فاصلة

مقالات

وحيد حامد يتذكر (1): الحكاية والفيلم الأول

Reading Time: 10 minutes

على مدار عدة أشهر خلال عامي 2016 و2017، جمعتني جلسات أسبوعية بوحيد حامد، أستاذ أساتذة فن السيناريو في مصر، الرجل الذي يمكن التوقف كثيرًا عند تجربته الحافلة في السينما والتلفزيون والمسرح والإذاعة والصحافة لما فيها من ثراءٍ وتنوع، وتماسكٍ فكري ومواقف نبيلة ومهارة في التعبير عن هموم وطنه بصورة فنية فائقة النجاح، قادرة على التأثير على المُشاهد البسيط والناقد المتمرس في آنٍ واحد.

كان الهدف المتفق عليه هو صياغة كتاب عماده حوارات بيننا نتناول خلالها كافة أعماله السينمائية فيلمًا فيلمًا، في محاولة لتقديم درس متكامل في صنعة السيناريو من رجل امتلك مسيرة مذهلة. 

وكنت قد نشرت كتابين مماثلين ضمن سلسلة اخترت لها اسم «محاورات أحمد شوقي»، حاورت فيهما المخرجين الكبيرين داود عبد السيد ويسري نصر الله. وكلاهما يمتلك بصمة فريدة في تاريخ الفن السابع، لكن أعمال كلٍ منهما أيضًا لا تتجاوز أصابع اليدين، مما جعل مهمة إنجاز الكتابين أسهل عمليًا من إتمام الأمر نفسه مع كاتب لديه ما يفوق الأربعين فيلمًا، الأمر الذي جعلنا نتفق على موعد لقاء أسبوعي يجمعنا في مجلسه الشهير بفندق جراند حياة (ميريديان سابقًا)، جوار النيل الذي رافق رحلته الإبداعية.

غير أن الاكتشاف الحقيقي كان أن التحدي الذي يعوق إنجاز هذا الكتاب بإيقاع مقبول ليس عدد الأفلام الكبير، وإنما تجربة مجالسة وحيد حامد في حد ذاتها. 

وحيد حامد
وحيد حامد

عندما تذهب لتقابل وحيد حامد في مجلسه فأنت لا تذهب لتجري حوارًا مع فنان كبير، وإنما تدخل بلاط ملك في مملكته، أو لنقل تدخل مكتب رئيس مجلس إدارة مؤسسة كبرى خلال يوم عمله. وإذا لم يكن اللقاء لحوار صحفي سينتهي في جلسة ثم يشاهده الأستاذ منشورًا، فإنك ستتحول تلقائيًا لأحد الحضور في البلاط. لا تكاد تُنهي سؤالًا وإجابة إلا وقد ظهرت شخصية كبيرة قرر صاحبها أن يأتي ليقابل الأستاذ، أو دق هاتفه باتصال من رئيس تحرير برنامج شهير يطلب ظهوره، أو من منتج يناقش معه عمل جديد. وعندما يسكت كل هؤلاء، يظهر أحد العاملين في الفندق ليطلب منه خدمة كان ينتظر أن يخلو المجلس من الكل باستثناء هذا الشاب كي يعرضها على الأستاذ.

أضف إلى هذا تحديات تتعلق بوحيد حامد نفسه، بعضها يتعلق بحالته الصحية التي كانت قد بدأت في التراجع فلم يعد قادرًا على الحديث بنفس الطاقة لوقت طويل، أو في ميله الفطري للخروج من التفاصيل للعموميات، تسأله عن اختيار لموقف في فيلم فتأخذه أفكاره ليحدثك عن الوطن أو معاناة الكاتب، ثم يتذكر موقفًا طريفًا يرويه لك، أو يربط الموقف المذكور بحدث سياسي وقع وقت إجراء الحوار، وكلها أحاديث ممتعة فائقة الذكاء، تجعلك تستسلم سريعًا فتوقف التسجيل وتقرر الاستمتاع بالصحبة على أمل استكمال الحوار في الأسبوع التالي.

