شكل اللقاء الذي أدارته عريب زعيتر، المديرة الفنية ومبرمجة «مهرجان عمان السينمائي الدولي ـ أوّل فيلم» مع المخرج الإيراني البارز أصغر فرهادي، إحدى أهم لحظات الدورة الخامسة للمهرجان.
خلال اللقاء، أشاد فرهادي بالتّظاهرة السينمائية، معتبرًا أنها ذات أهمية كبيرة للدول العربية ودول منطقة الشرق الأوسط التي تتضمن كذلك إيران وتركيا. واعتبر أن مهرجان عمان السينمائي الدولي «فرصة رائعة للتّعلّم وصقل المهارات يحظى بها صانعو أفلام شابّات وشّبّان»، وأنه سعد بلقاء بعضهم والتحدّث إليهم طيلة الأيام التي قضاها بالعاصمة الأردنية، فلمس عزمهم وغنى ما يودّون قوله للعالم، مبديًا ثقته في أن السينما الجديدة التي ستولد من هذا المهرجان الذي يلتفت كليًا للأفلام الأولى لصانعيها، ينتظر منها أن تكون الموجة الجديدة للسينما في العالم خلال المستقبل القريب.
تحدث فرهادي إلى شباب السينمائيين موضحًا لهم اثني عشر درسًا استقاها خلال عمله في السينما ونقلها لهم باعتبارها وصايا من تجربته الغنيّة بالتّجارب والدّروس، مؤكدًا أنها ليست قواعد ثابتة ولا نصائح، بل خلاصات خرج بها من مسار إنجاز أفلامه، وانه يتقاسمها معهم علها تفيد الشّباب في العثور على طريقهم الخاصّ.
الخلاصة الأولى: لا قواعد في السينما. التزامك الوحيد إزاء الجمهور
يقول فرهادي: «أعتقد أنه لا توجد قواعد في السينما. ثمّة صفقة، وليس قاعدة. عندما نبدأ بكتابة السيناريو، نعقد اتفاقًا مع الجمهور. ونتبع هذا الاتفاق إلى نهاية الفيلم. هذه هي القاعدة الوحيدة التي أؤمن بها».
يواصل قائلا إن السؤال الأول الذي يطرحه على نفسه عندما يكتب معالجة أو ملخصًا للفيلم هو «هل سيكون مملًا أم لا؟» هذا هو السؤال الأهم. في بعض الأحيان، تصنع فيلمًا متطلّبا موجهًا لجمهور محدود، وهذا أمر مختلف. لكن عندما تصنع فيلمًا موجّهًا للجمهور وكذلك للمختصّين، من نوعية الأعمال التي تصنع جسرًا بين النقاد والجمهور، تختلف المعطيات. أعطي النّصوص التي أكتبها أولًا لعائلتي، زوجتي أو أمي أو أخي، ثم بعد ذلك لأناس من محيطي، مثل جاري. على سبيل المثال.
يضرب فرهادي مثلا بفيلم «الماضي» The past الذي أخرجه في فرنسا. يقول: «عندما انتهيت من كتابة السيناريو، أعطيته لابنتي وطلبت منها أن تذهب إلى المدرسة وتسلّمه لمعلمتها التي لا تعرف الكثير عن السينما. قرأته هذه الأخيرة وكتبت لي العديد من الملاحظات المفيدة، وكان لدي سؤال واحد وجّهته لها: هل كان النّصّ مملًّا أم لا؟ هذا مهم للغاية. إذا كان فيلمك مملًا، فسيغادره الجمهور. لن يهتمّوا لكونه فاز بجوائز مهمّة».
الخلاصة الثّانية: اتخذ من أفلامك القصيرة فرصةً للتّمرين
تختلف صناعة الأفلام اليوم كثيرًا عما كانت عليه أثناء بداية فرهادي كصانع أفلام شاب.
يقول فرهادي «صناعة الأفلام صعبة للغاية. هذه هي هوية العمل في السينما ويجب أن نتقبّلها. بعض المخرجين الشباب يتذمرون كلّ الوقت. يقول واحدهم: لديّ سيناريو، لكنّه صعبٌ للغاية، لا أدري كيف يمكنني صنعه؟ أقول لهم: من الجيد أن يكون الأمر صعبًا. لو كان سهلًا، لأصبح من الممكن لأي شخص في العالم أن يصنع فيلمًا، ولن يكون صنع الأفلام أمرًا مميّزًا».
