فاصلة

مقالات

«إلهة» ساتياجيت راي… صراع العقلانية والتقاليد

Reading Time: 5 minutes

لطالما كان استكشاف التوتر بين الإيمان الديني والفكر العقلاني من بين المواضيع الأثيرة في عالم السينما حيث عرض الكثير من المخرجين في أفلام عدة الصراعات التي تنشأ من التعصب الديني وتأثيره على الأفراد والمجتمعات. نتذكر هنا أفلاماً من مثل أغورا الذي أخرجه أليخاندرو أمينابار في عام 2009 و فيلم البوتقة الذي أخرجه نيكولاس هايتنر في عام 1996.

لكن ساتياجيت راي ليس مجرد مخرج آخر في بوليوود، بل هو مخرج منشغل بسبر اغوار المجتمع الهندي. لذا تحضر أسئلة الصراع وإمكانية التعايش بين العقل والإيمان في سينماه كما في فيلم “إلهة Devi” الذي أخرجه راي في 1960.

يقدم راي في “إلهة” رؤية نقدية للتعصب الديني والصراع بين التقاليد والحداثة. يستعرض الفيلم تأثير الإيمان الأعمى على حياة الأفراد وتفكك الأسر، حيث تصبح فتاة صغيرة رمزًا للخرافة التي تقود إلى قرارات مدمرة. لا يكتفي الفيلم بتقديم نقد للخرافة الدينية، بل يتعمق في دراسة الصراع الثقافي والتفاوتات الاجتماعية والقوى التي تشكل المجتمعات التقليدية، عندما تواجه تحديات عصر في طور التغير.

تدور أحداث الفيلم في ريف البنغال في القرن التاسع عشر، وتتناول مأساة عروس شابة تدعى دويا، تأخذ حياتها منعطفًا مظلمًا عندما يرى والد زوجها كاليكينكار حلمًا تظهر فيه له على أنها تجسيد للإلهة العندوسية كالي. يشعل هذا الحلم سلسلة من الأحداث التي تحاصر دويا في دور خانق على نحو متزايد كإلهة حية، يحتفي بها أهل البيت والقرويون المحليون، يعود زوجها أومابراساد، العقلاني الذي يواصل دراسته في كلكتا إلى منزله، ليجد زوجته محاصرة في شبكة من الخرافات. ومع انتشار الاعتقاد في ألوهيتها، تنتشر التوقعات والأعباء الملقاة على عاتقها، تبلغ ذروة هذه الأعباء حين تفشل بشكل مأساوي في إنقاذ ابن خادم الأسرة. 

غالبًا ما يُفسر الفيلم على أنه إدانة للتشدد الديني والنظام الأبوي، لكن التقنيات الإخراجية التي يستعملها راي تضفي بعدًا آخر في تحويل الحكاية الأخلاقية البسيطة إلى استكشاف بصري غني لقابلية الإنسان للسقوط.

ساتياجيت راي
Devi (1960)

الموسيقى و التوتر الدرامي بين المقدس و الأرضي:

واحدة من أكثر السمات اللافتة للنظر في فيلم “إلهة” هو استخدام راي للموسيقى لتعزيز التوتر الدرامي. تعاون راي مع الموسيقار الأشهر في الهند حينها علي أكبر خان. تستحضر الموسيقى أجواء التدين والتصوف المحيطين بتحول دويا إلى إلهة وتسلط الضوء أيضًا على الحزن والعزلة التي تعاني منهما عندما يصبح عبء الألوهية لا يطاق.

استخدم راي آلة السيتار (السارود) بشكل أساسي، حيث غالبًا ما يصاحب صوت موسيقاها تلك المشاهد التي تصور انفصال دويا التدريجي عن الواقع. على سبيل المثال، يتردد صدى نغمات السارود الحزينة خلال المشاهد التي تجلس فيها دويا بلا حراك، متزينة كآلهة، بينما يسعى القرويون للحصول على بركاتها. تعكس الموسيقى اضطرابها الداخلي، متناقضة مع الخشوع والرهبة اللذين تُعامل بهما. يؤكد استخدام راي للموسيقى، لا سيما في هذه المشاهد، على السجن العاطفي والنفسي الذي تعيشه دويا. كما لو أن الموسيقى تعبرعما لا تستطيع دويا نفسها قوله: صراخها الصامت ضد التوقعات الخانقة التي فُرضت عليها.

ساتياجيت راي
Devi (1960)

علاوة على ذلك، يستخدم راي الموسيقى لإرساء التناقض بين المقدس والدنيوي، الروحي والعقلاني. تتجاور العناصر الروحية في الموسيقى مع الأصوات اليومية لحياة القرية، مثل صرخات المنشد المتجول الذي تعبر أغانيه الموجهة إلى كالي عن إيمان القرويين المتقد. تعمل أغنيته “لقد عرفتك هذه المرة يا أمي”، التي يغنيها بعد معجزة دويا الأولى المفترضة، كمقدمة ساخرة للمأساة التي ستلي ذلك. يستخدم راي صوت المنشد كأداة سرد، ويعمق السخرية التراجيدية للفيلم من خلال تعزيز إيمان القرويين الأعمى بألوهية دويا.

