هل مازلت تظن أن فيلمك أو مسلسلك المفضل سيظل كذلك بعد مرور سنوات من مشاهدتك الأولى له؟ إذا كان جوابك «نعم»؛ فأنت محظوظ من دون شك. وإن كان العكس، اقرأ هذه المقالة.
على مرّ السنوات تتراكم مشاهداتنا السينمائية لتبني ذاكرتنا وتعزز ذائقتنا، وتيسّر لنا مع الوقت تحديد تفضيلاتنا بحسب الأنواع الفنية أو توجه القصص وحتى الفنانين، وصولًا إلى تفصيل أكثر دقة يتعلق باختيار فيلم أو مسلسل كي نصفه بأنه «مفضّل». لكن ما مدى ثبات هذا الأمر، ولأي حد يتغير عبر الزمن؟
بحسب تدرجنا العمري مررنا بتجربة اكتشاف الأعمال الفنية بمختلف أنواعها، مثلًا متذوقي الفن التشكيلي اليوم كانوا يجدون صعوبة بالغة في تقبل الأعمال التجريدية، وأصحاب الآذان الموسيقية بدأت ذائقتهم تتشكل بأغانٍ وأناشيد بسيطة موجهة للأطفال، وربما أكثر السينمائيين اليوم بدأت خزينة مشاهداتهم بأفلام الأنيميشن الكلاسيكية، كل ذلك يُعتبر مرتكزات أو قواعد تتنامى لتصنع ذوق الفرد. لكنّ تأثير قناعاتك، تشكّل قيمك، توسّع الخيارات يساهم في تغيير ما أحببته، وصولًا إلى مرحلة من النضج وتنامي الذوق في عالم متسارع ومتحرك لدرجة يصعب عليك فيها تحديد مفضّلات بعينها لوقت طويل، فنحدد في سياق حواراتنا فيلم طفولتنا المفضل، ثم نقول أن آخرًا كان أفضل فيلم خلال مراهقتنا، وهكذا.
كأن أقع وأنا طفلة في حب فيلم «سندريلا 1950»، ويسحرني الأمير الذي ينقذ فتاة مظلومة من حياة بائسة، ثم انتقل مع العمر والمشاهدات إلى أقصى الشرق من الخريطة، حيث الأنمي الياباني، وروائعه الأكثر تعقيدًا، لتكون «الأميرة مونونوكي» Princess Mononoke 1997 هي شخصيتي المفضلة؛ الأميرة التي تسعى إلى إنقاذ العالم. تخيّل النقلة!
هل يعني ذلك أني كرهت «سندريلا»؟ طبعـًا لا، لكني تخليت عن كونه فيلمي المفضّل كما يتخلى الطفل عن الحديث لأصدقائه المتخيلين. هذا المثال يبيّن أثر الزمن على خياراتنا التي كنا نظنها من اليقين.
بحسب نظرية التفضيل الشخصي (Personal Preference Theory)، يفضّل الناس الأفلام التي تتماشى مع ميولهم الشخصية أو تلك التي تلبّي احتياجاتهم النفسية والعاطفية، الأمر الذي يُعتبر يختلف من شخص لآخر، بل ومن ظرف لآخر لدى الشخص نفسه. كما أن التجارب الشخصية مع أفلام سابقة قد تؤثر على التفضيلات المستقبلية. فإذا استمتعت بفيلمٍ معيّن بسبب موضوعه أو أسلوبه، فقد تكون أكثر ميلاً لاختيار أفلام مماثلة، خاصةً إذا ارتبطت مع ذكريات عاطفية إيجابية. بينما هناك من يختار أفلاماً توفّر له مهربًا من الضغوط اليومية. كالأفلام الكوميدية. وهناك من ينحاز إلى المراجعات والتقييمات التي تحدد مشاهداته فيعلق في ذوق شخص آخر.
إنّ فكرة تشارك الذائقة واردة طبعًا، لكن قد يصعب وضعها في إطار التفضيل، فعلى صعيد التأثير الاجتماعي، يمكن أن تؤثّر التوصيات على التفضيلات الشخصية، وقد يكون الجميع مرّ بتجربة مشاهدة فيلمٍ تحت ضغط اجتماعي، مثلاً فيلم «باربي» 2023، فالحملة التسويقية الضخمة والإلحاح النقدي وجدل النقاش، ضغط على العديدين لمشاهدته كي لا يكونوا خارج دائرة المواكبة، والتي تعدّاها البعض إلى طور الاستهلاك الوردي.
