فاصلة

مراجعات

«الذاكرة الأبدية» للحب والحياة والوطن

Reading Time: 4 minutes

في جوائز الأوسكار، تتجه أنظار متابعي السينما العرب هذا العام بصفة خاصة إلى فئة أحسن فيلم وثائقي طويل، بسبب ترشح “بنات ألفة” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية للجائزة. الحظوظ الأوفر للتتويج حتى الآن من نصيب فيلمين آخرين، أولهما “بوبي واين رئيس الشعب Bobi Wine: The People’s President” الذي تقف خلفه شبكة ناشونال جيوغرافيك بحملة ترويجية ضخمة، والثاني “20 يومًا في ماريوبول 20  Days in Mariupol” بموضوعه المثير للمصوتين حول الاجتياح الروسي لأوكرانيا.

لكن بجوار الأمنيات العربية لفيلم بن هنية، وحسابات التمويل والسياسة التي ترجح كفة الفيلمين الآخرين، يتواجد بين المرشحين فيلم آخر صغير، رقيق، تبدو حظوظه في التتويج بالأوسكار محدودة، لكن قدرته على التأثير وتحريك المشاعر وطرح الأسئلة واسعة تفوق حسابات الجوائز. الفيلم هو “الذاكرة الأبدية The Eternal Memory” للمخرجة التشيلية مايتي ألبيردي.

تمتلك ألبيردي خبرة واسعة في صناعة وثائقيات موضوعها أشخاص متقدمين في العمر، ففيلمها الأخير الذي ترشحت عنه للأوسكار لأول مرة “المُخبِر المتنكر” The Mole Agent؛ دارت أحداثه حول تحقيق سري يخوضه نزيل عجوز للتأكد من شكوك لدى المسؤولين حول إساءة الممرضين معاملة نزلاء أحد دور المسنين. وسبقه فيلمان آخران هما “الناضجون” The Grown-Ups 2016 عمّن يتقدمون في العمر من مرضى متلازمة داون، و”المرة الوحيدة” La Once 2014 عن لقاء شهري واحد تجتمع فيه صديقات قدامى متقدمات في العمر.

بين الخاص والعام

تواصل المخرجة مدخلها الخاص في التعامل مع البشر في هذه المرحلة العمرية المشحونة بالتناقضات، ففيها يمتلك الإنسان ذخيرة من الخبرات والتجارب والحكمة في الحياة، تتناقض مع وهنه الجسدي وتحوّله في كثير من الحالات إلى عبء يحتاج رعاية خاصة من الآخرين. التيمات التي اختبرتها ألبيردي في أفلامها السابقة تأخذها هذه المرة إلى منعطف آخر، أكثر خصوصية وعمومية في آن واحد.

الخصوصية منبعها فرادة الحالة التي ترصدها في “الذاكرة الأبدية”، فأبطالها شخصيات بارزة في المجتمع التشيلي: أوجوستو جونجورا، الصحفي والمذيع السياسي الشهير الذي نشط خلال فترة الديكتاتور بينوشيه، وتخصص بعدها في جمع الحكايات من الذاكرة الجمعية للشعب التشيلي، وزوجته الممثلة باولينا يوروتيا التي تم اختيارها في فترة لتشغل منصب وزيرة الثقافة في بلدها.

المناصب الرسمية والنشاط الثقافي الواسع كانا في ماضٍ يبدو وكأنه حياة منفصلة، حتى شكل الأبطال فيها كان مختلفًا عن حاضرهم الذي نراهم عليه في الفيلم، إذ نشاهد فيه رجلًا عجوزًا مصابًا بمرض الزايمر (زهايمر)، يفقد ذاكرته في كل يوم أكثر من سابقه، وإلى جواره زوجة مخلصة، تعشق زوجها الذي تصغره عمرًا بنحو 20 عامًا، وتُكرس وقتها لرعايته وتلبية احتياجاته، ومحاولة مساعدته للحفاظ على البقية الباقية من ذاكرته.

إذا كان تلاشي ذاكرة أي إنسان أمرًا مُفجعًا عمومًا، فإن الوضع يزيد هولًا عندما تعرض المخرجة مقاطع من الماضي بالغ الزخم الذي عاشه أوجوستو. لم يكن بطلنا مجرد رجل آخر يعيش حياة عادية، وإنما كان مفكرًا وقائدًا للرأي وصاحب اهتمام خاص بقيمة الذاكرة لحماية تاريخ الأوطان. أن ترى رجلًا كهذا يتحول تدريجيًا إلى مجرد جسد واهن برأس خاوٍ، لا يمكنه حتى التعرف على وجهه في المرآة، تدرك أن تلك كارثة مكتملة الأركان.

