في فيلمه الأحدث “كائنات مسكينة Poor Things” يؤكد اليوناني يورغوس لانثيموس أنه لا يزال واحدًا من أكثر المخرجين العالميين قدرة على مفاجأة جمهوره، فحتى وهو ينقل عن أصل أدبي، فإنه يختار عملًا يمكنه من خلاله أن يظل مخلصًا لمدرسته السينمائية.
كائنات مسكينة Poor things الذي كتبه للشاشة الكاتب المسرحي والسينمائي المخضرم توني مكنمارا، مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للروائي الاسكتلندي أليسدر غراي، لا تخفي تأثرها برواية ماري شيلي الأهم “فرانكنشتاين”، ومن بطولة إيما ستون وويليام ديفو ومارك رافالو ورامي يوسف. يتحدث الفيلم عن “بيلا باكستر”، امرأة كانت على شفا الموت وأعادها طبيب عبر تجربة علمية إلى الحياة. من خلال عدسة لانثيموس، نشاهد كيف تستكشف هذه المرأة العائدة إلى الحياة لتوها العالم بدهشة وبراءة.
لانثيموس يحب استكشاف مناطق غير معهودة في أفلامه، تتسم أفلامه بطبيعة سيريالية خلابة يصعب تجاهلها حتى لو لم تكن من محبي أسلوبه السينمائي، لكن العوالم التي يخلقها في أفلامه والمواقف التي يضع شخصياته فيها يصعب على أي مخرج تكرارها. على الرغم من ذلك، كان هناك توازن سردي ما بين غرابة العالم ومحتواه، ما بين تطرف الشخصيات والبيئة المحيطة بها. لكنه هنا يتحرر من أي قيود سردية كانت تكبح جماحه في السابق ويعتنق الغرابة القادر على صنعها بالكامل.
استطاع لانثيموس في “كائنات مسكينة” خلق جو سيريالي مهيب منذ البداية، فمع المشهد الأول ستبدأ بالتشكُّك في حقيقة الصورة المعروضة، وتتساءل إذا ما كانت مجرد خيالات أو حقيقة ملموسة.
أمر آخر يتميز به لانثيموس هو زوايا التصوير الفريدة، وهو أمر سطع بشكل واضح في فيلمه السابق “المُفضَّلة The Favourite” والذي اشترك فيه أيضًا مع كاتب “كائنات مسكينة” وبطلته. نشاهد في هذين الفيلمين انجذاب واضح للزوايا الواسعة التي تظهر الشخصيات في البيئة الجمالية المحيطة بها، وفي نفس الوقت تبدو الشخصيات إما بشعة أو غير منتمية لهذا المكان. في Poor things تحديدًا، يميل لانثيموس بشكل واضح إلى تصوير أغرب المواقف في أعلى الأماكن طبقية وسط أكثر طبقات المجتمع المخملية. يتحدث المصور السينمائي روبي راين – الحاصل على ترشيحين للأوسكار وجميعها عن أفلامه مع لانثيموس- عن استغراق وقت طويل لإيجاد عدسات مناسبة للتصوير، وتجربة عدسات لا تتناسب مع الكاميرات المعتادة لإيجاد زوايا تصوير جديدة.
أحد أهم هذه الزوايا التي استخدمها الفيلم كانت نتيجة لهذه العملية، حيث يبدو المشهد وكأنه يصور من خلال ثقب باب، وذلك لتعزيز فكرة أننا نطل على هذا العالم من الخارج. حتى في بداية الفيلم حينما يكون التصوير بالأبيض والأسود، لا يبدو ذلك مصطنعًا، بل هناك مصداقية وشعور بأننا نشاهد فيلم من حقبة كلاسيكية ماضية. مع التقدم بالقصة وتقديم الألوان في الفيلم، تتفجر الصورة بألوان براقة من كل مكان ويتحول الفيلم من حقبة كلاسيكية إلى حقبة مستقبلية، التداخل بين تصميم مواقع التصوير المصنوعة بحرفية والمؤثرات البصرية، بديع، ويجعل من الفيلم الذي كانت تقع أحداثه في أواخر القرن التاسع عشر، يبدو وكأنه في كون موازي.