يجد المخرج الإيراني الحائز على عديد من الجوائز العالمية أن المعاناة جزء من الإبداع. «نحن بحاجة إليها. المشكلة أن المخرجين الشّباب اليوم يضعون الكثير من المال في صناعة الأفلام القصيرة. يسعون لتصويرها بأفضل كاميرا في العالم وبأغلى المعدّات، لتبدو بجودة مثالية. في رأيي، ليست هذه الطريقة المناسبة. الغرض من صناعة الأفلام القصيرة أو الفيلم الروائي الطويل الأول هو التّمرين قبل كلّ شيء. أي تجربة الأشياء ومعرفة ما إذا كانت صالحةً أم لا. لا تهدف إلى الكمال في صناعة أفلامك القصيرة. لقد صنعت أفلامي القصيرة الأولى بلا تكاليف تُذكر. لا شيء تقريبًا! لم يكن لديّ مال. حتّى أن أمي هي من كانت تطبخ لفريق العمل».
يواصل: «المشكلة الأخرى، هي أن صانعي الأفلام الشباب أضحوا في عجلة من أمرهم للحصول على نتيجة بأسرع ما يمكن.
ينبغي أن نصنع الأفلام القصيرة لنتلمّس أو نكتشف النتيجة. لا نعرف ما هو اتجاهنا أو طريقنا منذ البداية. أحيانًا، تذهب معظم طاقتهم في البحث عن المال، أو الترويج، فيجدون أنفسهم أمام أشخاص يسألونهم: عمَّ يدور مشروعك؟ وعليهم أن يقولوا شيئًا يعلمون في قرارة أنفسهم أنّه غير صادق. لا نعرف ماهية المشروع. لو كنا نعرف، لكتبناها وسلّمناها للآخرين بدلا من صناعة الفيلم. هذا جزء من الإشكالية وآمل أن نجد له حلًا يومًا ما».
الخلاصة الثّالثة: استلهام القصص من محيطك
«عندما أبدأ في كتابة مشروع، لا أفكر في كلّ الأفلام التي أُنجزت سابقًا. شيءٌ ما يناديني من داخلي، مثل حلم أو هدية من أعماق قلبي، أعتقد أنّه أهم ما أشاركه معكم هذا المساء. في الوقت الحاضر، هناك الكثير من الأفلام التي تُنجز في كلّ أنحاء العالم، وكلها تقريبًا مصنوعة بشكل جيّدٍ من الناحية التّقنية. جودة الصّورة والصّوت مثالية، لكن الأعمال ليست محبوكة جيّدًا. لماذا؟ لأنها لا تنبع من القلب، وبالتالي لا روح فيها. من المهم جدًا لمنطقتنا أن تكون أفلامنا نابعةً من القلب، لأنّ ثقافاتنا أكثر عاطفية من غيرها. هذه ميزة ينبغي لشبابنا أن يستغلّوها. نصيحتي لكم كصناع أفلام، حين تحتارون في اختيار فكرة لأفلامكم القادمة، هي أن تغمضوا أعينكم وتفكروا في صورة أو شعور، سواء كانت تتعلّق بوالدتكم أو والدكم أو أحد أصدقائكم. ثمّة قصص تدور باستمرار في محيطكم. لستم بحاجة للعثور عليها في مكان آخر. الإشكالية اليوم عند صانعي الأفلام أنهم يشاهدون الكثير من الأفلام والمسلسلات، ويجعلون منها مصدر إلهامهم رغم أنّها بعيدة عن قلوبهم. يمكنك مشاهدة الأفلام والمسلسلات لكي تتعلّم التّقنيات، لكن قبل التّقنيات تحتاج إلى المشاعر».