النتيجة كانت امتداد المشروع لزمن أكثر مما ينبغي، تعرض الأستاذ خلاله لوعكة صحية جعلته يُحجم عن الذهاب لمجلسه يوميًا كما اعتاد، إضافة إلى انشغالي بالسفر لعدة مهرجانات متتالية، ليتوقف المشروع فجأة ودون قرار مسبق، فلا تمر شهور إلا وتصل أخبار متاعبه الصحية التي انتهت برحيله عن عالمنا في مطلع 2021، لكنه رحيل لم يأت إلا بعدما قام صاحبه بكتابة مشهده الأخير على طريقته الخاصة، عندما وقف قبلها بأقل من شهرين على مسرح مهرجان القاهرة السينمائي مستلمًا تكريمًا عن مجمل أعماله، وملقيًا كلمة مؤثرة ربما تكون أفضل كلمة ألقى بها مُكرّم طوال تاريخ المهرجان الممتد لنصف قرن.

بالطبع جاء الرحيل صادمًا على المستوى الإنساني لرجل عرفته واقتربت منه، وكنت قبلها أحد مريدي كتاباته أطاردها بشغف من وسيط لآخر. الصدمة التي جعلتني آخذ موقفًا من الحوارات التي سجلناها سويًا، فلا أرغب في سماعها أو الخروج بها للنور، لا سيما وأن نتاجها يُشعرني بالتقصير، لأنني أضعت هذه الفرصة فاكتفيت بالحديث مع وحيد حامد عن أول 13 فيلم في مسيرته فقط، متضمنةً فيلمًا لم يرغب في الحديث عنه إطلاقًا مكتفيًا بأنه قد محاه من ذاكرته. 13 من أصل 45 يعني أننا لم نكمل حتى ثُلث الأفلام، وهو ما قضى على فكرة نشر الكتاب نهائيًا.

اليوم، وبعد مرور ما يزيد عن ثلاث سنوات على رحيله، لا أشعر بنفس الندم أو التقصير، فالحقيقة أن الاستمتاع بصحبة وحيد حامد لفترة كانت تكفي، وأن المرات التي كنت أجد هاتفي يدق فيها برقمه ليسألني عن معلومة يريدها، أو يعلق على مقال نشرته، أو يشير لقيام كاتب شاب باقتباس فكرة من أحد أعماله وتوظيفها في فيلم أو مسلسل جديد دون إشارة لمصدرها، كانت لحظات من النشوة التي قد تفوق نشوة نشر كتاب مهما كانت قيمته، فيكفي أن إله الكتابة الذي كان بعيدًا جدًا صار من الممكن أن يقرر الاتصال بك للحديث عن أمرٍ خاصٍ جدًا.

زال الشعور السلبي وبقي الامتنان للحياة التي سمحت لي بالاقتراب من وحيد حامد لفترة من الزمن، ليصير واحدًا ممن جعلوا الحياة محتملة أكثر، على طريقة كلمته التكريمية التي قال فيها لزملائه وأصدقائه «أنا حبيت أيامي معاكم». راح الشعور وظلت الحوارات التي تمت ولم تنشر موجودة، لا أعلم ما يمكن فعله بها. حتى جاءت تجربة فاصلة بما تتيحه من نشر مواد سينمائية متنوعة طالما صبت في مصلحة القارئ، فجعلتني أشعر أن الوقت قد حان لنشر هذه الأحاديث في عدة حلقات. حوارات كنت أتمنى أن تطول فتُغطي مسيرة الكاتب الكبير كاملة، لكنها انتهت قبل ثلث الطريق. لكنك عندما تقرأها؛ ستدرك أن ثلث طريق وحيد حامد أطول وأثرى من حيوات ممتدة لفنانين آخرين، كمَّا وكيفًا. فلنبدأ الرحلة.

