفيلم ركز فيما يريد أن يقوله داخل هذا الإطار، من دون التشتت مع قصص جانبية دخيلة، مثل إقحام المجرمين والمخدرات الذي لم يكن له أي رابط مع القصة الأساسية بشكل جذري، سوى وجود خيط واه وعلاقة ضعيفة متعلقة بشخصية جانبية في البداية هي شخصية «هرجة» (محمد عباس).

تنقلب الحال والحبكة في الفيلم لتصبح القصة الدخيلة هي القصة الرئيسة وتتراجع أمامها القصة الأساسية إلى الهامش، ودون أن تُؤثر أي من القصتين على الأخرى فيما يتعلق بمستوى تطور البطل وتحوّله، وكأنما نشاهد فيلمين بدلًا من فيلم واحد، جرى دمجهما لتطويل القصة وتقديمها بالشكل الذي رأيناها عليه في الفيلم.

محمد عباس من فيلم السنيور
محمد عباس من فيلم السنيور

لو أزلنا أياً من القصتين فلن يؤثر ذلك إلا على وقت الفيلم، كما أن الفيلم وقع من خلال هذا الخيار في حالة من الافتعال والتصرفات غير المبررة درامياً، وأوّلها الخيار الذي اعتمد عليه الفيلم في الأساس كخط رئيس، وهو تحول البطل إلى شخصية المهندس الإيطالي، من دون رسم دقيق لشخصية «سالم»، وإيجاد خلفية ذات توجهات خارجة عن المألوف وغير تقليدية؛ لذا جاء قرار الشخصية التحول باهتاً وضعيفاً وغير مبرر، بل إن كل الخيارات التي استلزمت الحصول على النتيجة المرجوة من هذا التحول، كالحصول على جواز مزيف وتواصله لهذا السبب مع شخصية مجرمة، كانت مفتعلة وغير واقعية. ولذا كما يقولون: إذا كانت البداية خاطئة فالنتيجة ستكون بالضرورة خاطئة. 

ولعل ما جاء في بداية الفيلم حتى نهايته الكارثية والمصطنعة، التي حضرت بشكل بليد، في محاولة لتقليد أفلام توم كروز في «المهمة المستحيلة»، عندما يُنزع قناع ليظهر قناع، وهكذا… دون بذل أي جهد لتقديم نهاية لا تكون بهذه البساطة والاستسهال. أقول: لعل ذلك ما هو إلا مثَل مضروب على للكيفية التي تحول فيلماً يحمل فكرة جيدة قابلة لأن يأتي منها الكثير من التفاصيل الطريفة والممتعة،  إلى فيلم غير متناسق، خاوٍ في داخله، مترهل في تماسكه.

 مشهد من فيلم Mission impossible
مشهد من فيلم Mission impossible

حتى على مستوى الشخصيات، وجدنا أنها ظهرت في شكل نمطي ومعتاد، كشخصية المهندس «سالم»، فبالرغم من كونها الشخصية الرئيسة إلا أنها جاءت، كما أشرت، دون عمق على مستوى التحول والتغير، وينسحب ذلك على شخصية «كارلوس» المهندس الأجنبي الذي جاء حضوره كعدمه، من دون حضور التوتر والصراع المنشود بين الشخصيتين، خصوصاً أن الشخصية حضرت منذ بداية الفيلم حتى منتصفه تقريباً، ليتم الاستغناء عنها دون أي مبرر. لذا صار الفيلم يدور حول بطل يتشابك مع شخصيات قد تكون الضد، ليتخلى عنها أو تصبح هلامية لا وجود فعلياً لها فيما بعد.