شخصيًّا، تسحرني فكرة استعادة كل اللحظات التي شعرت فيها بأن هذا أو ذاك فيلم مفضّل لي، كمحاولتي الآن بأن أشير إلى أحد مفضّلات مراهقتي فيلم «الزوجة 13» لرشدي أباظة وشادية من عام 1962، من تأليف أبو السعود الإبياري وإخراج فطين عبد الوهاب، وأحاول هنا جاهدةً تذكّر أسباب التفضيل البعيدة عن وسامة وكاريزما رشدي أباظة، إنها برأيي حالة نوستالجية لفترة مراهقتي حيث شح الخيارات المتاحة للمشاهدة، والاستحضار الحميمي لشراكة الفُرجة العائلية في صالة المنزل، أضف إلى ذلك دون شك لطف القصة الكوميدية والأداءات الجميلة لحبكة بسيطة.
ومن باب مفارقة لم أتوقعها، احتل الفيلم المرتبة 13 في قائمة أفضل مئة فيلم كوميدي مصري التي أعلنها مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في دورته الثامنة والثلاثين لعام 2022، والمرتبة 33 في قائمة أفضل مئة فيلم غنائي مصري والتي أعلنتها الجمعية المصرية لكتّاب ونقّاد السينما ضمن فعاليات مهرجان الإسكندرية السينمائي في دورته التاسعة والثلاثين لعام 2023، وطبعًا أغنيتي المفضّلة من الفيلم هي «وحياة عينيك» التي كتبها مرسي جميل عزيز، ولحّنها كمال الطويل (اعط نفسك استراحة مليئة بالغنج واللطف واستمع للأغنية).
هل مازلت أحب الفيلم؟ أظن ذلك.
هل أستطيع اعتباره مفضلًا؟ لا.
أنْ تحبّ فيلمًا لفترات طويلة، وتظل تظن أنه ضالتك السينمائية إلى أن تصطدم بأنه لم يعد كذلك، أمرٌ قد أراه واردًا جدًا وعاديًّا جدا، لكنّ المفاجأة الحقيقية هي تلك المشاهدات الاستعادية التي قد تُعلي من قيمة ما كان عاديًّا أو غير مفضّل.
خلال مرحلة دراستي الجامعية كانت قناة «Dubai One» تعرض مسلسل «Gilmore Girls» تحديدًا كل ثلاثاء عند الساعة الثامنة مساءً، (ولك أن تتخيل حجم الولاء والمتعة المقطّرة التي دفعت أجيالًا لتحمّل هذا النوع من الانتظار لمشاهدة حلقة وراء حلقة، مع كم مهول من الإعلانات العابرة على التلفزيون!). يقدّم المسلسل دراما كوميدية تدور حول العلاقة بين أم عازبة في الثلاثينيات من عمرها وابنتها المراهقة، تعيشان في مدينة صغيرة «ستارز هولو»، حيث تجمعهما علاقة استثنائية بشكل شخصي واجتماعي.
حين تشاهد مسلسلًا في مرحلة وعي غضة، تناكف فيها خيارات الحياة من حيث الدراسة والعلاقات الأسرية والاجتماعية، وفي مرحلة صُنّفت علميًا بأنها مرحلة أزمة ربع العمر، هو أمرٌ يختلف تمامًا عن مشاهدة لاحقة في عمر أنضج، وتراكم ذوقي مزدحم لشخص بات مهووسًا بالأفلام والمسلسلات، ويعمل في مجالها.
لماذا أحببت «Gilmore Girls» في بداية الألفية؟
أولًا لحميمية القصة، والانسجام الخرافي بين أم وابنتها، عدا عن موازاة تجربة دخول البطلة «روري» للجامعة مع التحاقي بسنتي الجامعية الأولى.
أيضًا في ذلك الوقت كان كل انحيازي العاطفي خلال المسلسل لصالح الأم «لورلاي»، التي تربطها علاقة معقدّة مع والديها، حيث اضطرّت منذ عمر مبكّر على الابتعاد عنهما، وشقّ طريقها وحيدة إلى أن تتلاقى الطرق، وتضطر إلى إعادة المياه لمجراها.
«لورلاي: أمي كانت هنا. أستطيع أن أشعر بذلك.
روري: جدتي لم تكن هنا.