تتعمق الكارثة عندما نرى قدر الوله الذي تكنّه زوجته له، والذي يُعبّر ضمنًا عن الجاذبية التي امتلكها يومًا فجعلت امرأة متحققة مثلها تعشقه لهذه الدرجة. تأثير يمكن أن نلمسه أيضًا في مواد الأرشيف الشخصي، الذي نتابع فيه كيف تطورت العلاقة بينهما، وكيف تزوجا بعد 20 عامًا من الحب، أسسا خلالها بيتهما المُطل على جبل، من دون أن يعلما أن أحدهما لن يتمكن من تكوين ذكريات جديدة في البيت، بل وسيفقد ذكرياته القديمة تباعًا.

ذاكرة الإنسان والوطن

المخرجة تتعامل برقة شديدة، وباحترام أشد، مع الفرصة التي نالتها بالولوج إلى تلك اللحظات الحرجة من حياة عاشقين فقد أحدهما أهم ما يربط الإنسان بعالمه. لتعرض ألبيردي علاقتهما بعذوبة تضرب على عدة أوتار، ففيها من الحب غير المشروط ما يجعلنا نعتبره فيلمًا رومانسيًا، وفيها من المأساة ما يجعله تراجيديا مكتملة، بل ويلامس حدود الرعب عند من يخشى أن يكون قدره الإصابة بالمرض نفسه، أي أن الفيلم يخرج من خصوصية العلاقة بين أوجوستو وباولينا إلى رحاب الشعور الإنساني عمومًا.

غير أن “الذاكرة الأبدية” لا يكتفي ببعده الإنساني المُطلق، بل يربطه برؤيا تاريخية سياسية واجتماعية، وثيقة الصلة بتاريخ تشيلي لكن يمكن بقليل من الاجتهاد تطبيقها في أي مكان حول العالم عاش فيه البشر تحت وطأة حكم ديكتاتوري ثقيل الوطأة والظل.

في ذروة الفيلم، تقرأ الزوجة المحبة سطورًا كتبها زوجها الذي كان يومًا الصحفي القدير أوجوستو جونجورا في كتاب جماعي عنوانه “تشيلي… الذاكرة المنسية”، سطورًا تحدث فيها عن قيمة الاحتفاظ بذاكرة الأمة، حتى أصعب وأسوأ اللحظات منها، لأنها الوسيلة الوحيدة لضمان عدم تكرار الماضي التعيس، كي تتمكن البلاد من تحديد هويتها.

دعك من الوقع المأساوي لمعرفتنا أن كاتب تلك الكلمات تحديدًا لم يعد قادرًا على التعرف على اسمه أو وجهه، لكن بقاءها وبقاء من يتلوها ومن يوّثقها ويضعها في فيلم، كلها أمور تؤكد بشكلٍ عمليّ على رؤية أوجوستو. أن أفكاره وكلماته التي قرر تسجيلها باقية ومؤثرة بمعزل عن بقاء صاحبها أو حتى إدراكه معناها، وهو جوهر المفارقة المشحونة بالصدق والحزن التي تُمسك بها مايتي ألبيردي في فيلمها: أننا كبشر محكومون – مهما علا قدرنا- بالزوال، وأن الوسيلة الوحيدة لمقاومة هذا الفناء هو ترك آثارنا في العالم، سواء كانت في صورة كلمات مكتوبة، فيلم مصور، أو حبيب سيظل يحمل الذكرى حتى بعد زوال صاحبها.

هذا الزخم من الأفكار التي يحملها “الذاكرة الأبدية” هو ما يمنح الفيلم قيمة أكبر من شكله البسيط. فالإنسان ذاكرة، والحب ذاكرة، والوطن ذاكرة، وعلاقة زوجين كانا يومًا ملء السمع والبصر، فصارا عجوزين يحاربان المعركة الأخيرة، هي نموذج مصغر يُلخص ببلاغة مدهشة كل القيم: الإنسانية والوطنية، العدالة والحب، والذاكرة الأبدية.

اقرأ ايضا: النجم الصامت… لماذا ينزعج روبرت دي نيرو من الحوارات الصحفية؟

شارك هذا المنشور