الخلاصة الرّابعة: تعتمد صناعة الأفلام على الملاحظة
«إذا طُلب مني أن أختار لقطة واحدة فقط من كل مسيرتي كمخرج، فسيقع اختياري على هذه اللّقطة [المشهد الختامي من «عن إيلي«about Elly حين تحاول الشخصيات جاهدةً أن تسحب سيارة تطفو فوق مياه البحر]. عندما أشاهدها، أقول لنفسي يبدو أنّي أعرف بعض الأشياء عن صناعة الأفلام (يضحك). كانت النهاية المقرّرة مختلفة تمامًا عن هذه. كانت مشهدًا تغادر أثناءه الشخصيات الفيلا، ومع إغلاق الباب، ينتهي الفيلم. لكن، في أحد الأيام، كنا بصدد تصوير مشهد وفقًا للسيناريو، وبينما كان طاقم العمل يحضّر له، كنت أنظر إلى الشّاطئ. كانت السيارة هناك، وإذا بالمياه تندفع من تحتها وتجعلها تطفو. رأيت ذلك فقلت لنفسي: «يا إلهي هذا جيد جدًا». لم يكن أي شيء منه في السيناريو؛ ولم أفكر فيه سابقًا على الإطلاق. على الفور، ناديت فريق العمل: «تعالوا، ضعوا الكاميرا هنا، سنحاول سحب السيارة من المياه». صوّرنا لقطتين، وعند الانتهاء من اللّقطة الثانية قلت: «اقطع! هذا المشهد الأخير من الفيلم». الخلاصة المهمة هنا هي أنّ صناعة الأفلام لا تتعلّق فقط بالكتابة، أو التّصوير، أو إدارة الممثلين… جزءٌ كبير من صناعة الأفلام يتمثّل في مراقبة البيئة المحيطة بك. أثناء التصوير، يكون المخرجون تحت ضغط، ويعتقدون أنهم لا يستطيعون ملاحظة كل شيء لأنّهم لا يمتلكون الوقت الكافي. هذا غير صحيح! عادة ما يقول الناس: «ليس لدينا وقتٌ لذلك!».
الخلاصة الخامسة: استوعب الفرق بين الواقع والحياة
«هناك دائمًا سوء فهم للواقع. في بداية مسيرتي المهنية، حاولت أن أصنع أفلامًا تشبه الواقع. وذات يوم تساءلت: ما هو الواقع؟ هل هي الأشياء الماثلة أمام أعيننا؟ لا، هذا ليس واقعًا. سأسوق مثالًا يساعد على الفهم: لنأخذ شخصًا يعيش مع والدته يعود إلى منزله ليلًا، لتطبخ له والدته طعامًا طيّبًا كما تفعل دائمًا. يصل، فيستحم، ثمّ يتناول الطعام مع والدته. هذا هو الواقع. هل هناك أي شيء مثير للاهتمام هنا؟ لا! لكن، لنفترض أنه ذهب للاستحمام وعاد فوجد أمه تصارع الموت، فاتصل بأحدهم، ثمّ أخذاها إلى المستشفى في منتصف الليل، فجاءه الطبيب وقال له: انتهى الأمر، لقد فقدنا أمك. عندما يعود هذا الشخص إلى البيت، وأمه لم تعد موجودة فيه، لكن الطعام لا يزال هناك، وهذا آخر طعام أعدّته أمه. كيف يتناول الطّعام؟ هذا شيء يمكننا تمثّله في السينما. ينبغي أن تخلق أزمة لتجعل للأشياء معنى. فالطعام هو نفسه الطعام، هذا هو الواقع، ولكن مع أزمة وفاة الوالدة، يصبح لذات الطّعام معنى يختلف تمامًا عن كل أطعمة الدّنيا. هذا شيء نحتاجه، أن نخلق المعنى انطلاقًا من الواقع. الواقع مملّ ومكرّر جدًا، لكن عندما نأخذ جزءًا منه ونضعه في وسط أزمة، نكتشف أن له طبقات عديدة. عندما تفعل هذا، فإن فيلمك سيكون قريبًا جدًا من الحياة وليس واقعيا. هذا الفرق بين الواقع والحياة».
الخلاصة السّادسة: خذ الوقت الكافي للتعرف على شخصياتك
يقول فرهادي: «في فيلمي الأول الرقص في الغبار Dancing in the dust. حاولت تمثّل شخصيتين وسط صحراء بمثابة مسرح. كانت هذه طريقة لاكتشاف شخصية البطلين، من خلال التركيز عليهما. تعلمت الكثير من الأعمال المسرحية التي قرأتها في ذلك الوقت. في المسرح لديك الوقت الكافي لاكتشاف شخصياتك. اليوم، في السينما، نرى شخصيات على الشاشة ولا تُتاح لنا فرصة اكتشافها، وفي نهاية العرض لا نعرف من هي حقيقةً. لكن عندما تشاهد مسرحيات جيدة، في النهاية يمكنك أن تقول: نعم، أعرف هذه الشخصية جيّدًا. لذا، ربما كان الأمر لا شعوريًا في بداياتي، لكنني الآن مدركٌ أنّي تعلمت ذلك من المسرح. الشيء الآخر الذي تعلمته من المسرح أيضًا هو أن الصّراع في المسرحيات الكلاسيكية كان يدور دائمًا بين الخير والشر، لكنّي فهمت من خلال دراسة المسرحيات الحديثة أن التراجيديا المعاصرة هي معركة بين الخير والخير. وحاولت استثمار هذه الحقيقة في كل أفلامي، لأنّك في الحياة الواقعية، لا تستطيع أن تقول إن أحدهم خيّرٌ تمامًا أو أنّ إحداهنّ سيّئة كلّيًا. الحياة رمادية. القصة في أفلامي عادة ما تكون بسيطة، لكن هناك طبقات تجعل الوضع معقدًا للغاية كما في الحياة. ربما، يساعد ذلك صانعي الأفلام الشباب أن أؤكّد على أنّ ثمّة مجال جيد حقًا للتّعلّم في قراءة ودراسة النّصوص المسرحية».