يمتد اهتمام لانثيموس بالصورة حتى بعناوين فصول الفيلم، يتم إعلان كل فصل جديد بصورة خلابة لبيلا باكستر وهي في محيط غريب بالأبيض والأسود، ولا أعتقد أن الهدف هنا هو إعلان فصل جديد فحسب، بل إعادة جذب انتباه المشاهدين في حالة اعتادت أعينهم على ما يشاهدونه، وكأن الفيلم يتحدى هذا الاعتياد ويعد بما هو أكثر غرابة وأشد جرأة. حينما تنتقل القصة إلى مدينة جديدة، يبرع الفيلم بخلق جو مألوف لهذه المدينة التي نعرفها بالاسم فقط، ولكنها تختلف جوهريًا عما عهدناه، إنها استمرار لخلق عالم في القرن التاسع عشر من حيث التقدم التكنولوجي والطبي، ولكنه في كون موازي حيث لا السماء سماؤنا ولا الأرض أرضنا.
بسبب غرابة الأدوار التي يصنعها لانثيموس، هناك مساحة ضخمة للممثلين لتجربة عباءات مختلفة بدون القلق من المبالغة في التمثيل، باري كوغين صعق الجميع في فيلم “ان تقتل غزالًا مقدسًا” Killing of The Sacred Deer و أوليفيا كولمان حققت أوسكارها الوحيد عن فيلم “المُفضّلة The Favourite”. هنا تسنح الفرصة لإيما ستون بتقديم أداء فريد فعلًا، فشخصيتها تتدرج وتتغير وتتشكل مع تزايد الاكتشافات التي بالكاد تستوعبها. وعندما تجرب نشاطًا يبعث على السعادة والمتعة، تنغمر فيه بكل عمق ويصبح كل ما تفكر فيه وتهواه. من الناحية الأخرى، عندما تستشعر الحزن فهي لا تستطيع اجتراع حزنها تدريجيًا وبصورة طبيعية، بل تلتهمه بالكامل وتكاد تصاب بالجنون بسبب هذا الكم الهائل من الحزن.
مارك رافالو يقدم أداء رائع يتحدى كل القوالب المملة التي تم وضعه فيها في السنوات الأخيرة، هو كذلك استفاد من السماح بالمبالغة و الميلودرامية. يتحول من شخص فاحش الثراء والثقة يخوض مغامرة تلو الأخرى إلى عاشق متيم بامرأة لا يمكنه التحكم بها ولا التنبؤ بتصرفاتها. إن دورًا كهذا لا يبدو شيئًا جديدًا، لأن السينما مليئة بأمثلة لرجال فقدوا عقلهم وكل ما امتلكوا بسبب هوس معين، سواءً كان ذلك الهوس امرأة أو هدف آخر. لكن الهزلية المفرطة التي تتمتع بها شخصية مارك رافالو وقدرته على مجاراة هذه الهزلية، يجعلان هذا الدور منعشًا واستمرارًا لسلسلة من الأدوار والشخصيات المجنونة التي يحتويها عالم لانثيموس، لذلك ليس من المستغرب أن مارك رافالو حصل على ترشيح أوسكار جديد بسبب هذا الدور.
هذا الفيلم هو أفضل تجسيد لموهبة لانثيموس السردية، من خلال رسم خط رفيع ما بين الحقيقة والخيال واستخدام تقنيات سينمائية مبتكرة، يقدم المخرج اليوناني قصة تتجاوز الواقعية في ظل تمحيص لمشاعر وتصرفات إنسانية معقدة يتم دفعها إلى أقصاها. هناك مبالغة في مشاهد الجنس والتعري في هذا العمل، لكن المقصد من هذا الأمر – كما هو الحال مع جميع أعماله السابقة- هو استخراج ردة فعل حقيقية من المشاهدين والابتعاد عن الاعتياد والركود.
اقرأ أيضا: نوري جيلان يخنق المُشاهد ويعانقه «فوق الأعشاب الجافة»