طائر الليل الحزين 
فيلم طائر الليل الحزين

الفيلم الأول: طائر الليل الحزين (1977)

 وحيد حامد: هذا الفيلم كان مسلسلًا إذاعيًا حقق نجاحًا كبيرًا جدًا. وبسبب نجاح المسلسل واهتمام الناس به، جاء عرض بتحويله فيلمًا سينمائيًا. لكن العرض وقتها كان أن يشتروا مني القصة، ويأتوا بكاتب سيناريو ليحولها للسينما، فأنا كنت كاتب مبتدئ لم أكتب من قبل للسينما، بل ولا توجد لي أي علاقة بها. لكني طلبت منهم أن أقوم أنا بكتابة الفيلم، في البداية قوبل طلبي بالرفض باعتباره مغامرة غير محسوبة، قبل أن يوافق المنتجان منيب ومخلص شافعيرحمهما اللهعلى منحي فرصة، تتلخص في أن أكتب السيناريو، فإن أعجبهما قاما بشراء السيناريو، وإن لم يعجبهم يكون لهم الحق في أخذ القصة وإعطائها لكاتب محترف.

وافقت على العرض، لأجد نفسي في ورطة عدم معرفتي بكيفية الكتابة للسينما، فأنا كاتب إذاعي ومسرحي، ولا أعرف حتى كيف يمكن أن تُكتب السيناريوهات على الورق، لدرجة أني بحثت عن سيناريوهات مكتوبة فقط لأعرف «فورمات» الكتابة، وكانت ملاحظتي الأولى أن قراءة السيناريو قراءة ثقيلة وغير ممتعة، لكني أدركت الشكل وقمت بكتابة السيناريو، لتكون المفاجأة في رد فعلهم المتمثل في إعجاب شديد من قبل المنتجين بل والممثلين كذلك، حتى أن المرحوم عادل أدهم قال لي إنه يقرأ السيناريوهات ممسكًا بقلم رصاص ليكتب ملاحظاته عليها، لكنه لم يستخدم القلم عند قراءته لهذا السيناريو. وأعتقد إن لم تخني الذاكرة أن أجري كان 1500 جنيه عن السيناريو، ولكن الأستاذ محمود مرسي سألني عنه ولم يعجبه الرقم، فطلب من منيب ومخلص أن يعطياني حقي، فقاما بمنحي ألف جنيه إضافية.

لكن للأسف؛ عندما شاهدت الفيلم أصبت بصدمة وحزن من تغيير الكثير مما كتبت، ولا زلت حتى لحظتنا هذه أعتقد أن المسلسل كان أفضل من الفيلم.

– أحمد شوقي: هل تذكر المدة التي استغرقتها في كتابة أول سيناريو سينمائي؟

وحيد حامد: المدة كانت ثماني ساعات من العاشرة مساءً للسادسة صباحًا، بالإضافة لثلاث ساعات إضافية في اليوم التالي. إحدى عشرة ساعة فقط. وسبب ذلك أني اتفقت مع المنتجين على كتابة السيناريو خلال شهر، وشاءت الظروف أن أصاب خلال هذا الشهر بنزلة شعبية حادة ولا أتمكن من كتابة أي شيء، وعندما تعافيت وجدت الموعد قد حان وأنا لم ألتزم بما تعهدت به، وعدم الالتزام كارثة بالنسبة لي.

كنت أسكن وقتها مع الصديق الكاتب كرم النجار في شقة بضاحية روكسي، فنزلت إلى كافيتريا مجاورة كان اسمها «إلدورادو»، وجلست من العاشرة مساءً للسادسة من صباح اليوم التالي، حتى كان معي بالضبط 101 ورقة. ولكي ألتزم بميعادي خرجت من الكافيتريا، أخذت أتوبيس 500، وذهبت إلى الشركة وكذبت عليهم، قلت لهم أن هذا ما انتهيت من تبييضه، وأن الباقي مكتوب سأبيضه وآتي به في اليوم التالي، وطريقتي كما ترى (يريني الأوراق المنمقة المكتوبة بخطه الأنيق دون شطب أو خطأ واحد) لا يوجد بها أي تبييض، لكني قلت هذا حتى لا أبدو غير ملتزم بالموعد. وفي الساعات الثلاث الإضافية أكملت السيناريو وسلمته في اليوم التالي.