«عندما نقول شخصيةً رمادية، بدلًا من شخصية بيضاء أو سوداء، فهذا لا يعني أنّه أو أنّها تقوم بمزيج من الخير والشر. لا! يمكن لشخصية أن تقوم بأشياء سيئة للغاية من بداية الفيلم إلى نهايته، لكنها لا تزال في المنطقة الرمادية، كيف؟ لأننا نعطي مساحة ووقتًا لهذه الشخصية لكي نفهم أسباب طباعها أو سلوكها خلال الفيلم. وكأنّنا نمنح الجمهور دواعي قراراتها. بعد ذلك، يظلّ الشخص شريرًا، لكننا نفهم السبب ومن ثم نتعاطف معه.
في بعض الأحيان، عندما نشاهد فيلمًا كلاسيكيًا، مع صراع بين شخصية خيّرة وأخرى شرّيرة، نتعاطف عادةً مع الخيّرة. إذا أعدنا إنتاج هذا الفيلم وأعطينا وقتًا ومساحة للشخصية السيئة، سيتغير الفيلم ومن ثم يمكننا التعاطف معها. بهذه الطريقة، أغدو كسينمائي مجرد مراقب، لا يمكنني التدخل أو فعل أي شيء. على الجمهور أن يتخذ القرار فيمن هو صاحب الحق وليس أنا. لديّ رأي، في بعض الأحيان، لكّني لا أفصح عنه. هكذا، يغدو الجمهور جزءًا من الفيلم. في نهاية فيلم انفصال A separation، عندما نذهب إلى المرأة نفكّر: من حقها أن تتصرف بهذه الطريقة، ولكن عندما نرى الأمور من وجهة نظر نادر، نخمّن أنّ: من حقه أن يكذب على الآخرين! نظلّ نفكّر أيهما على حق، ويتعيّن على كلّ مشاهد أن يتّخذ قراره. كثيرًا ما يسألني الناس: أنت مع المرأة أم الرجل؟ كصانع أفلام، لا أريد أن أقول، هذه مسؤولية المشاهد في اتخاذ القرار».
الخلاصة السّابعة: اجعل فيلمك يعلق بين طابقين
«يسألني سينمائيون شباب أحيانًا حول أداة توصيف الشخصية، وهو أمر مهم جدًا. يبدو للوهلة الأولى أن الحوار والجمل والكلمات هي أفضل أداة لوصف الشخصية، لكنّي لا أؤمن بذلك، لأن الناس في الحياة الواقعية لا يعرفون أنفسهم، لذا فهم يتحدثون لإخفاء الأشياء بدل أن يعبّروا عنها. لدينا وجوه عديدة في الحياة، ما يجعلنا لا نعرف الكثير حقًا عن أنفسنا وعن الآخرين. من يتحدثّون بهدوء شديد يمكن أن يكونوا متوترين للغاية في حياتهم الشّخصية، لكنّهم يخفون ذلك. لذا، في السينما، لا يمكننا توصيف الشخصيات بالاعتماد على الحوار والحديث بينها. أفضل طريقة لوصف الشخصية وإظهار وجهها الحقيقي هو وضعها في أزمة أو موقف حرج وملاحظة ردة فعلها.
