في الألوان الكئيبة لمشهد ما بعد الحرب في سوريا، حيث لا تزال أصداء الصراعات تتردد في قلوب أولئك الذين نجوا، تتكشف قصة تدور حول تآكل السلطة الفردية وضعف التواصل داخل أفراد العائلة الواحدة كما يلتقطها الفيلم السوري «أيام الرصاص»، وهو أول فيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا يعرض في السعودية.
تدور أحداث الفيلم حول ضابط متقاعد يدعى أبو جمال (لعب دوره أيمن زيدان)، الذي تكونت شخصيته حول الواجب والطاعة، وأجُبر على التقاعد ليجوب الأراضي غير المألوفة للحياة المدنية. رحلته مميزة بالجمود البارد لقلب قسى على نفسه فقست عليه الحياة.
تتفكك سلطة الضابط المتقاعد، التي كانت ذات مرة غير قابلة للطعن، تحت وطأة جمودها والديناميكيات المتغيرة لمجتمع ما بعد الحرب، حيث تصبح القوة والسيطرة التي كانت تُعتبر دعائم الاستمرار، هي نفسها القوى التي تؤدي إلى تدمير الأسرة.
عن أي عائلة نتحدث؟
يرصد الفيلم قصة أبو جمال الضابط المتقاعد والأب المتسلط وعلاقاته الشخصية المليئة بالتوتر، بداية من أسرته، خاصة مع بناته الثلاث اللواتي تمثل كل واحدة منهن جانبًا مختلفًا من عواقب حكمه السلطوي. الابنة الكبرى هي صورة الانحطاط الأخلاقي، حياتها مبنية على الثروة المكتسبة بوسائل قذرة، تحديها لسلطة والدها ليس عملًا من أعمال التمرد؛ بل انعكاسًا للبوصلة الأخلاقية المربكة والتي غرسها والدها في نفسها.
أما الابنة الثانية، فقصتها المأسوية انعكاس لقسوة الأب التي طبعت شخصيته فلم تقف عند حدود عمله، إذ جعل منها امرأة عالقة بين نارين، توقعات والدها التي لا تلين والحقائق القاسية لمجتمع يقدم لها القليل من الاحتمالات. هجرها من قبل عشيقها، الذي يتركها حاملًا ووحيدة، يعكس الاستخدام المفرط للأنماط الميلودرامية في السينما العربية في هذا الفيلم والتي آن الأوان لكي تنبذها السينما العربية، أو ربما تغيير آلية المعالجة التي يتم فيها تقليص السرديات النسائية إلى أكثر عناصرها سطحية، لتصبح النساء مجرد أدوات ضمن حبكة بدلًا من أن يكنّ شخصيات مكتملة. ينسجم هذا السرد مع الانتقادات التي سجلتها فرجينيا وولف في كتابها «غرفة تخص المرء وحده»، حيث جادلت بأن النساء في الأدب غالبًا ما يُصوّرن ككائنات مجزأة، حياتهن محددة بالرجال من حولهن.
الابنة الصغرى، هي المرآة الأكثر وضوحًا في انعكاس قسوة الأب عليها، هي الأقرب إلى قلبه، لكنها رغم ذلك تظل أسيرة لسلطته القاسية التي لا ترحم. هذا القيد الذي يفرضه عليها يدفعها نحو مصير مأساوي، لتكون نهايتها أكثر من مجرد مأساة شخصية؛ إنها تجسيد للقوة التدميرية للسلطة التي تفقد توازنها. في مصيرها المؤلم، تتجلى بقايا الإنسانية التي يحاول الأب التمسك بها، تذكرة مريرة بما كان يمكن أن يكون عليه الحال لو أنه أتاح لنفسه فرصة التكيف، والحب بلا قيود.
