قبل أيام قليلة فاز المخرج التونسي علاء الدين سليم بجائزة باردو فيردي بمهرجان لوكارنو السينمائي عن فيلمه الجديد «أجورا Agora» كأفضل الأفلام التي تعالج قضايا البيئة. وإن كان العمل الثالث لصاحب «آخر واحد فينا» يستحق أكثر من مجرد جائزة بيئية قيمتها 20 ألف فرنك سويسري.
سليم الذي خط لنفسه مسارًا شديد الخصوصية عبر تجاربه ذات البريق البصري والإيقاعي اللافت، يذكرنا في تجربته الجديدة أجورا (الكلمة لاتينية قديمة تعني ساحة التقاء أصحاب المصالح الدينية والتجارية والإدارية، أو المكان الذي تتخذ فيه القرارات المهمة التي تخص الدولة) بمواطنه يوسف الشابي الذي قدم لنا العام قبل الماضي فيلمه الجدلي الصادم «أشكال».
الغراب والكلب
يبدأ «أجورا» بحديث صامت بين جثتين، غراب وكلب. نتابع الحديث المكتوب على الشاشة وكأن روحيهما تتحادثان. إنهما يشكوان أثر الكوابيس التي تلاحقهما، عن القادمين من بعيد وعن الجبناء من أهل المدينة الذين لا يدركون حجم المأساة التي تنتظرهم.
ثمة حضور واضح لموتيفات من أثر التراث الديني، فالغراب هو أول معلم في تاريخ البشرية حين أرسله الرب كي يلقن قابيل كيف يداري جثمان أخيه، أول جثة في العالم، والكلب هو رفيق أصحاب الكهف وحارسهم وشخصية مهمة في قصتهم الخارقة، وفي فيلم يتحدث عن عودة ثلاثة من الموتى في البداية، أحدهم يخرج من الغابة حيث النار كما نرى أثرها على جذوع الأشجار حين عثروا عليه، والثاني من البحر حيث الماء؛ المرأة الغارقة وهي تحاول أن تهرب بطريقة غير شرعية، والثالث من الغبار حيث التراب؛ العامل الذي دفن تحت تلال الرمل أثناء عمليات البناء. والنار والماء والتراب هم ثلاثة من أصل العناصر الأربعة التي تتكون منها الأرض.
في فيلم يبدأ بعودة للموتى، فمن المنطقي أن الغراب كأول حانوتي في التاريخ والكلب كصاحب المرتدين إلى الحياة يتبادلان الحديث حول العائدين من الجهة الأخرى وحول الكارثة القادمة للجميع.
يحاول ضابط الشرطة المحلية فتحي بمساعدة صديقه الطبيب أمين أن يتقصيا الحقائق وراء سر عودة أهل الكهف الثلاثة، يراجعان خلفيات موتهم وأسبابه، وفي نفس الوقت يحرصان على أن يظل الأمر طي الكتمان حتى لا تنفلت الأمور ويدرك أهل المدينة أن ثمة أمرٍ خطير وكبير ينتظرهم.
نحن أمام لحظة يقترب فيها الجميع من الحافة، ثمة ثلاثة عائدين من الموت تحقق الشرطة في أمرهم الخارق من دون جدوى من وراء البحث، الأسئلة حول لماذا عادوا وماذا على السلطة أو الشرطة أن تفعل لا تجد لها إجابات محددة. الأزمة أن المسألة لم تتوقف عند عودتهم المشوبة بقدر كبير من الصمت والغموض، الأزمة أيضًا أن المحاصيل بدأت في النمو ميتة، والبحر صار يلقي الأسماك نافقة فوق سطح الماء الميت.
وحديث جثتي الغراب والكلب سواء كانا ميتين أو نائمين يوحي بأن كل هذا مجرد بداية، فماذا عسى العقلية الأمنية ذات الإجراءات القائمة على التدابير والاحتراز وإخفاء المعلومات عن الناس واستتباب الأمن أن تفعل في مواجهة ما هو أكبر من عصا تفريق المظاهرات – كما نرى في مشاهدة مهاجمة أهل المدينة لقسم الشرطة بأقفاص الخضار الميت أو زنازين الاحتجاز التي لن تستوعب قطعًا كل سكان المدينة.
وإذا كنا نتحدث عن عائدين من الموت أو عن ظهور ماء أزرق في الغابات أو تحول البحر لمقبرة ضخمة للأسماك؛ فهذا يعني أن هناك سلطة أخرى يجب أن تتدخل لتسيطر على حجم التساؤلات وإن كانت لا تكترث لتقديم حلول بل تلفيق الإجابات، وهي السلطة الدينية.