عادة ما تكون الأدوات المستخدمة للتوصيف هي الجمل أو الحوارات، وهذا غير مجدٍ. يتعيّن أن تكون الأداة هي صناعة موقف حرج أو أزمة، ومن ثم يكون رد فعل الشخصية هو الأداة التي تصفها. لديّ مثال: لنفترض أن أربعة أشخاص مختلفين استقلّوا مصعدًا يتجه من الطابق الأول إلى الطابق الخامس عشر. عندما يصل المصعد كما هو منتظر إلى الطابق الخامس عشر، يغادرون ولا نعرف من هم حقًّا. قد يتحدثون قليلًا مع بعضهم البعض خلال الرّحلة، لكن هل يمكننا القول إننا نعرفهم من خلال حديثهم؟ لا! ولكن إذا علق المصعد بين الطابق الثامن والطابق التاسع لمدة 90 دقيقة، فسيمنحنا رد فعلهم على هذه الأزمة بعض المعلومات الحقيقية حولهم. أحدهم يفزع، والثاني يساند الآخرين، والثّالث يفكر في نفسه فقط، أما الأمّ فتهلع من أجل طفلها… نحن بحاجة إلى أن نجعل أفلامنا تعلق بين طابقين. كل شيء في أفلامي يأتي من المواقف الحرجة أو الأزمات».
الخلاصة الثّامنة: الفنّ ليس رياضيات
«لم أتوقع ذلك على الإطلاق [الحصول على جائزة أوسكار عن فيلم «انفصال». لقد صنعت فيلم «عن إيلي» الذي حقق نجاحًا كبيرًا خارج بلدي. عُرض في مهرجان برلين السينمائي وحصل على جائزة هناك واقتناه موزّع دولي. ثم بدأت في كتابة الفيلم التالي. أنهيت السيناريو وعرضته كالعادة على العائلة والأصدقاء الذين أثق بهم. جميعهم قالوا: هذا جيد جدًا، لكنه محلي. بعد النجاح الذي حقّقته، يجب أن تقوم بعمل شيء أكبر. لماذا تنجز عملًا كهذا؟ وكنت أجيبهم: دعونا ننجز هذا، ولدينا الوقت للقيام بعمل أكبر في وقت لاحق. لذا، كان اعتقادي هو أنّ انفصال عملٌ محلّي ولن يشاهده أحد خارج بلدي. حتى عندما انتهينا منه، لم أترجمه لأنّي كنت متأكدًا من أنه لا حاجة لذلك. هذا فيلمٌ لإيران فقط. لكن بالصدفة، حلّت سيّدة من فريق مهرجان برلين السينمائي ببلدي لاختيار الأفلام، مثل كل عام. اتصلت بي وقالت: فيلمك السابق كان ناجحًا؛ لذا أرغب في مشاهدة فيلمك الجديد. قلت لها: لا، إنه ليس لك، ولن تفهميه. أصرّت، فقلت لها إن الفيلم غير مترجم فأجابت أن معها مترجمها الخاص. جاءت إلى مكتبي وبدأت تشاهد الفيلم، بينما كنت في الغرفة الأخرى أتحدث مع أصدقائي، وعندما انتهى الفيلم جاءت وقالت: نريد هذا الفيلم في برلين. لم أصدق لأن المسألة محلية تمامًا إلا أنها أكدت لي انها فهمت الفيلم وما تمر به الشخصيات، لذلك بدأنا في إنجاز الترجمة وذهبنا إلى برلين ونجحنا مرة أخرى.
النّقطة المهمة هنا هي أن الفن ليس ضربًا من الرياضيات أو الحساب. لو قلت لنفسي في البداية: أريد أن أصنع فيلمًا أضخم وأحقّق أكبر قدر من النجاح، لما خرج الفيلم بهذا الشكل. مشكلة صانعي الأفلام في الوقت الحاضر، في كل مكان وليس فقط في بلداننا، هي أن معظم طاقتهم تذهب في الحسابات بينما نحن لا نعرف ما سيحدث في المستقبل. نريد أن نصنع فيلمًا عالميًا، وأن يقول النقاد: أوه هذا فيلم رائع! لكن في السينما، والفن بشكل عام، لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بذلك. صناعة الأفلام مثل القيادة. لا يمكنك أن تجزم بأنّك سائق جيد، لأنك بعد حادث صغير ستغدو سائقًا سيّئًا. عندما تبدأ مشروعًا، لا تعرف ماذا سيحدث. أثناء الخطوات الأولى، فقط القلب هو ما يتيح لنا الشّعور بصدق الأشياء، فنمضي فيها. نبدأ مع عقلنا الباطن، دون أي حسابات أو تفكير بالجمهور أو النقاد، ثم نجد السيرورة الأشياء».