تقدم لنا العلاقة بين ضابط الأمن السابق وحفيده لمحة عن جانب لطيف وحنون في شخصيته، يفتح تعامله مع حفيده نافذة صغيرة على نوع من الحنان الذي كان من الممكن أن يصبح جزءًا أساسيًا من شخصيته لو أن مسار حياته سمح له بذلك. ومع ذلك، حتى هنا، فإن محاولاته لتشكيل الصبي ليصبح «رجلًا» مشوبة بنفس القسوة التي ميزت علاقته مع ابنه – الابن الذي اختار مسارًا مختلفًا، بعيدًا عن سلطة والده.
تتواصل سلطة الأب في التآكل مع تقدم الفيلم. هذا التآكل ليس مجرد خسارة شخصية، بل هو انعكاس للتغيرات المجتمعية الأوسع التي تحدث في أعقاب الحروب. ينعكس هذا التآكل في نمط العلاقات المتغيرة بينه وبين أسرته. بناته، اللاتي كن ينظرن إليه كسلطة نهائية، يشككن الآن في قراراته ويتحدين سيطرته.
يتم تصوير سقوط الشخصية بصريًّا من خلال مشهدين مميزين يتضمنان نزوله على الدرج. في المشهد الأول، نرى الضابط المتقاعد وهو يغادر مكتبه بشكل نهائي، خطوة بخطوة، بخطى ثقيلة ومرهقة. كل خطوة يتخذها تبدو محملة بثقل قراراته السابقة وأخطائه التي تراكمت عبر السنين. الدرج هنا ليس مجرد عنصر مكاني، بل رمز للرحلة النفسية التي يمر بها الرجل. نزوله التدريجي يعكس عملية تفكيك بطيئة لشخصيته، حيث تتراكم عليه الضغوط النفسية وتبدأ القوة التي كان يعتمد عليها طوال حياته في التلاشي. كل خطوة نحو الأسفل هي تذكير بخسارته لسيطرته وسلطته التي كانت تشكل جزءًا لا يتجزأ من هويته.
في مشهد آخر، يظهر الضابط المتقاعد وهو ينزل الدرج مع حفيده. هذا المشهد يمكن رؤيته كاستعارة لهبوطه الاجتماعي. فبينما كان في السابق في القمة، نجده الآن مضطرًا لمواجهة واقع جديد حيث لم يعد يحتفظ بتلك المكانة. العلاقة مع حفيده، التي قد تبدو في الظاهر كناية عن العلاقة بين الأجيال، تكشف أيضًا عن محاولة الأب الحفاظ على نفوذه من خلال التأثير على الجيل الجديد، لكنه يجد أن قوته لم تعد بنفس التأثير.
إنها الحرب قد تثقل القلب
تصوير الفيلم لمجتمع جريح بسبب الحرب هو جزء أساسي من سرديته وإن كان بشكل مبطن. تُجرد الشخصيات من عمقها لتصبح رموزًا أقرب لأنماط مجتمع أكبر مزقته الحرب، ولا يبدو أنه يسير باتجاه التعافي. لا يوجد ما يدعو للتفاؤل في هذا الفيلم. ينتهي الكل نهاية بائسة بين قتيل وقاتل وسجين ولص.
لا تُذكر الحرب في الفيلم أبدًا إلا بشكل عارض، فالابن الوحيد استشهد نتيجة قذيفة وزوج الابنة الكبرى اغتنى من وراء «التعفيش» وهو مصطلح انتشر خلال الحرب الأهلية السورية ويشير إلى النهب الواسع للممتلكات الخاصة من المنازل والمحال التجارية في المناطق التي شهدت عمليات عسكرية. هذا المفهوم أصبح رمزًا للانحطاط الأخلاقي الذي يصاحب الحروب والصراعات. يمثله في الفيلم الابنة الكبيرة المتواطئة مع زوجها حيث يتنازلان حتى عن أبسط أشكال الإنسانية. فالنهّاب، الذي كان سيصبح منبوذًا في مجتمع ما قبل الحرب، يحتل الآن دورًا مركزيًا، مما يعكس انقلاب القيم التقليدية في عالم انقلب رأسًا على عقب. الحرب هنا ليست مجرد خلفية، بل قوة تشكل جوهر الشخصيات، وتجردها من إنسانيتها وتقلصها إلى مجرد ظلال لذواتها السابقة.
