فاصلة

مراجعات

«أهل الكهف»… يقظة الصورة وسُبات السيناريو

Reading Time: 6 minutes

«ومن هذا الذي يجهل الآن أن المخرج هو كل شيء في الرواية؟ … تأملي جيدًا أي فيلم سينمائي … هل تظني حوادثه ومفاجآته تقع بالمصادفة؟ … أو تتتابع من تلقاء ً نفسها، وأشخاصه تحيا وتتصرف اعتباطًا أو ارتجالا؟ … مستحيل أن يكون الأمر كذلك! ولكن الواقع هو أن خلف كل ما ترين فوق الشاشة فكرا مستترً، هو الذي وضع الخطة وربَط الحوادث وحبّك المواقف وسير كل شخصية في طريقها المرسوم … هذا الفكر المستتر وراء كل ما تشاهدين هو أنا… أي المخرج». 

توفيق الحكيم «المخرج» 

ناقشت اللوحة المسرحية «المخرج» لتوفيق الحكيم، الصادرة في عام 1950، بشكل فلسفي فكرة المحاكاة وقدرة الإنسان على إعادة سرد الحكاية وتقمصها. تطرح المسرحية أن المحاكاة قد تبدو في بعض الأحيان متقنة لدرجة ضياع الحدود الفاصلة بين الحقيقة والوهم، وأن الوهم والواقع خطان متوازيان قد يلتقيان في ذهن المبدع حينما يتمكن من أدواته. كان توفيق الحكيم يبحث عن المذنب في حادث متخيل تعرض له بطل المسرحية «أحمد علوي»، حينما جسد دور عطيل في فيلم يتم تصويره في أحد الاستوديوهات ومن شدة اندماجه بالأداء؛ طعن زميله الممثل الذي يقوم بدور «ياجو». طرح الحكيم في نصه أسئلة على شاكلة: هل كان المبدع ويرمز له بالممثل «أحمد علوي» مذنبًا؟ أو أن المخرج الذي كان يوجه الممثل ويحرضه على أهمية ارتباط الأداء بالصدق هو القاتل الحقيقي؟ كونه شكل أداة من أدوات الضغط النفسي على الممثل لدرجة دفعته للخروج عن حقيقته كممثل يجسد دورًا متخيلًا، فغابت قدرته على التمييز بين الواقع والتمثيل، مما جعله يقدم على تلك الحادثة. 

اختار الحكيم مهنة المخرج لتأطير هذا السؤال الفلسفي ولم يكن هذا الاختيار من باب العبث، خصوصًا أن هذا العمل كان في مرحلة النضج في أعمال توفيق الحكيم، فالمخرج هو ربان سفينة العمل الدرامي والقادر على توجيه دفة القيادة نحو النجاح. وجود مخرج متمكن من أدواته بدون نص سينمائي جيد لا يكفي لخلق عمل ناجح جماهيريًا وفنيًا، لأن وظيفة المخرج الأساسية هي إعادة رواية الحكاية بطريقة مختلفة قادرة على إدهاش المشاهدين وخلق الأسئلة في عقولهم. 

لكن، مهما امتلك المخرج من رؤية مميزة، وميزانية عالية، وقدرة على توظيف ممثلين يمتلكون تاريخ فني وجماهيرية؛ فلن تستطيع هذه العوامل مجتمعة ستر مكامن الضعف في النص السينمائي وترهله، وستبدو الفجوات أكثر وضوحًا كلما ازدادت حدة المفارقة بين الإبهار في الصورة وضعف النص، ويتضح هذا جليًا في فيلم «أهل الكهف»، من إخراج عمرو عرفة وبطولة نخبة من نجوم السينما المصرية مثل خالد النبوي ومحمد ممدوح ومحمد فرّاج وأحمد بدير وغادة عادل ومصطفى فهمي وغيرهم.

يقدم الفيلم معالجة درامية لمسرحية «أهل الكهف» وهي من أشهر مسرحيات توفيق الحكيم. نشر النص المسرحي 1933، واستوحى الحكيم قصتها من القرآن الكريم وتفسيراته، بالإضافة إلى مراجع مرتبطة بالتاريخ المسيحي.