الخلاصة التّاسعة: ابحث عن سيرورة الكتابة الخاصة بك
«عندما أقول إن قصة أفلامي يمكن تلخيصها في بضعة أسطر في البداية، فهذا يعني أنها قد تأتي في سطرين أو ربما ثلاثة. لكنها في كل الأحوال عبارات قليلة يمكنك أن تقولها لصديق خلال مكالمة هاتفية. يعني أني قد أنطلق من فيلم عن قصة عائلة. الرجل يعاني من صعوبة في رعاية والده، لكن زوجته لا تتفهم الأمر ولا تريد أن تبقى لتساعده، ولديهما ابنة. في النهاية يقرّران الانفصال لأنهما لا يستطيعان إيجاد حل لهذا الوضع. هذه قصة في سطرين. هذه هي الخطوة الأولى، ثم تشرع في تطوير السطرين، إلى صفحة واحدة، لكن من دون توصيف الشخصيات. أنت فقط تطور الأزمة، أو الموقف الأوّلي. ما هي مشكلة الزوجة؟ هل هي الأب فقط؟ لا، إنها تسعى لمغادرة البلاد. لماذا تريد المغادرة؟ إنها تفكر في ابنتها في سن المراهقة… التطور يجعل الأزمة أعمق فأعمق، فنمرّ من صفحة واحدة إلى صفحتين، ثمّ ثلاث صفحات. هذه هي تجربتي. بعد ثلاث صفحات أبدأ بالتّوصيف فأطرح الأسئلة: من هذا الرجل؟ ما اسمه؟ وظيفته؟ شخصيته؟ وبالتدريج، نصل إلى ثلاثين صفحة تحتوي على كل القصة وتوصيف الشخصيات. الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد الجلوس والكتابة. الجزء الأول ينطوي على الكثير من التفكير بالقلب، والثاني أقرب إلى الرياضيات. لكنّي أعرف كتابًا آخرين يبدأون بالشخصيات ولا يعرفون شيئًا عن الوضعية والأزمة في البداية. هذا اختيارك أنت».
الخلاصة العاشرة: اجعل أفلامك تبدو كالحياة، تسير من تلقاء نفسها
«النقطة المهمة، ليس فقط في أفلامي، ولكن في أفلام كيارستامي أيضًا، هي أننا نسعى لأن نظهر أنه لا يوجد سيناريو أو إخراج. أن تكون الأشياء في أفلامنا، كما في الحياة، تسير من تلقاء نفسها. بالإضافة إلى الحجب، لا يمكننا أن نرى أي لقطة بارزة، أو حركات لافتة للغاية حتى لا تشعر أن هناك شخصًا مصممًا وراء الكاميرا. هذا نابع من ثقافتنا. في فترة ماضية من الفن التشكيلي في إيران، لم يكن الرسامون يضعون توقيعهم على لوحاتهم. كانوا يعتقدون أنّها ليست أعمالهم، بل شيء يأتي من الأعلى وهم فقط يترجمونه. في بعض الأحيان لم يكونوا ينهون اللوحات، فتجد مثلًا شخصيات بدون أيدي. هذا يعني أنّنا لسنا كاملين. عندما تشاهد تلك اللوحات، لا تفكر في الشخص الذي صنع الفن، ينبغي أن تفكر فقط في الفن نفسه. لكنّك عندما ترى فنّ مايكل أنجلو، فأنت تفكر طيلة الوقت في مايكل أنجلو. وبنفس الطريقة، تفكر في دافنشي عندما ترى ابتسامة الجوكندا. هذا هو الفرق بين فنّ الشرق وفنّ الغرب. لذلك فأثناء التصوير، عندما أعمل مع الممثلين، يبدو الأمر وكأنه لا يوجد نص سيناريو. كأنهم يقومون ببعض الأشياء المرتجلة، بينما لا نشعر بوجود كاميرا. الأمر الآخر المهم جدًا، هو المسافة بين الكاميرا والشخصيات. يجب أن تكون عادلًا مع جميع شخصياتك. لا يمكنك الاقتراب كثيرًا من شخصية لالتقاطها بلقطة جدّ مقرّبة، ورؤية أخرى بعدسة بعيدة.