 – الفيلم مأخوذ عن مسلسل إذاعي، هل احتفظتم بنفس الأبطال أم كانوا مختلفين؟

أبطال الفيلم مختلفين تماما عن المسلسل، أبطال المسلسل الإذاعي كانوا عادل إمام وعمر الحريري وفردوس عبد الحميد وسناء جميل وسعد أردش، وقد تغيروا جميعًا عند تقديم نفس القصة في السينما. فلعب الأدوار على الترتيب: محمود عبد العزيز ومحمود مرسي ونيللي وشويكار وعادل أدهم.

 – أول ما لفت نظري في كتابة هذا السيناريو هو اختيارك لشخصية البطل، فصحيح أنه مظلوم في التهمة الموجهة له بما يدعو للتعاطف، لكنه بخلاف ذلك فقد كان شابًا وصولًيا يمارس الجنس مع المتقدمات في العمر، وهو ما يخالف الصورة المعتادة للبطل المثالي في السينما المصرية.

البطل كان ببساطة «جيجولو gigolo»، يمارس الجنس مع العجائز مستغلًا وسامته وشبابه.

 – في المقابل الشخصية التي تمثل خصم البطل في البداية، والذي سيتحول لاحقا ليكون صديقه، رجل أكثر شرفًا ومثالية.

لن يصبح صديق البطل، هو صديق للعدالة، انحيازه للعدالة وليس لعلاقة شخصية للبطل.

 – قلت إنك قد حزنت عندما شاهدت الفيلم، ما سبب هذا الشعور؟

أنني وجدت النهاية المعروضة قد تغيرت عما كتبته، كنت مؤلفًا مبتدئًا ولا أذهب للتصوير، ولا أعلم طبيعة التعديلات التي يمكن أن يفعلها المخرج والمنتج والممثلون في النص. وجدت أن الفيلم قد أضيفت له نهاية عن الرئيس السادات وقيام ثورة التصحيح وأشياء لا علاقة لها بالنص الأصلي. شعرت بشعور من أعد طبخة جيدة، ثم جاء من ألقى عليها بالتراب. فكان مقصدي أن شخصية عادل أدهم هو أحد مصادر القوة في الزمن الحاضر، وليس في حقبة ماضية انتهت.

– هل تذكر النهاية الأصلية التي تم تغييرها؟

لا أذكر النهاية بدقة لكنها بالتأكيد كانت أكثر ارتباطًا بروح الفيلم من النهاية التي خرج بها الفيلم، ولدي تسجيلات المسلسل الإذاعي يمكن الرجوع لها إذا ما أردت معرفة النهاية الأصلية.

– يعجبني في الفيلم كثيرًا مشهد البداية، ودخول الفيلم بلحظة ساخنة كالحكم على البطل بالإعدام، هل كان هذا هو مشهد بداية المسلسل الإذاعي أيضًا؟

لم يكن نفس المشهد، كانت بداية أخرى أكثر ارتباطًا بالوسيط الإذاعي. ولكن بشكل عام ما يجب أن يعرفه كل من يتصدى لكتابة فيلم سينمائي مأخوذ عن مصدر آخر، سواء كان مسلسلً إذاعيًا أو رواية أو مسرحية أو كتاب، أو أي مصنف آخر، فلا بُد أن ينسى هذا المصدر أثناء الكتابة، ينساه كليًا ويأخذ فقط فكرة العمل وروحه، ويضيف إليه من داخله ككاتب. والطبيعي أن الكاتب لا يختار مصدرًا إلا وقد صادف هوى داخله، وهذا يعني وجود أرضية اتفاق مبدئي، والمنطقي أيضًا أن يكون له رؤية في هذا المصدر، وبالتالي يبدأ في التعامل معه من هذه المساحة، لكن مجرد النقل الحرفي وكأن دورك هو مجرد إعادة الصياغة، فهذه طريقة تؤدي إلى الفشل، لذلك فكل الأعمال التي قدمتها عن نصوص ـ وهي قليلة بالمناسبة لأني لم أكن أحب هذا الأمر ـ ستجد فيها إضافة ورؤية خاصة بي ككاتب.