تتناول المسرحية حدث فرار جماعة من المسيحيين من الاضطهاد الديني الروماني، ولجوئهم إلى كهف باتوا فيه ثلاثة قرون تقريبًا، ليوقظهم الله بعد انتهاء عصر الاضطهاد وانتصار المسيحية لتدين بها الإمبراطورية الرومانية التي حاربتها في حياتهم الأولى، ليجدوا أنفسهم في زمن مختلف عما عرفوه، وتتجذر داخلهم مشاعر الاغتراب والوحدة. فكل الأماكن التي عرفوها وعاشوا فيها لم تعد كما كانت قبل السُبات، وكأن العدم والفناء يتجسد في وجود الإنسان ضائعًا في زمن لا ينتمي له ولا يمت له بصلة.

حققت المسرحية انتشار بين القراء وترجمت للغات متعددة وكانت مسرحية افتتاح المسرح القومي المصري في 1935 على خشبة المسرح القومي المصري إلى جانب تجسيدها في مسرحيات إذاعية ناجحة، واعتبرت علامة فاصلة في تاريخ الأدب المسرحي العربي. 

لوحة الاضطهاد

وبعد تسعة عقود من إصدارها، قدم أيمن بهجت قمر معالجة سينمائية للمسرحية في فيلم من إخراج عمرو عرفة. لكن المعالجة كانت ساذجة ومباشرة في طرحها رغم التغييرات التي أحدثها أيمن بهجت قمر في تناول الحكاية، من ناحية عدد الابطال وعلاقتهم بالزمن. 

في النص الأصلي للمسرحية اختار توفيق الحكيم الانحياز لاحتمالية أن عدد أهل الكهف ثلاثة ورابعهم كلبهم، وكذلك فعل زكي طليمات في المسرحية فلم يخرج عن الإطار الذي رسمه الحكيم في النص المسرحي، لكن أيمن بهجت قمر قرر الانحياز لاحتمالية أنهم سبعة وثامنهم كلبهم في معالجته السينمائية. 

زيادة عدد الأبطال في النص أدى إلى غياب التماسك بين الخطوط الدرامية وضعفها، ولم تضف للنص ما يثريه، سواء في الحوار أو المعالجة، فكأنما أيمن بهجت قمر قرر الهرب من مطرقة الفشل الذي حظيت به المسرحية حينما عرضها طليمات من خلال خلق شخصيات أكثر داخل الكهف وخارجه. 

فيلم أهل الكهف

لم تكن محدودية شخوص المسرحية من عوامل فشل العرض المسرحي، ويعزو توفيق الحكيم هذا الفشل لكون العمل يقع تحت ما يطلق عليه المسرح الذهني، فالمسرحية عنده تُكتب لتقرأ ويتم تخيلها في ذهن القارئ؛ لا لعرضها على خشبة المسرح. فالشخصيات في المسرح الذهني غير قادرة على أن تؤثر أو تتأثر بالصراع الخارجي؛ بل بالصراع الذي يدور داخل نفسها على العكس من الصراع الذي يدور على خشبة المسرح التقليدي أو في الأفلام السينمائية، بالإضافة إلى أن المسرح الذهني قائم على الحكايات الأسطورية أو الدينية. وقد يبدو أن تفسير توفيق الحكيم منطقي إلى حد ما، فلو عدنا بالذاكرة  لأعماله المسرحية التي تم تحويلها إلى مسرحيات وأفلام سينمائية لاقت نجاح وصدى جماهيري؛ لوجدنا أنها كانت تنتمي للمسرح التقليدي أو الواقعي، مثل فيلم «رصاصة في القلب» بطولة محمد عبدالوهاب وراقية إبراهيم وأخرجه محمد كريم عام 1944، ومسرحية «الأيدي الناعمة» التي قدمها يوسف وهبي للمسرح ونقلها المخرج محمود ذو الفقار للسينما في فيلم لا يزال يلقى النجاح والاهتمام الجماهيري إلى يومنا هذا، واختير ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ  السينما المصرية.     

فيلم أهل الكهف

أما في فيلم عمرو عرفة، فجاءت المعالجة السينمائية مباشرة وفجة في طرحها، خصوصًا في مشاهد الفلاش باك، وتجنح نحو أسلوب الوعظ المباشر ويتضح ذلك بشكل جلي بالجزء المتعلق بالراوي والذي قام بدوره الممثل القدير أحمد بدير. حتى تأويل المعاني والرموز كان مباشرًا، وكأن النص موجه للنشء والأطفال مثل اسم التوأمان نور ونار اللذان قام بدورهما محمد فراج، وهذان التوأمان من الشخصيات التي قرر السيناريست إضافتها إلى شخصيات أهل الكهف الأصلية في المسرحية.