المآذن العالية
يأتي ظهور أول عائد من الموت قادمًا من الغابة وقت الفجر، حيث يرفع النداء للصلاة عبر الميكروفونات التي تعلو المآذن في أصوات تكاد تصم الآذان من فرط ارتفاعها، وتتكرر في الفيلم نداءات الصلاة بهذا الشكل العالي، وصولًا إلى ذروتها في مشهد صعود الشرطي فتحي مع رجل الأمن الوطني السري الأصلع ذي العيون الزرقاء – يقدم دوره مجد مستورة- بصحبة شيخ الجامع فوق المئذنة للحديث بشكل سري عن ضرورة تدخل الإمام لتهدئة روع الناس والسيطرة على عقولهم ونفي أي شكوك حول أسباب أو حلول الظواهر الخارقة، فينطلق نداء الصلاة من الميكروفون بصوت عال يصم آذان رجال الشرطة، فيغطونها ويهرون إلى الأسفل.
هنا ندرك أن أصوات نداءات الصلاة المتكررة عالية النبرة لم تكن سوى تأكيد صوتي مضاف إلى لقطات المآذن حول أن السلطة الدينية في هذه المدينة ليست سوى (ظاهرة صوتية) مهمتها أن تصم آذان الناس عن سماع الحقائق أو كشف الأسباب وراء ما يحدث، ورغم تكرار آيات شهيرة من سورة الكهف تتحدث عن الفتية الذين آمنوا بربهم، والتي تكمل في سياق المجاز حديث الغراب والكلب عن العائدين من بعيد وعن الكارثة القادمة، إلا أن هذه الآيات التي يسمعها الجميع لا يحاول أي من أطراف السلطات الشرطية أو الدينية أن يتمعن فيها أو يربطها بحقيقة ما يحدث أو أسبابه، بل تظل مجرد أصوات لتلاوة عطرة تخرج من الميكروفونات المعلقة لضمان السيطرة الصوتية على المدينة التي يأكلها الموت الأزرق.
ديستوبيا الأزرق
في فيلم يوسف الشابي «أشكال» الذي قدمه قبل عامين، كان اللون الأزرق هو اللون الذي تتنفسه المدينة في هوائها الراكد فوق الأبنية الأسمنتية التي لم تكتمل حيث يظهر شخص يشتعل من تلقاء نفسه ويغوي الأخرين أن يشعلوا النار في أنفسهم تطهرًا أو فرارًا من مدينة تموت ببطء وقسوة.
وفي «أجورا» لا يبدو الأزرق مجرد لون مجازي للموت يعلو سطح المشاهد أو يكسو اللقطات التي يعود فيها ميتون إلى المدينة للتحذير من القادم المخيف.
هنا يبدو الأزرق مكونًا رئيسًا في التفاصيل، أكياس القمامة المتطايرة التي تعبئ أركان المدينة مع اشتداد الهواء القادم من البحر/ المقبرة، وماء الشرب الذي يتحول صراحة إلى اللون الأزرق وكأنه اللون الأكثر حداثية من اللون الأحمر الذي يذكره التراث الإسلامي حين تحولت مياه نهر النيل في مصر إلى دماء عقابًا لفرعون وملئه.
الأزرق هو لون بارد، يرتبط في المخيلة الإنسانية بالموت، وهو الأكثر حضورًا في تاريخ العلاقة مع مفارقة الحياة وجفاف العروق وشحوب الوجه وتوقف الدم عن التبختر في الشرايين.
ولما يصير مجاز تحول الماء إلى اللون الأزرق، فهذا لا يعني سوى أن الموت صار يسكن مصدر الحياة نفسها (ومن الماء كل شيء حي) وكأن الماء نفسه قد مات.
يمكن إذن أن نضع هذه النتف الزرقاء المتناثرة هنا وهناك منذ بداية الفيلم وصولًا إلى عيون عمر ضابط الأمن الوطني أو القسم 19 كما يدعي، والذي يأتي بصلعته الشاحبة وعيونه الزرقاء الميتة وسيارته السوداء الضخمة لكي يحقق في مسألة العائدين بنفسه، قبل أن تلحق به الدكتورة العيواني التي يناديها بدادا (أي مدام من قبيل التبجيل) والتي تشبهه في صلعتها الشاحبة وتزيد عليه في كونها مصابة في حنجرتها بمرض يمنعها من الحديث إلا عبر الضغط على زر كهربائي في رقبتها.
حين يتساءل مساعد الضابط فتحي الذي يحقق في مسألة العائدين حول ارتداء الضابط عمر للنظارة طوال الوقت يقول له أحد مساعدي عمر «كي لا يرى المغفلون أمثالك». إنها أول إشارة سريعة لعيون عمر بشكل غير مباشر.
فيما بعد سوف نرى عيونه الزرقاء الباهتة ذات لون غير بشري، وكأنه هو ورفيقته العيواني كائنين فضائيين بمظهرهما وأسلوبهما الغامض في حديثهما الذي يوحي أنهما يعرفان السر وراء العائدين ونفوق الأسماك وتيبس الأخضر، ولكنهما يرغبان فقط في أن يظل كل هذا في طي الكتمان بمساعدة سلطات الأمن والدين.