السؤال الآخر هو أين نضع الكاميرا، وكيف نقرر أن تكون الكاميرا هنا بدل هناك. أقوم بعمل بروفات لمدة سنة أو ستة أشهر، وأحيانًا لشهرين فقط، بما في ذلك عملية اختيار الممثلين. ثمّ أشتغل معهم ليس فقط على السيناريو، ولكننا نقوم ببعض الارتجال لكي أتعرّف عليهم وعلى إمكانياتهم، ونجد مدخلًا لتمثّل الشخصية. ثم، عندما نكون جاهزين، نذهب إلى موقع التصوير. في البداية، أطلب من التقّنيين الخروج، وأبقى مع الممثلين، ثمّ أشرع في إدارتهم: تعالوا إلى هنا، أو اجلسوا هناك، واضطلعوا بالأداء بشكل ميكانيكي للغاية، دون أي انفعالات، فيقومون بذلك. يتحركون ويقولون الجمل دون أي انفعالات. يكررون ذلك عدة مرات، ثم أطفق أنظر إليهم دون أي تفكير. وفي كل مرة، يؤدون نفس المشهد، أبدأ في التّحرّك. تارة أجلس هنا، وتارة أخرى أنظر إليهم من هناك، وفي أحيان أخرى من الاتجاه المعاكس. لكن، جسدي هو الذي يذهب في كلّ مرّة دون أي قرار واعٍ. إذا وضعتَ بعض الطلاء أسفل حذائي، ثمّ رأيتَ أين تقع أكثر خطواتي بعد عشر مرّات، فإن المكان الأكثر تلوينًا هو مكان الكاميرا. لا أستطيع أن أشرح لمدير التصوير لماذا. إنّه ذوقي، وشخصيتي، وقلبي التي تقول مجتمعةً: عندما يقول الممثل هذا الكلام، اذهب دائمًا إلى هناك. لذا يجب أن تتحرك الكاميرا إلى هناك. يأتي ذلك لا شعوريًا. بعد العثور على مكان الكاميرا والإطار وكل شيء آخر، نقوم بعمل بروفة للمشهد نفسه، ولكن مع العاطفة هذه المرّة. لا يمكنك القيام بذلك اثنتي عشرة أو خمس عشرة مرة، لأن الممثلين سيفقدون حساسيتهم وسيتأثّر أداؤهم للمشهد».
الخلاصة الحادية عشرة: اعتنِ بنهاية فيلمك
«النهاية هي أهم جزء في الفيلم. فيلمٌ جيد جدًا مع نهاية سيّئة هو فيلم سيّء، وفيلم متوسّط الجودة، ولكن مع نهاية جيّدة سيكون فيلمًا جيدًا جدًا. النهاية ليست مجرد خاتمة للقصة. على سبيل المثال، في بلدي، يقولون إن أفلامي ذات نهاية مفتوحة. لا أتفق مع ذلك. النهاية المفتوحة تعني أنه لا توجد نهاية، أنت تروي قصتك ولا خاتمة لها. كلّا! في انفصال على سبيل المثال، هناك نهاية واحدة وافتتاحيتان. لدينا افتتاحية أولى في بداية الفيلم، ثم نختتم بمشهد نهاية، وفي نفس الوقت، في مشهد النهاية، هناك بداية لقصة أخرى. نرى المشهد الختامي ونعتقد أن كل شيء انتهى الآن. لكن في الوقت نفسه، نفكر فيما سيحدث بعد ذلك، ونخطو خطوة مع الشخصيات، لنفكّر فيهم عندما يعودون إلى المنزل، مع كل تلك المشاكل، ونتساءل كيف سيواصلون حياتهم، ويتعاملون مع بعضهم البعض. إذن هذه بدايتان ونهاية واحدة، ولا وجود لنهاية مفتوحة. النهاية بالنسبة لي هي بمثابة لغز، لأننا عندما نذهب لمشاهدة فيلم، نراه بطريقة عاطفية، ولا نفكر في الاستعارات أو النص المختفي، في الإشارات أو طبقات المعنى، فقط نشاهد الفيلم بقلوبنا. وعندما نعود إلى المنزل، نأخذ في التفكير في كل تلك الأشياء. تجعلنا المساحة العاطفية مستعدين للتفكير في أشياء أكثر أهمية. النهاية هي لغزٌ يحوّل المساحة العاطفية للفيلم إلى مساحة تفكير. لذا أحرص على ألّا تكون نهاياتي عاطفية جدًا، وأحاول من خلالها نقل الجمهور من حالة عاطفية إلى مزاج تفكير. هناك ذكرى ستساعدكم على الفهم».