بين الاستعارة والابتكار: أين الجديد؟
يشكل الفيلم تركيبًا مفتعلًا لشخصيات وموضوعات مستلهمة من أعمال متنوعة، ليقدم رؤية سينمائية تسعى لأن تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة. الشخصيات تمثل مزيجًا من أرواح شكسبير ولوركا وإبسن، مع لمسات من فيلم «أحلام المدينة» حيث نجد الجد القاسي بعلاقته المعقدة مع ابنته وحفيده، والمدينة في طور التحول على إيقاع التغييرات الجذرية التي تعصف بها. في «أيام الرصاص»، تحضر دمشق بشكل غير مباشر من خلال صورة للمدينة معلقة في بيت «أبو جمال»، في إشارة رمزية إلى أن هذه المدينة الصغيرة تمثل وطنًا بأكمله.
ومع ذلك، يبرز هنا سؤال محوري يستند إلى ما قاله المفكر الألماني ثيودور أدورنو: «التفكير ليس مجرد إعادة إنتاج فكري لما هو موجود فعليًا» وعليه يحق لنا أن نتساءل: ما الجديد الذي يقدمه الفيلم إذا كان يعتمد بشكل كبير على استعارة الثيمات والشخصيات من أعمال سابقة ويعيد تقديمها كما هي، أحيانًا بشكل قسري؟ هل يمكن للفيلم أن يدعي الابتكار أو تقديم رؤية جديدة إذا كان يعيد صياغة أفكار مستهلكة دون أي محاولة لإعادة النظر فيها أو تقديم تفسير جديد؟ ربما يكمن التحدي الحقيقي في خلق شيء أصيل يتجاوز مجرد إعادة إنتاج الأفكار والشخصيات التي أثبتت نجاحها في الماضي، ويسعى بدلًا من ذلك إلى تقديم نقد أو تفسير جديد يتماشى مع واقع بلد حطمته الحرب.
خاتمة ذاتية غير سينمائية
قبل ثلاثة عقود، خطوتُ إلى عالم السينما، حيث كانت سينما الكِنْدي في سوريا تعرض أفلام المؤسسة العامة للسينما – حتى القديمة منها- أمام جمهور قليل يغلب عليه الطابع النخبوي. وعلى الجانب الآخر، كانت سينما الشام تستعرض أحدث وأهم الأعمال التجارية لجمهور واسع. مصادفةً، كان الفيلم الذي يعرض آنذاك هو «أحلام المدينة» والذي أنتج في ثمانينيات القرن الماضي وفيه بدأ أيمن زيدان أولى خطواته في عالم الفن.
لا تزال جملة «أبو النور» الثائر، الذي جسده زيدان، تتردد في أذني وهو يقول: «الله بذاته مع الوحدة»، بينما تتناغم في الخلفية أغنية محمد قنديل «وحدة ما يغلبها غلاب». هذه الكلمات تعود إليّ كلما تأملت في مآلات المدينة التي كنت أعيش فيها. كانت لهذه المدينة أحلامٌ ذات يوم، أحلامٌ ربما كانت رومانسية، لكن شعبها آمن بها. كبرنا مع الحلم الذي تجسد في «أحلام المدينة»، مدينتنا، دون أن ندرك أن الحلم يمكن أن يتحول إلى كابوس في «أيام الرصاص»، حيث بات رصاصها يروي قصة أخرى.
هذه المدينة كانت تستحق حاضرًا أفضل مما تعيشه اليوم، وربما سينما أكثر وفاءً لأحلامها من تلك التي تنتجها المؤسسة اليوم بعد أن غيّب الموت كبار مخرجيها، دون أن يكون هناك من يكمل المسيرة.
يقول محمد قنديل في أغنيته: «أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام»، وأنا أيضًا أمامي بساتين الشام، تتأرجح بين ذكريات أحلامي وواقع رصاصها.