تبدو الشخصيات المقحمة على النص الأصلي شخصيات هلامية لا تضيف للنص بقدر ما تضعفه، فالشخصيات الأصلية في المسرحية خلق لها توفيق الحكيم مبررات للوجود والحياة، فنرى الأبطال يمثلون شخصيات متنوعة ومتباينة في أهداف وجودها الإنساني، مثل شخصية «ميشلينا» المحب الذي لا يعنيه الزمان طالما هو بصحبة ورفقة حبيبته «بريسكا»؛ هذه الشخصية تمثل العاطفة والاندفاع، وهي رمز لقيمة الحب وقدرته على تحدي الحياة والزمن، هذه الشخصية يقابلها في الفيلم شخصية «سبيل» التي قام بتجسيدها خالد النبوي. أما شخصية «مرنوش» الذي تمثل شخصيته العقل والاتزان وتتجسد أولوياته في مفهوم العائلة فكان المقابل لها في الفيلم شخصية بولا التي قام بأدائها محمد ممدوح. أما الراعي «يمليخا» فكان رمزًا للبساطة والقناعة والإيمان الحقيقي ومثل دوره في الفيلم أحمد عيد.

أهل الكهف

اختار أيمن قمر أن يكون الراعي خفيف الظل، لكن خفة الظل والتعليقات الكوميدية كانت محشوة ومقحمة ولم تتناسب مع السياق وابتعد بالشخصية كثيرًا عما كتبه توفيق الحكيم. إلا أن عدم الاتساق في السياق لا يقتصر على الخط الكوميدي، فالشخصيات لا تملك أبعادًا نفسية واضحة تؤثر على ما تنطق به. لذا؛ لا عجب أن نجد ضمن الحوار الذي يُفترض أنه يدور بين مسيحيين الآية الكريمة «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا». يمثل الحضور الأنثوي في المسرحية والمتمثل في شخصية «بريسكا» التي جسدتها غادة عادل، لبنة مهمة في بناء القصة فهي وحدة ارتباط الماضي بالحاضر، ورمز الديمومة والاستمرارية في العلاقة بين الجدة والحفيدة، وبالتالي نرى انعكاس هذه العلاقة على أهل الكهف وتحديدًا ميشلينا. هذه الأهمية تتضح في النص الأصلي للمسرحية بدءً من الغلاف الذي تحتل فيه صورة الشابة الشقراء بملامحها الواضحة الجميلة الحيز الأكبر مقابل ظلال لملامح بقية الأبطال، لكن للأسف؛ المعالجة السينمائية التي قام بها قمر، وحتى أداء غادة لم تسمح بإظهار هذه الأهمية وإبرازها فكان الخط الدرامي باهت وبدون تأثير. 

 الصور السينمائية والكادرات ساحرة وبديعة، خصوصًا في افتتاحية الفيلم، فكانت المشاهد الأولية تبدو وعدًا بمتعة بصرية وسينمائية، ولكن مع مرور الوقت تكتشف أن الهوة واسعة بين الصورة والنص، وأن الكثير من المشاهد كان من الممكن استبعادها دون أن تؤثر في الفيلم، لأن الفيلم عانى في بعض الأوقات من بطء الإيقاع. ولا يمكننا تجاهل حقيقة أن عمرو عرفة مخرج متمكن من عدسته وهي تتجول بين تضاريس الطبيعة وتفاصيل المعارك. 

 أولى عرفة اهتمامًا كبيرًا للملابس والديكورات بكافة تفاصيلها، فالقارئ للنص الأصلي سيجد أن الأعمدة هي وحدة الارتباط الواضحة بين الفيلم والنص المسرحي. هذا الاهتمام شمل الموسيقى التصويرية التي كانت من إبداع العازف التركي فاهر أتاكوغلو. تناغم الموسيقى مع الصور الجميلة خلق حالة ساحرة خلابة في عدة مشاهد. ويحسب لعمرو عرفة إعادة الاعتبار والتقدير للموسيقى التصويرية وسط الإنتاج الحالي الذي يركز على تقديم أغاني خفيفة وراقصة بهدف تحقيق الانتشار. 

ويبقى السؤال؛ هل ضعف المعالجة الدرامية يتعلق بخصوصية المسرح الذهني كما يقول توفيق الحكيم في تبريره لفشل العرض المسرحي؟ أم أنه كان من الممكن تقديم نسخة أفضل من المعالجة التي قدمها أيمن بهجت قمر؟ 

اقرأ أيضا: حتى القصة القصيرة يمكنها أن تصبح فيلمًا سينمائيًا عظيمًا

شارك هذا المنشور