ولعل المأزق الأكبر الذي وقع فيه الفيلم، وكان يفترض أن يكون الأسهل، هو طريقة تعاطيه مع فكرته الأساسية التي تدور حول كيفية ذهاب الفرص إلى الأجنبي الغربي (الخواجة)، في حين أن الموظف السعودي أو السعودية ذوي الكفاءة العالية التي قد تتفوق على الأجنبي، لا يحصلان على الفرص والفوائد نفسها. إلا أن الفيلم، ويا للمفارقة، قدَّم عكس ما بدا أنه كان يرمي إليه في الكثير من لحظاته؛ فالشخصيات، سواء أكانت أساسية أم جانبية، ساذجة وسطحية، لدرجة أن معظمهم لا يجيد الإنجليزية، بالرغم من كونهم مهندسين، إلا البطل بالطبع! وكأنه الوحيد المخول بالتكلم باللغة الإنجليزية بسلاسة وإتقان.

ياسر السقاف من فيلم السنيور .. عقدة الخواجة
ياسر السقاف من فيلم السنيور .. عقدة الخواجة

وهنا يضعك العمل في إشكال حتى ثقافي ومعاكس للواقع، حيث إن المهندسين، الذين يعملون في شركات كبيرة بالتحديد، تكون اللغة عندهم أمراً مفروغاً منه، كحال لغتهم العربية. إضافة إلى أن الشخصيات تظهر بصورة انهزامية ومهزوزة وضعيفة، فإذا كان هذا حال هذه الشخصيات فكيف بربك تريدني أن أوظف أي سعودي؟ سوى البطل طبعاً! 

هناك الكثير مما قد يقال عن الفيلم، سواء على مستوى أداء الممثلين، أو الحوارات، أو مستوى طبيعة الشخصيات وطريقة تعاطي بعضها مع بعض، على نحو قد يكون بعيداً عن الواقع. إلا أن ما يعنيني في الفقرات المقبلة من المقالة  أكثر هو التحدث بشكل عام عن الفيلم السعودي، وعن الأسلوب الواجب أو ما يظن البعض أن من المفترض التعاطي به. 

هل ننظر إلى الفيلم السعودي، كما يقول البعض، على أنه طازج وجديد، وعليه ينبغي أن يكون التعامل معه باللين والرفق والتشجيع فقط؟ أم نقول إن الفيلم السعودي قد أخذ فرصته الكافية، ولذا فإن  علينا أن نُعمِل فيه مشرط النقد والتشريح بشكل قاس دون النظر إلى أي مقدمات من الممكن أن تثبط هذه الهمة، وهذا  قد ينفّر صنّاع الأفلام من النقد والتعاطي معه؟

مشهد من فيلم السنيور .. عقدة الخواجة
مشهد من فيلم السنيور .. عقدة الخواجة

وما أقوله أنا هو أن الفيلم السعودي، كحال الكثير من الأفلام التي يوجد منها العظيم (قد نحتاج بالتأكيد وقتاً للوصول إلى ذلك) والجيد أو السيئ، ونحن لسنا بعيدين عن هذا الجو العام في جميع أنحاء العالم، فإلى يومك هذا، ومع وصول الصناعة في بعض البلدان درجة النضج الفني والصناعي، لا تزال تُقدَّم فيها أفلام أقل ما يقال عنها إنها أفلام سيئة ورخيصة. 

لذا نحتاج هنا بالتأكيد إلى هذا الحراك وازدياده، وإلى استمرار الصناعة السينمائية بغض النظر عن مستواها، ومع الوقت سنتطور بازدياد التجارب واحتكاكها بالنقد والأخذ به، من دون نصب جدار يمنع هذا من الأخذ من ذاك. 

إن عدد الأفلام السعودية التي تم تنفيذها سواء قبل افتتاح صالات السينما عندنا أو بعده، وكذا منذ عرض هذه الأفلام في الصالات السعودية إلى أواسط هذه السنة، يعطي مؤشراً واضحاً على تنوّع مواضيع الأفلام وطريقة تقديمها، وعلى أن الأفلام الجيدة ليست بالقليلة، وفرص نمو عددها متاحة، وكل الذي نحتاجه هو الثقة بأنفسنا وقصصنا، والخروج إلى النور بأسلوب يشبهنا، من غير تقليد قصص «الخواجات» واستخدام أسلوبها في معالجة قصصنا.  

اقرأ أيضا: «المُرهَقون»… تَعَبُنا الشخصي في مرآة السينما

شارك هذا المنشور