فاصلة

مراجعات

«اجتماع سري»: الدخان الأبيض… أسمر اللون!

Reading Time: 4 minutes

يصعب التصديق أن «اجتماع سري» رُشِّح لثماني جوائز «أوسكار»، من بينها واحدة عن أفضل فيلم. فهذا الثريللر الباهت المقتبس من رواية لروبرت هاريس ومن إخراج الألماني إدفارد برغر الذي قدّم نسخة جديدة عن «لا جديد في الغرب» قبل ثلاث سنوات، عمل محشو بالفراغ، يغمره كمٌّ هائل من المظاهر التي لا تفعل شيئًا سوى طمس هذا الفراغ طوال نحو ساعتين، مستخدمةً موسيقى تصويرية تحبس الأنفاس وأجواء مهيبة وتصميم ديكور تتحرك داخله مجموعة من الكرادلة. هذا كله من أجل لا شيء. 

الكثير من الثرثرة واللف والدوران والتحذلق يحول دون الدخول في عمق المسألة، هذا إذا توافرت مسألة أصلًا. يضعنا الفيلم أمام سلسلة لقطات متكررة، والأسوأ ان السيناريو محبوك على نحو يجعلنا نتكهّن شيئًا ممّا يطبخه لنا المخرج داخل أروقة الفاتيكان، في لحظة من اللحظات. هذا ما يُمكن تسميته بالعمل التزييني، بمعنى أنه يستمد شرعيته من الأشكال الفنية سواء أكانت ديكورات أم وجوهًا، والهدف تحويلها إلى مجرد زينة لا أكثر.

اجتماع سري
Conclave (2024)

الحبكة بسيطة: بعد الموت المفاجئ والغامض للبابا (مجرد بابا، غير محدد الهوية)، يجتمع الكرادلة لانتخاب حبر أعظم جديد . يتولّى الكاردينال لورنس (رالف فاينز) عملية إيجاد خلف له، مع ما يترتب عليها من دسائس سياسية معشّشة في مؤسسة دينية لا تخلو من الفساد على أشكاله. مدارس عقائدية ستتصارع من خلال بضعة مرشّحين: الليبرالية في مواجهة المحافظة، الانفتاح مقابل الانطواء على الذات… وفي حين أن الطقم القديم يطمح إلى فرض أفكاره ورؤيته لعالم منتهية الصلاحية، ثمة مرشّح جديد، من غير الرجال البيض الذين عهدناهم، سيظهر من حيث لن يتوقّعه أحد، قالبًا المعادلة، وجاعلًا الدخان الأبيض… أسمر اللون!

يدخل الفيلم دخوله مصحوبًا بذلك الإحساس أنه سيغير وجه العالم وأن ما سيرينا إياه شيء في منتهى الأهمية. الجزء الأكبر ممّا سنراه هو عرض الصعوبات في تحديد وارث البابا، خصوصًا أنه يجب الأخذ في الاعتبار التوازن بين الدنيوي والرباني. كثيرًا ما تحضر عند برغر تلك الحركة التي عند بعض السينمائيين بأنهم يأخذوننا إلى حيث لا يجرؤ الآخرون. كان يمكن الرهان على هذا العنصر في زمن ماض، لكن تلك المحرمات سقطت قبل عقود. السيناريست (بيتر ستروغان) والمخرج هما الوحيدان اللذان لا يدركان ذلك.  

اجتماع سري
Conclave (2024)

تأتي الملابسات في مسألة انتخاب بابا جديد مفتعلة تحمل رسالة بالمعنى الطفولي الساذج. قرر الفيلم أن يحول الموضوع إلى مواكبة للزمن الحالي وتبدّل المفاهيم التي تنطوي على الإصلاح الديني انطلاقًا من ثقافة الصحوة الأميركية ومعاييرها. برغر يغازلها وهذا يسحق المشروع. للأسف، في 2025 هذا أصبح كافيًا لإنجاز فيلم. البحوث لا تعني شيئًا والصدقية مجرد هواء. بضعة شعارات، وهوب… أنت مرشّح لـ«الأوسكار»! 

نأتي إلى الكاردينال لورنس، الشخصية المحورية للفيلم. طوال الجزء الأول، يحوم «اجتماع سري» حول فكرة صغيرة لا تعالَج بجدية: الشك الذي يعاني منه هذا الكاردينال. الرجل نظيف الكف، غامض، لا يريد أكثر ممّا يملكه. معظم مشاهده عبارة عن مساءلة داخلية حول الإيمان والسلطة وإخلاصه للكنيسة. إنه الوحيد الذي يأتي إلى الفيلم ببعض التعقيد. البقية مجرد أطياف لأنفسهم. شخصية الكاردينال مثيرة، لكن الفيلم (لسبب قد نفهمه قليلًا) يهملها. 