– عمومًا أنت تحب أن تقدم شخصياتك بحدث، على العكس من قيام بعض الكتاب باستهلاك أول عشر دقائق في الفيلم كتمهيد، أنت تحب دائمًا أن تبدأ بحدث نتعرف على الشخصية من خلاله.

التقديم المطول ورثته السينما من المسرح، لو راجعت معظم إنتاج المسرح المصري ستجد أن أول شخصية تدخل مع فتح الستار هي الخادمة التي تنظف المنزل، وتدخل بعدها الشخصيات الثانوية تباعًا حتى وصول البطل، والفكرة كانت أن تكتمل الصالة ويجلس كل في مكانه، ويتم تمهيد الجو لدخول النجم. العدوى انتقلت للسينما وصارت عادةً يستخدمها الكثير. لكن الصحيح أن أساس الدراما هو الحدث، أبدأ بالحدث ومن خلاله ستتعرف على كل ما يهمك عن الشخصية، وهو ما يحدث في مشهد المحاكمة بفيلم طائر الليل الحزين.

– سمة ثانية ظهرت في الفيلم الأول وتطورت في المستقبل بشكل واضح، هي قوة مشاهد المواجهة، لدينا هنا أربعة أو خمسة مشاهد مواجهة بين شخصيتين يمكن اعتبارها أحد المحركات الرئيسية لدراما الفيلم.

هذا صحيح، ومشاهد المواجهة أداة يجب أن تُوظَّف بمهارة درامية شديدة، بحيث تفترض ككاتب أن الجمهور الذي يشاهد الفيلم منقسم بين الشخصيتين، نصفه مع هذه الشخصية ونصفه مع الأخرى، عليك في النهاية أن تنتصر لوجهة نظر على أخرى، وتقنع نصف الجمهور بأن شخصية منهما قد خسرت هذه المواجهة، وكأنها مباراة كرة لا يوجد فيها تعادل، ليست مبارزة خائبة لا ينتصر فيها أحد، فهو في النهاية مشهد في سيناريو، لا بد وأن يساهم في تحريك الدراما.

مشاهد المواجهة تحتاج لممثلين على قدرٍ عالٍ من الفهم والحرفية، فهناك فارق بين ممثل يرمي الكلام وكأنه يلفظ دخان سيجارة، وبين الممثل الذي يفهم الكلمة وقيمتها ويعطيها ما تحتاجه من أداء.

فيلم طائر الليل الحزين 
مشهد من فيلم طائر الليل الحزين


– ما
الذي تذكره أيضا من عملية صناعة فيلم طائر الليل الحزين؟

هناك خطأ طريف يتعلق بمنطق الأحداث والممثلين، أو للحقيقة هو خطأ كبير، فالمحقق في الفيلم يعمل كرئيس نيابة، وهي وظيفة سن من يشغلها لا يتجاوز 30 أو 35 سنة، هذا العرف والواقع لأن بعد هذه المرحلة يبدأ رئيس النيابة في الترقي في سلك القضاء. كان اختيار هذا السن للشخصية [لو تحقق] ملائمًا للواقع، ومهمًا للدراما لأنه يُضفي فكرة التناظر بينه وبين البطل. لكن الشخصية في الفيلم لعبها محمود مرسي الذي كان قد تجاوز هذه المرحلة العمرية بكثير.

هذا خطأ يرتبط أيضًا بموروث السينما المصرية، التي طالما شاهدنا فيها ممثلًا في السبعين من عمره يلعب دور قاضٍ جزئيٍ، بينما في الواقع سن هذه الوظيفة لا يتجاوز بحال نهاية الثلاثينات.