لورلاي: هل تشمّين هذا؟
روري: ماذا؟
لورلاي: الغرفة – رائحتها مثل الشعور بالذنب وشانيل رقم 5».
خلال تلك الفترة لطالما ناصرتُ «لورلاي»، ووحشنتُ والديها بغضبٍ طفولي على عدم دعمها بشكلٍ أعمى لمجرد أنها ابنتهما، نعم لقد أحببت المسلسل، وتابعته بولاء، لكني لم أعرف أنه مفضّل لأي حدٍّ عندي سوى الشهر الماضي! فوصولًا إلى العام 2024 ومشاهدتي الحالية للمسلسل، مازلت أحبه، ووجدته مفضلًا لأسبابٍ أوسع؛ تتعلق على سبيل المثال لا الحصر ببناء الشخصيات، وتصعيد الأحداث، وذكاء الحوارات، ساند ذلك أداء مبهر – مع أنّ الانتقاد الوحيد الذي طال المسلسل في وقته كان على حواراته لطولها وسرعة رتمها، وستلاحظ عند مشاهدته مترجمًا مواضع مختلفة قُصّت فيها تعليقات عشوائية؛ كي يتمكن المشاهد من مواكبة الحوار المنطوق.
والأكثر من كل تلك الأسباب هو تفصيل انتبهت له مؤخرًا؛ كان استبعاد النزعة المثالية لقصص من هذا النوع، حيث لا نجد شخصية منزّهة على الإطلاق، وتجد انفعالات الشخصيات وتغيراتهم تعبرك بخفةٍ وسياقٍ طبيعي موسمًا بعد موسم. الجانب الفني الذي تجلى لي كذلك هو الحس المسرحي الذي قد يشي بالنسق المتبع في الأعمال الموسيقية، حيث المؤدين يتنقلون بخفة تشي بالرقص.
سبق وأخبرتني أختي، وهي شريكتي في تفضيل هذا المسلسل عبر السنوات، أنّ أحد أبرز أسباب نجاح المسلسل عند عرضه كان تفرّده في اختيار بيئة خبتْ تلفزيونيًا، وهي بيئة المدن الصغيرة، في وقت انتشارٍ كبير لمسلسلات تدور في عوالم المستشفيات وشركات المحاماة وأصوات الإسعاف وسيارات الشرطة في خلفية الحلقات.
بالمناسبة، المسلسل من ابتكار وإخراج آيمي شيرمان بالدينو، وبطولة لورين غراهام وأليكسس بليديل. وأغنية التتر هي واحدة من أجمل أغاني المسلسلات التي أحببتها على الإطلاق، ألّفتها كارول كينج وتوني ستيرن، وأدتها كارول كينج ولويز جوفين «Where you lead».
هو خيار أحببته بداية الألفية وكان مفضلًا، وبعدما يزيد من 20 عامًا صار مفضلًا أكثر! وهذا من حُسن حظي دون شك.
اليوم ومع حمى تيار اليقظة في الولايات المتحدة (Woke Movement) باتت الصناعة الفنيّة مثقلة بالأجندات، والإشعار بالذنب للصنّاع والمشاهدين على حد سواء، فلا يجب ألّا يمثّل مسلسلك المفضّل جميع فئات المجتمع عرقيًّا وجندريًّا (التهمة التي باتت تصم مسلسل FRIENDS)، ولا يجب أن يكون سياق القصة -مهما كان واقعيًّا أو ممتعًا- فيه انتقاص لمجتمع أو تجمّع ما (كمسلسل The Office)، وغير ذلك من سلاسل الممنوعات والتحكّم بالتلقي وتقييد الفن.
ختامًا، ربما مرّ عليك ظاهرة انتشرت مؤخرًا في وسائل التواصل الاجتماعي تدعو للتصريح بما يعجبك دون وضع حسابٍ للآخرين، حيث يكتب الشخص منشورًا يبدأ بعبارة «كفاية خوف من المجتمع» متبوعة بالتصريح بأغنيته المفضلة التي قد يراها الآخرون سخيفة، أو فيلمه المحبب الذي وصفه ناقد بالكارثي. أما عنّي فـ: كفاية خوف من المجتمع وفضّل ما تريده، ثم شاهده مرارًا وتكرارًا دون أي حسابات لأعراض جانبية لمشاهدة استعادية.
اقرأ أيضا: «خط التماس»… لبنانية تحمل الحرب الأهلية في حقيبة مدرسية