يظهر راي كيف يمكن للموسيقى أن تكون امتدادًا لمشاعر الشخصيات، والأهم من ذلك، القوى المجتمعية التي تشكل مصيرها. تعمل الموسيقى، إلى جانب الأصوات المحيطة بالمكان، بمثابة عالم موازٍ للعالم العاطفي الداخلي للشخصيات، ولا سيما دويا. ومع تصاعد الموسيقى، يتضح أن تأليه دويا ليس نعمة بقدر ما هو نذير هلاك.

ساتياجيت راي
Devi (1960)

التأثيرات السينمائية العالمية على راي

يتجذر في “إلهة” بوضوح أسلوب راي الواقعي الذي يجمعه مع افتتانه بعلم النفس البشري والمعايير المجتمعية (القيم والتقاليد الدينية التي تتحكم في حياة الشخصيات). غير أن هذه الواقعية لا تقتصر على الجانب الجمالي فحسب، بل تتخلل البنية السردية مسلطةً الضوء على الصراع بين الإيمان والعقلانية. تتماشى مقاربة راي للواقعية في فيلمه مع أعمال الواقعيين الإيطاليين الجدد الذين يتجلى تركيزهم على ديناميكيات السلطة داخل المجتمع وصراعات الناس العاديين.

وعلى غرار فيلم “سارق الدراجة Bicycle thief” (1948) لفيتوريو دي سيكا، يقدم “إلهة” شخصيات محاصرة بقوى مجتمعية خارجة عن إرادتها. فتحول دويا إلى إلهة ليس خيارًا طوعيًا، بل دور مفروض عليها من قبل والد زوجها والمجتمع. يذكرنا عجزها عن الإفلات من التوقعات المفروضة عليها، على الرغم من محاولات زوجها للتدخل، بالمحنة اليائسة لشخصيات دي سيكا المقيدة بالفقر والبنى الاجتماعية.

ساتياجيت راي
Devi (1960)

 يحيلنا تصوير راي الواقعي لريف البنغال بعقاراته المتداعية وبنيته الاجتماعية القمعية، والحماسة الدينية – إلى دي سيكا الذي قدم الواقع القاسي لإيطاليا ما بعد الحرب. يستخدم كلا المخرجين أسلوبًا بصريًا يركز على التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية، بدءًا من وجوه القرويين الفقيرة المغبرة، إلى ترف وثراء أسرة دويا المتحللة. وعلى غرار فيلم “سارق الدراجة” يخلق راي عالمًا ترتبط فيه حياة الشخصيات ارتباطًا وثيقًا بسياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

تمثل الأسرة في “إلهة” نموذجًا مصغرًا للمجتمع البنغالي في القرن التاسع عشر، حيث يتجلى الصراع بين التقاليد والحداثة في مساحات منزلية ضيقة. يشكل الخدم وأفراد الأسرة والقرويون جميعًا جزءًا من البيئة التي تكرس الاعتقاد بألوهية دويا. يدعو راي من خلال التركيز على تفاصيل الحياة اليومية، المشاهد إلى التفكير في كيفية تحويل العادي إلى مقدس بفعل قوى الخرافة.

ساتياجيت راي
Devi (1960)

في نهاية المطاف، نحن أمام فيلم يجبر جمهوره على مواجهة المأساة التي لا مفر منها للإيمان الأعمى ومحدودية عقلانية عالم تحكمه قوى خارجة عن إرادتنا.

 مأساة دويا هي تذكير مؤثر لمخاطر الإيمان الأعمى والآثار الخانقة للسيطرة الأبوية. لا يقدم راي إجابات سهلة، ولكنه بدلًا من ذلك، يقدم عالمًا حيث الصراع بين الإيمان والعقلانية لا يمكن حله، تاركًا للمشاهدين تأملًا مؤلمًا حول صراع الإنسان من أجل المعنى. لا يمثل تصوير راي المتعاطف مع شخصياته نقدًا للتدين الخالي من المنطق فحسب، بل هو أيضًا بحث في تعقيدات الإيمان وحاجة الإنسان إلى المعنى في عالم مرهق. لا تغدو أحداث فيلم “إلهة” قصة سقوط امرأة واحدة فحسب، بل تصبح انعكاسًا للصراعات الأوسع نطاقًا، التي لا تزال تشكل مجتمعات كثيرة إلى اليوم.

اقرأ أيضا: ساتياجيت راي.. إعادة تعرُّف على السينما الهندية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق