يعود المُخرج الإسباني الرائع “فيكتور إيريثه” للسينما، بعد غياب أكثر من ثلاث عقود تغير خلالها كُل شيء داخل المنظومة الإبداعية وخارجها، ولكنه لا يزال يؤمن بقوة السينما وقُدرتها على الاختراق والتغلغل كنمط إبداعي أكثر كونية، ليتحول عمله الأحدث إلى تساؤل عن ماهية السينما وإمكانياتها، في محاولة للعودة إلى أبجدياتها الأولى وإلى أي مدى يُمكن للسينما أن تكون دواءً، ليخلق ما يُمكن تسميته: التداوي بالحكاية.
في فيلمه الأحدث “اغلق عينيك” “Cerrar los ojos”، يحكي إيريثه عن حكاية سينمائية أقدم، في مطلع التسعينيات، وأثناء تصوير فيلم تعود أحداثه إلى العام 1947، يختفي ممثل يدعي خوليو أريناس أثناء تصوير دوره في الفيلم الذي تبدأ به الحكاية، ويدعى “نظرة الوداع”. هذا هو الزمن الأول، الذي يتحرك منه إيريثه ليقدم لنا تكوينًا سينمائيًّا ذا طبيعة سائلة، يتسم بمرونة في الحكي تعادل انثناءات الزمن، متحركًا في ثلاثة أزمنة مُختلفة: زمن سينمائي؛ يتعلّق بزمن المُنتج الإبداعي الذي صوره الأبطال، أي أحداث فيلم “نظرة الوداع”، ثم يتحرك من الخيالي الداخلي إلى الواقعي الخارجي في زمن أصلي؛ وهو العام 2012، بعد عشرين عامًا من اختفاء بطل الفيلم المذكور، حيث نتتبع مخرج فيلم “نظرة الوداع” ميجيل جراي (مانولو سولو) وهو ينجر تحت وطأة حاجته للمال إلى فتح دفاتره القديمة ويعود إلى التفكير في لُغز اختفاء صديقه الأقرب وبطل فيلمه غير المُكتمل؛ الممثل خوليو أريناس (خوسيه كورونادو)، الذي اختفى في مطلع التسعينيات في ظروف غامضة جعلت كثيرين يشتبهون في انتحاره، بيد أنهم لم يجدو أثرًا لجُثته.
من هُنا، تبدأ الحكاية بالتحرك في دائرة زمنية بين ذكريات الماضي وأثقال الحاضر وما بينهما من تخيلات لسيناريوهات مختلفة، وخلال الحكي؛ نتعرف على زمن ثالث، هو أقلهم أهمية ولكنه ضروري للسردية، وهو زمن تصوير فيلم “نظرة الوداع”، عام 1990، في عام اختفاء خوليو أريناس، يُرسي إيريثيه أزمنته الثلاثة في بداية الفيلم، كثالوث مُقدس؛ ينطوي على ذاكرة بديلة، ذاكرة سينمائية ساحرة، كما في فيلم “فردوس السينما”. في حالة مشابهة، تتميز بطبيعتها الاستعادية، أي استرجاع الحالة بطبيعتها الشعورية، وقوامها الحسي.
ينحت المُخرج نموذجًا قوامه العاطفة، يحاول الإمساك بالذاكرة كشيء منفصل قابل للاضمحلال، ويربطه بآلية سينمائية تحوله إلى ذاكرة ذات بعد أكثر شمولية، يجسدها في أنماط إبداعية ومتواليات بصرية مبتورة، وكونها مبتورة يعني إمكانية أن تأخذ نمط استعادي، لا يتصدى للزمن بقدر ما يرقُص معه، يسحبه ويشكل من طينته عالم يتماس مع العاطفة في شكلها الخام.
إنها معركة حقيقية يخوضها إيريثه في الفيلم؛ معركة ترويض الزمن، ورد الأشياء إلى أشكالها الأولية. وعلى هذا المنوال يأخذ الفيلم نسق أقرب إلى النوستالجيا والحنين، يتجسد ذلك النسق في عُلب السيلولويد 35مم المركونة على الأرفُف بمنزل صديق ميجيل ومونتير الفيلم ماكس (ماريو باردو) الذي يرى العالم حوله مجرد صفوف مرصوصة من عُلب الخام، التي تقع موقع الضحية، لأنها ببساطة تُجرّد من قيمتها، تمتصها التكنولوجيا وتدفنها على الأرفف، ذلك الصراع المحسوم بين ما يُمكن تخزينه ماديًا ولمسه وشم رائحته، وبين ما يُخزّن على وحدة تخزين إلكترونية، إنه صراع حقيقي لاستعادة ذكريات لا يُمكن استحضارها إلا بعملية كلاسيكية، وآلة عرضة تدور في خلفية دار سينما حقيقية، تلك الآلية هي ما تُحفز ــ بالنسبة لإيريثه ــ تدفق الذكريات، وتضاعف تأثيرها.
سرعان ما يخفُت شغف ميجيل بالبحث عن صديقه، فيعود إلى منزله المتواضع على أحد شواطئ إسبانيا النائية يغني مع جيرانه في ليلة معتادة، تلك اللقطات توضح ما آلت إليه حياة ميجيل بعد اختفاء صديقه، فالاختفاء كان بمثابة الكف عن الرقص مع الزمن، والاستسلام للحياة على الهامش، المكوث في الظل ليتحول إلى مترجم كتب سينمائية لدار محليّة غير معروفة، وينسحب من الحياة العامة والصراعات ليبقى إلى جانب كلبه.
بيد أن شرارة تُشعل الشغف مرة أخرى، بعد أن هاتفه أحد المشتغلين في دار المسنين، بعد أن رأى البرنامج على التلفاز، وأخبره أن شخصًا يشبه خوليو أريناس نزيل عندهم في الدار، يذهب ميجيل إلى هناك فيرى رجُلًا مختلفًا، اسمه جارديل، يعمل كحرفي تصليح، ولكنه تأكد بعد أن رأى الصورة في غرفته، صورة الفتاة التي كان من المفترض أن يبحث عنها في فيلم “نظرة الوداع” ومن هُنا تبدأ الأنساق كُلها بالاختلاط، والأزمنة بالتقاطع، فطوال عشرين سنة لم يفرّط الرجل الذي قد يكون خوليو في صورة؛ لا تتعلق بعائلته، إنما بدوره في فيلمه الأخير.
يفتتح إيريثه فيلمه بمشهديّة حالمة من فيلم “نظرة الوداع”، يحوم بالكاميرا حول منحوتة حجرية لنصف جسد يحمل رأسًا ذات وجهين: شاب وشيخ. وبتلك الصورة يفرش المُخرِج لفكرة عامة يؤطّر من خلالها الحكاية داخل حكاية؛ حكاية غدر الزمن وخيانة الذاكرة التي فصلت بين وجهين يحملان رأسًا واحدة، لينسلخا عن بعضهما، ويتحولا إلى غريبين، فالشيخ لا يذكر الشاب، والشاب لا يعرف الشيخ؛ يخرُج بعدها عن إطار المجسم الحجري ورمزيته، ليُكمل نحو شيء أكثر تعقيدًا من حيث البنية والشخصيات والتاريخ والإرث.
في الفيلم الذي تبدأ عند الأحداث “نظرة الوداع” يمنح شيخ قلعة “Triste Le Roy ــ الملك الحزين” صورة ابنته للشخصية التي يمثل دورها خوليو أريناس، ليبحث عنها ويردها إليه ليراها قبل أن يموت.
فكرة البحث ذاتها هي تيمة الفيلم، والحقيقة أن المُهمّة انتقلت من خوليو كشخصية خيالية في فيلم سينمائي، إلى ميجيل في الواقع، مفهوم البحث ذاته ومدلوله يتغيّر، بيد أن الفكرة ذاتها تظل كما هي، كأن الواقع هو امتداد لعلبة سيلولويد تدور داخل آلة عرض بحجم العالم، ذلك التماس بين الواقع والخيال يمنحنا شعورًا مغايرًا للزمن، فدقائق السلولويد في علبة الخام تمثل دائرة مغلقة بالحقيقة، ميجيل يحاول إعادة صديقه للحياة مرة أخرى، والمشترك بين الخيالي والواقعي هي الصورة الفتاة بلباسها الشعبي الأسيوي، لتتحول الصورة القديمة التي خلقت بغرض تدعيم سردية خيالية؛ إلى ذاكرة جماعية بين صناع الفيلم، وتخطر ميجيل بفكرة عرض اللقطات الفيلمية مرة أخرى في سينما حقيقية، متطلعًا لإعادة صديقه للحياة مرة أخرى، أو إزاحة جارديل واسترداد خوليو.
في المتوالية المشهديّة الأخيرة، يأخذنا إيريثه إلى عملية إحياء وبعث سينمائي، فإيريثه لا يُخرِج المشهد من وراء الكاميرا، إنما يُخرِج السينما ذاتها كجُزء أساسي من عملية التحضير، يُخرج دارًا سينمائية، يضع الأفراد في أماكنهم ويدير آلة العرض وراء الكواليس، إنها قصيدة حُب حقيقية للسينما وقُدرتها على تقصير المسافات، فالشعور التي تولده السينما كشبح مُستعاد من الماضي، يخلق جسر يتدفق بالذكريات.