ربما يعد دونالد ترامب واحدًا من أكثر الرؤساء والأشخاص إثارة للجدل في تاريخ العقد الأخير بخطابيته الشعبوية، وجرأته على شتم وإهانة خصومه من دون اعتبار لكاميرات أو توثيق إعلامي، بل واستخدام كل ما يلزم ليفوز بأي شيء يريده.
هذه الشخصية الخلافية التي وصلت، وربما تصل ثانية إلى مقعد رئاسة الدولة صاحبة أكبر اقتصاد وأكبر آلة عسكرية على سطح الأرض لفتت المخرج علي عباسي صاحب «عنكبوت مقدس Holly Spider»، يعود هذا العام إلى مسابقة كان الرسمية بفيلم يتناول رحلة صعود هذا ترامب وأستاذه روي كوهِن. الفيلم يُدعى بالإنجليزية «The Apprentice»، وهو عنوان برنامج تلفزيون الواقع الذي احترف ترامب تقديمه لسنوات وصنع من خلاله قدرًا غير قليل من ثروته وخلق رواجًا لمشروعاته العقارية. وتعني الكلمة التلميذ أو المتدرب، ويرجع أصلها إلى التراث المسيحي، إذ يكون هذا المتدرب أقرب ما يكون إلى المريد أو الطامح لنيل المعرفة من الأستاذ، مثل المسيح وتلاميذه أو مريديه.
هذه هي الدراما الأساسية في فيلم عباسي، إذ يركز الفيلم على مرحلة صعود ترامب خلال ثمانينيات القرن الماضي، لا على لحظات وصوله للسلطة ولا على طفولته، بل فترة تتلمذه على يد المحامي روي كوهِن، الملقب بـ «رجل الاغتيال السياسي».
في لقطة في بداية الفيلم، نراهما – كوهِن وترامب- يجلسان متباعدين في حانة للأثرياء، ويخبر ترامب صديقته أن هذا المكان هو ساحة التعرف على أباطرة المجتمع، وهنا يتبادل كلاهما نظرة، قبل أن يطلب كوهِن أن ينضم إلى ترامب وصديقته. في اللحظات التي نرى فيها القطع بين وجه ترامب ووجه كوهِن في الكادر، تشعر بأن هذا نوع من نداء إلهي، سيغير حياة المريد وشيخه أو المتدرب وأستاذه على حد سواء.
خارج الجدل السياسي عن ترامب وكوهِن، المحامي الفاسد وصديق نيكسون المقرب، فإن القصة هنا هي قصة دينية بامتياز، ظاهرها السلطة وباطنها قصة تشابه قصة المسيح ويهوذا. إذ أن كوهِن يحتضن دونالد، الشاب القلق الساعي للإفلات من تهمة العنصرية ضد سكان مبانيه العقارية، ويطمئنه ويحل له مشاكله، ثم يلقنه قواعد البقاء آمنًا أثناء ممارسة ألاعيبه القذرة، ويعلمه أي الأماكن يرتاد، ومن يصادق وماذا يرتدي إلى آخره. ببساطة؛ يصنع كوهِن ترامب من جديد، يشكِّله على مبادئه الساعية للفوز والفوز فقط، فلا مكان للخاسرين في هذا العالم. حكاية مسلية، نتابع فيها رحلة أستاذ شرير وتلميذه المخلص. نرى ترامب في الفيلم وهو يتحول من القلق إلى القوة، ومن الحيرة أمام العقبات إلى استعداده لها وصناعة العراقيل وزرعها في طرق الآخرين، ونتابع على الشاشة تحوله من مجرد شاب طموح قذر إلى وحش لا يمنعه ضميره من ارتكاب أي فعل.
هناك أسئلة تُطرح دائمًا عند تقديم أفلام عن شخصيات واقعية- خاصة وإن كانت تلك الشخصية تعيش بيننا وتمارس أفعالها حتى الآن-، أسئلة من نوع: هل الفيلم يحكي قصة ترامب الحقيقية؟ هل كان روي كوهِن هكذا؟ هل قام ترامب فعلا باغتصاب زوجته؟ إشكالية مثل هذه الأسئلة تكمن في عدم ميل المشاهدين للفصل بين الخيال السينمائي والواقع وتعاملهم مع تلك النوعية من الأفلام باعتبارها تقدم حقائق دامغة لا رؤى للشخصيات التي يدور حولها الفيلم، خصوصًا إن اتخذ القالب الروائي. وهذه إشكالية كبرى في نظري، إذ أن ما يقدمه عباسي هنا هو نسخته الدرامية من قصة ترامب وكوهِن، ولا يسعى لتقديم تحقيق فيدرالي إلى المحكمة عن التهم التي تواجه شخصياته، وهي تهم قد وُجِّهت بالفعل في المحاكم.
رغم أن بيتر براد شو، الناقد الإنجليزي الشهير، كتب أن هذا الفيلم لن يُقلِق ترامب لثانية
لكاريكاتورية صناعته، فإن توقعه هنا بُني على أساس أن ترامب المثير للمشاكل سيفكر بعقلانية أولًا، لكن ما حدث بعد ثلاثة أيام فقط من بدء ظهور تفاصيل الفيلم يثبت خطأ ذلك الافتراض، إذ أثار الفيلم الجدل بعد طرحه في المسابقة الرسمية لكان وأعلنت حملة دونالد ترامب – الساعي للعودة إلى البيت الأبيض- رفع دعاوى قضائية ضد عباسي ومنتجي الفيلم بدعوى تشويه صورة ترامب، ولكن أعتقد أن من يصنع فيلمًا عن شخصية كهذه، يعرف أن هذا سيحدث، وربما يكون هذا ما سيدفع الفيلم إلى أقصى شهرة ممكنة، ويجلب نوعًا من النقاش حول فيلم فني، كان بالكاد سيعرض في المهرجانات السينمائية وبعض دور العرض المستقلة، وسيتحول الآن إلى مباراة آراء ستفيد حتمًا عباسي وفيلمه.
يتخذ الفيلم شكلًا سينمائيًا مناسبًا لتلك الفترة، فتبدو صورته كصورة الأفلام الهوليوودية في تلك فترة الثمانينيات التي تدور فيها الأحداث، بل وتتحدث الشخصيات هنا كما تتحدث شخصيات مارتن سكورسيزي في أفلام تلك الفترة، وربما يكون هذا هو المرجع السينمائي لعباسي لصناعة فيلم كذلك. ورغم أن البعض رأى في هذا انتقاصًا من أصالة الفيلم، فإني أراه مناسبًا تمامًا لروح الحكاية، حكاية تنتمي بصريًا لصورة تشبه أفلام وبرامج تلك الفترة.
ربما يكون الشيء الوحيد المؤثر على الدراما هو المباشرة الكبيرة للحكاية وتحول الفيلم إلى طرح لوجهة نظر بشكل مباشر وصريح لم يدع مجالًا للتساؤل حول الشخصيتين، لكن المؤكد أن «المتدرب» هو فيلم مهم سياسيًا وسينمائيًا، حتى إن كان لا يقدم الواقع بالضبط – إذ يحكي حكايات يصعب التحقق منها – ولكنه يوصل روح تلك الفترة والتي ربما تتشابه مع زمننا الحالي في بعض الأوجه.
اقرأ أيضا: الجميع قلق على خسارة كوبولا لأمواله إلا هو!