في المقابل، يحاول السيناريو توريطنا في مسارات متداخلة عبر محاولة إيهامنا حتى اللحظة الأخيرة بأن لورنس سيكون الحبر الأعظم المقبل، وفي هذه التقنية السردية سذاجة، لأن الضيف (الثقيل؟) الذي سيدخل الفيلم في البداية حسم الأمر ولم يترك أي فائدة لكلّ ذلك التشويق الذي يهندسه الفيلم وسيظل يدور في الفراغ كعجلات سيارة انقلبت على ظهرها بعد حادث. 

اجتماع سري
Conclave (2024)

هذا الفيلم الذي يصح ترتيبه في إطار موجة إعادة النظر في كلّ شيء وأي شيء، يرى ضمنيًا أن الكنيسة الكاثوليكية (حاضنة الأحداث) قد شاخت كثيرًا وما عادت تشبه العصر، وأن القائمين عليها شلّة من العجزة الغارقين في الفساد والخطيئة. لا بأس بهذا، رغم أن نقد الكنيسة يكاد يكون من عمر السينما نفسها، وهناك من تعرض لها بشراسة على نحو لا يمكن أن يتصوّره برغر. من حقّه أن يرى ما يشاء وكيفما يشاء، ومن حق المتفرج أن يقتنع بهذه المقاربة أو لا، خصوصًا أن الطريق التي تؤدي إلى النتيجة طويلة ومضنية ومحفوفة بالثرثرة ونقيض ما ستؤول إليه الأحداث في نهاية المطاف.

 وأيضًا لأن المشروع ككلّ يسعى إلى أن يكون تقدّميًا على أكثر من مستوى، تطبيقًا لأجندات معينة، ولكنه يفشل في أن يكون بدرجة التقدّمية والفوضوية نفسها على مستوى آخر، عند الاصطدام بقضايا يوظّفها بسطحية شديدة. فمثلًا، في مشهد تأسيسي، يتعرض الكرادلة وهم داخل مجمّعهم، لحادث إرهابي يُنسب إلى إسلاميين، حادث لن نعرف عنه الكثير، ولا فائدة له سوى خدمة مجانية للصواب السياسي، كونه سيشكّل ذريعة للتراشق الكلامي الذي سيكون تمهيدًا لأسوأ لحظة في الفيلم: ذلك الخطاب الممجوج الذي يدعو إلى التسامح ووقف الحروب وحبّ الفقير وغيرها من الكليشيهات اللفظية. خطاب يضرب المسمار الأخير في نعش الفيلم، ذلك أنه يمدّنا بإحساس أن كلّ ما لم يستطع الفيلم الاستدلال عليه لجأ إليه عبر القول.

 طبعًا، عندما يكون فيلم ما مُبرمَج إلى هذا الحد، ما المشكلة إذا وضعنا على لسان الشخصية كلّ ما نريد قوله؟ فكلّ شيء جائز ما دمنا على الجانب السليم والمشرف للتاريخ، أليس كذلك؟!

اجتماع سري
Conclave (2024)

«اجتماع سري» مثال آخر على ما آل إليه بعض الأفلام في زمن موجة السينما التصحيحية. نقد مؤسسات دينية كهذه يحتاج إلى اطلاع وإلمام أعمق وثقافة تضرب جذورها عميقًا في التاريخ، وإلا تحول إلى مهزلة. من كن راسل إلى لويس بونويل فجاك ريفيت، هؤلاء كانوا محصّنين بالحجج القوية، ما يفتقره إدفارد برغر، فلا يبقى له سوى تحويل الفاتيكان مسرحاً للدمى حيث الكرادلة «كلمة بتاخدهم وكلمة بتجيبهم»، والأسوأ خلوه التام من السخرية.

 ألا يعرف برغر أن الفاسد ليس بالضرورة ساذجًا أو قليل الذكاء؟ فيلمه حافل بوجوه لا نألفها ولن نحبّها، لنتبين في الأخير أنها شريرة. ألم يكن من الأنسب سينمائيًا لو اكتشفنا أن الشرير هو مَن أحببناه وتعاطفنا معه؟! فهذا أول ما يحضر إلى بال كثر عند الحديث عن علاقتهم بالمؤسسات الدينية.

اقرأ أيضا: أندريه زفياغينتسف لـ«فاصلة»: السعي وراء الأوسكار مضيعة للوقت!

شارك هذا المنشور

أضف تعليق