«عندما انتهيت من انفصال، بدا لي أنّه كان حزينًا جدًا، لأنّي قرّرت إرفاق المشهد النّهائي بموسيقى مشهورة جدًا في إيران تُستعمل كتهويدة للأطفال قبل الذّهاب إلى النوم. المشهد يدور أصلًا حول صراع بين الأب والأم تنهمر له دموع طفلتهما، وعندما وضعنا تلك الموسيقى، وقمنا باختبارين أو ثلاثة على الشاشة، كل الحضور المتكوّن من عائلتي وأصدقائي، خرجوا من العرض باكين. جميعهم! لم يستطيعوا قول أي شيء من فرط التّأثّر. كل مساعديّ كانوا يقولون: أوه، هذا رائع! انظر جميعهم يبكون. فقلت لهم: لا! هذا ليس مزاجًا جيدًا، لا نريد أن نجعل الناس يبكون، نريدهم أن يعودوا إلى منازلهم ويفكروا في الأمر. عندما تبكي، تقول لنفسك: هذا يكفي، لا أريد أن أفكر في الأمر! إنه سوداوي للغاية! مع الكثير من الألم، لا يمكنك التفكير. لذا، قمت بتغيير الموسيقى، بأخرى أخفّ، وأتذكر أن جميع المساعدين وطاقم العمل كانوا مستائين جدًا. كانوا يترجّونني: لا، لا تفعل هذا! الناس كانوا يبكون، لماذا تغير النّهاية؟ وأصررت على ذلك، لأن الفيلم عاطفي أكثر من اللّازم، ونحن بحاجة إلى شيء ينقل المزاج من العاطفة إلى التّفكير».
«يمكننا أيضًا استخدام الربط بين النهاية والبداية. لأن الناس عندما يشاهدون فيلمًا، إذا ما كان جيدًا وحرك مشاعرهم، يتساءلون: ماذا كانت البداية؟ مثلًا في انفصال، نبدأ مع زوجين جالسين أمام القاضي وهما يتحدثان عن مشاكلهما، وفي المشهد الأخير، نرى مرة أخرى، نفس الزوجين في غرفة المحكمة برفقة الطفلة، لكنهما لم يعودا يجلسان في نفس الوضع. نستنتج أن شيئًا ما حدث في الطريق. الآن هما بعيدان عن بعضهما البعض. يمكنك أن تستخدم مشهدي البداية والنهاية، لتخلق رابط تشابه أو تباين، أو عامل يكشف القصة».
«إذا وضعت المشهد الافتتاحي من انفصال مع المشهد الأخير، ورأيت الرابط بين البداية والنهاية، ستحصل على فيلم قصير. أنا أفعل ذلك في أفلامي، أضع البداية والنهاية معًا وأرى ما إذا كان الأمر ناجحًا أم لا».
الخلاصة الثانية عشرة: ابحث عن معرفة نفسك أكثر من الفوز بالجوائز
«في بداية مسيرتي، استمتعت بالنجاح. وفي الجزء الثاني، اتضحت لي أشياء أكثر أهمية من الجوائز. لا أقول إن الجوائز ليست مهمة، لكنها ليست هدفًا. إنها نوع من الهدايا. المثال الذي أعطيه حول ذلك هو حين نتزوّج وننجب طفلًا، ثمّ يحلّ حفل عيد ميلاد طفلنا، ويحضر الأصدقاء هدايا. نحن لم ننجب طفلًا لنحصل على تلك الهدايا.
بعض الناس يصنعون أفلامًا من أجل الجوائز، وهذا ليس جيدًا. الأمر يوازي إنجاب الأطفال من أجل الحصول على هدايا أعياد الميلاد. هدفي في الوقت الحاضر هو أن أعرف نفسي من خلال أفلامي. عندما آتي إلى هنا، أحاول أن أتحدث إلى الكثير من الناس وأفهم رأيهم فيّ، لكي أتعرف على نفسي. نحن هنا في الحياة لنعرف أنفسنا. من نحن حقًا؟ هذا سؤال كبير. هناك فيلم وثائقي جيد جدًا لـ كيشلوفسكي (رؤوس متكلمة Talking heads، 1980) يطرح فيه سؤال: من أنت؟ على عدّة أشخاص من كل الأعمار، ولا أحد استطاع أن يقول من هو. نحن نعيش مع أجسادنا، كل الحياة، ولا نعرف من هو هذا الشخص حقًا. أسعى في الوقت الحاضر إلى أن أعرف نفسي من خلال السينما».