في الإذاعة الممثل عبارة عن صوت، فعندما يأتي عمر الحريري وهو صاحب صوت شاب ليلعب الشخصية، فالمستمع يتخيل الشخصية وفقا لمعلوماته عنها، أما على الشاشة فالأمر مختلف، وسن محمود مرسي وقتها كان يصلح لأن يكون قاضيًا في محكمة النقض، وليس مجرد رئيس نيابة. لكن وقتها ـ كي أكون صادقا ـ لم أكن أمتلك الثقافة القانونية الكافية لإدراك هذا الخطأ، بالإضافة لأني بالطبع فرحت بوجود محمود مرسي، فهو أستاذي.

عمومًا، في كل يوم يمر عليك تزداد خبرةً وحنكة، ويمكن أن أقول إن هذا الفيلم هو سبب اهتمامي لاحقًا بالثقافة القانونية وتعمقي فيها، لدرجة أن بعض الأشخاص أصبحوا يعتقدون الآن أنني في الأصل كنت محاميًا قبل أن أحترف الكتابة.

– البطل تغير من عادل إمام في المسلسل الإذاعي إلى محمود عبد العزيز في الفيلم، ما سر هذا التغيير؟

عندما طلبت من الأستاذ مخلص شافعي أن يكون بطل الفيلم هو عادل إمام، رفض بشدة باعتباره هزيلًا ويفتقر للوسامة ويستحيل أن تقع امرأة كشويكار في حبه، وجاء بمحمود عبد العزيز باعتباره فتى وسيم يمكن أن يكون جذابًا للنساء. كان هذا قبل شهور قليلة من انفجار شعبية عادل إمام الهائلة، بعدها صار العمل معه حلم الجميع.

وحيد حامد مع عادل إمام من كواليس أحد أفلامه
وحيد حامد مع عادل إمام من كواليس أحد أفلامه

– في الفيلم يوجد تتابع مطاردة رجال عادل أدهم لنيللي وهي تحمل الملابس وتركب تاكسي، ويظن المشاهد أنها ستأخذهم إلى مخبأ البطل من دون أن تنتبه، لكنه يكتشف لاحقًا أنه لاحظت مطارديها وتقوم بتضليلهم. هذا في رأيي أول تتابع في أعمالك يحمل حرفية كتابة السيناريو الجماهيري.

هذه مسألة تختلف من كاتب لكاتب، هو اختلاف إلهي لا يد لك فيه، أو باختصار ما يطلق عليه الموهبة. أن يذاكر الكاتب أو يبحث في موضوع ما هو جهد شخصي، لكن أن ينعم الله عليك بنعمة الخيال فهذا أمر آخر. ويرتفع أو ينخفض تقييم الكاتب عن الآخر بمساحة الخيال التي يمتلكها. أعتقد أن الله منحني مساحة من الخيال تُمكّنني من كتابة مشاهد تعجب الجمهور، وأنا بالأساس مشاهد سينما، تعلمت وسط الجمهور عندما كنت أقطع تذكرة صالة أجلس فيها بين أفراد الجمهور البسيط، وأختار قاعات مختلفة لتتباين المستويات الاجتماعية والثقافية، من سينما كوزموس وبيجال وعلي بابا ومترو وديانا

تجربة المشاهدة وسط الجمهور علمتني أنه إذا ما تمكن مشاهد من التنبؤ بالحدث ومعرفة ما سيحدث لاحقًا، فهي مصيبة للكاتب وعيب في خياله، سرعان ما تجعل المشاهد يتعامل مع الفيلم بدونية قد تصل للسخرية، فهو يتوقع أن يفعل البطل كذا فيحدث، فلماذا عليه أن يتابع الشاشة باهتمام؟

تعلمت ألا يسبقني المشاهد لا في جملة حوار ولا في حدث، بمعنى أن يخالف ما أكتبه توقعات المشاهد وخياله باستمرار، وهو ما يسمى ببساطة عنصر التشويق. اللحظة التي تتمكن فيها من الانتصار على توقعات الجمهور و«كسر فهلوته«، سيسكت من تلقاء نفسه ويشاهد الفيلم باهتمام واحترام. أعتقد أن هذا ينطبق على التتابع الذي ذكرته.

اقرأ أيضا: «أيام الرصاص»… رحلة في مجتمع ما بعد الحرب

شارك هذا المنشور