هل ثمة تجارب كانت تجريها العيواني على البشر والبيئة هي التي أفضت إلى موت تتسع دائرته لتشمل المدينة كلها؟ هل الأزرق فيروس جديد أصاب المدينة ولما كانت السلطات لا يهمها سوى أن يظل الأمن مستتبًا؛ أصبح الهدف هو القضاء على كل من يشك أو يشكو، حتى لو كان هذا على حساب حياة الآخرين ومستقبلهم.
لا يصرح الفيلم بأسباب الأزرق، ولكننا نرى انتشاره بشكل يجعل المدينة تستقبل نهاية العالم بصورة مخيفة، في تصاعد ديستوبي فاضح نحو القضاء على البشر.
في نهاية الفيلم نرى الضابط فتحي وقد أصيب بنفس الصلع الذي صار علامة مميزة للدكتورة وعمر، وينام في نفس الموضع الذي سبق أن رقدت فيه جثث العائدين الثلاثة، يشاهد خبرًا عن وفاة الدكتورة العيواني بعد محاربة مرض خطير. لقد انتشر فيروس الأزرق في المدينة ولن ينجو منه إنسان.
طيب ما علاقة هذا بالمآذن العالية والتحالف البغيض بين السلطة الأمنية والدينية؟
يبدو الأزرق هنا مجازًا لا يحتاج إلى تفسير في دلالته على التواطؤ. فالمشكلات الكبرى لا حلول واضحة لها لدى السلطات. بل الحل هو الحجب والصمت حتى تظهر الأمور وكأنها تحت السيطرة.
حين يشكو إمام الجامع من الكلاب التي ترتع في القمامة أمام المسجد أثناء تفاوضه مع رجلي الأمن عمر وفتحي، يصبح الحل الأمني الأسرع والأسهل هو تنفيذ عملية اغتيال سريعة للكلاب بمسدسات كاتمة للصوت، ولما لم تكن تلك المرة الأولى بالفيلم التي نرى فيها كلابًا ميتة – ناهينا عن الكلب الأساس الذي يتحدث مع الغراب من البداية- يصبح لدينا تساؤل حول ما إذا كانت الكلاب التي شاهدناها نافقة قد قتلت هي الأخرى؛ أم أن فيروس الأزرق أصابها. ثم تتنقل إلى مرحلة التأويل بأن الفيروس الحقيقي هو التفكير الأمني وحلول الحبس والاغتيالات، وغياب أي تفاعل حقيقي بين المواطن والسلطة، حتى لو كانت القيامة على الأبواب، أو حتى لو كان الإنسان نفسه هو أحد أسباب استدعاء القيامة.
في النهاية
ينهض الكلب والغراب من رقدتهم، لا ندري هل بعثوا أم استيقظوا، لكن اتفاقهم كان على مغادرة الأرض التي يسكنها الجبناء.
يسقط الفيلم البشر من حسابات الطبيعة، لقد منحتهم إنذارًا استثنائيًا بأن أعادت لهم ثلاثة من الموتى كي يحذروهم من حقيقة الواقع الذي يعيشونه. راع غنم فقير وعامل هزيل ومهاجرة غير شرعية. ثلاثتهم نتاج وضع اقتصادي وسياسي متدنٍ وخافت. وبدلًا من البحث عن حلول تحول دون مزيد من الجثث أو تجيب عن أسئلة الأزرق المنتشر في كل مكان؛ يصبح التواطؤ والصمت والتخلص من أطراف الأزمة هو الحل الذي تختاره السلطات، وبالتالي لا مجال لأن يكون لهم موضع في مستقبل الحياة التي سريعًا ما تستوعب الأزرق – كما نرى في المشهد الأخير حيث لقطات متتالية لعمليات ولادة وفقس وخروج أجنة من أرحام الكائنات الأقدم من الإنسان، ثم يتبع ذلك خاتمة تتأمل الغراب – معلم البشرية الأول- وهو يقف شبه حارس بجانب كلبة زرقاء- أجل زرقاء- ترضع أبناءها الصغار الزرق أيضا، وكأن الطبيعة استطاعت أن تستوعب الأزرق فلم يعد مجرد لون للموت، وصار الوجود أكثر نضرة وخضرة حين غاب البشر عن المشهد بكل جبنهم وتواطؤهم وسفالتهم الحضارية، وهي نهاية صادمة لكنها ليست عدمية كما يمكن أن يتصور البعض، بل هي نهاية تحذيرية بالأساس، إنها إنذار من أن الطبيعة/الوجود/العالم يمكن أن يستغني عن البشر لو استمرت الأشكال السلطوية (سياسية كانت أو دينية) التي تحكم المدينة ممعنة في أساليبها الأمنية الفجة والمبتذلة في ممارسة الصمت والتواطؤ بدلًا المصارحة والإجابة والحل.
اقرأ أيضا: «قاتل مأجور» يليق بـ ريتشارد لينكلاتر