فاصلة

مقالات

لـ جون فورد عناقيد العنب.. ومن جون شتاينبك عناقيد الغضب

Reading Time: 6 minutes

أخرج جون فورد (1894- 1973) أحد أساطير السينما الأمريكية، الفيلم الملحمي الكبير The Grapes Of Wrath، «عناقيد الغضب»، 1940، عن رواية بنفس الاسم صدرتْ 1939، للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، وبعد ثمانية عقود من ظهور الرواية والفيلم، يبدو عند المُقَارَنَة، أن فيلم جون فورد، صالح لإعادة المُشاهَدَة، أكثر من إعادة قراءة رواية شتاينبك التي تُحسب الآن على روايات الواقعية الاشتراكية. فالنظرة الرومانسية لعدالة اجتماعية عالمية تقودها الطبقة العاملة، مُنيتْ بهزيمة مدوية، ولم يبق من الرواية سوى الفقر والجوع واليأس. يرجع نجاح الرواية في زمن صدورها، إلى طبيعة موضوعها، وتأثيره على حياة الأمريكيين، وهو موضوع الكساد الاقتصادي العظيم الذي ضرب سوق الأسهم الأمريكية عام 1929، وازداد الكساد عمقًا في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي.

عناقيد الغضب

 منذ اللحظة التي صدرتْ فيها رواية شتاينبك مترامية الأطراف، بلمستها الماركسية الثقيلة، وإعجاب القرّاء الجارف، وحصولها على جائزة بوليتزر للأدب 1939، أصبحتْ هوليوود على صفيح ساخن، لا تستطيع الحسم بين نفورها من موضوع الرواية، وبين لعابها السائل، لإنتاج الرواية في فيلم يحقق نجاحًا ماديًا. 

فكّر داريل زانوك مدير الإنتاج في شركة «فوكس»، أن تصوير فيلم مثل «عناقيد الغضب»، سيكون وثيقة عن الرجال والنساء الذين وصفهم فرانكلين روزفلت في أوائل عام 1933، بأنهم «يعانون من سوء السكن، وسوء التغذية، وسوء الملابس، حيث يُخيم عليهم غبار الكارثة العائلية يومًا بعد يوم». ستكون دراما الفيلم عن التفاؤل الأمريكي، وانتصار الناس العاديين على طغيان الاقتصاد وسموم التحيز الطبقي. كانت هوليوود تفكر أيضًا في ركوب الرواية الشيوعية والتخفيف من حدتها، بصفقة تصالح مع الفقراء، تبعدهم عن الحل الراديكالي المطروح من قِبَل شتاينبك. 

حقق المخرج جون فورد رغبة هوليوود، وخفف من نظرة شتاينبك القاتمة للمجتمع الأمريكي، وفي الحقيقة لم يكن جون فورد مؤمنًا بالفكر اليساري، لكن نجاح الرواية قاده لنزوة التجربة اليسارية، بل إن جون فورد من الممكن اعتباره محافظًا، جمهوريًا، ذكوريًا، وهو على العموم تخلّص في أفلامه العظيمة اللاحقة من تهمة اليسارية، مثل Red River، «نهر أحمر» 1948، The Quiet Man، «الرجل الهادئ» 1952، The Searchers، «الباحثون» 1956، The Man Who Shot Liberty Valance، «الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس» 1962. وعلى الرغم من فوز جون فورد بأوسكار أحسن مخرج، وهنري فوندا بأحسن ممثل عن فيلم «عناقيد الغضب»، إلا أن هوليوود بقيتْ على كراهيتها لموضع الفيلم، وإلى الآن من الصعب الحصول، أو شراء نسخة من الفيلم.

Henry-Fonda-Jane-Darwell-The-Grapes-of

يبدأ فيلم «عناقيد الغضب»، بمنظر طبيعي، مُتعب، وفارغ، ومخيف في عريه، تعصف به الرياح بولاية أوكلاهوما. الخط الفاصل بين الأرض الرمادية، والسماء الرمادية، دقيق، لا يقدر على إظهاره سوى المُصور السينمائي جريج تولاند، ساحر الأبيض والأسود، الذي قام بتصوير تحفة أورسون ويلز، فيلم Citizen Kane، «المواطن كين» 1941. يدخل الممثل هنري فوندا في دور توم جوود إلى المشهد الطبيعي الحزين، ويطلب من سائق شاحنة، أن يسمح له بالركوب معه عدة أميال للوصول إلى بيته. أربع سنوات قضاها توم في السجن بسبب قتل شخص في شجار. يرد توم على أسئلة السائق الفضولية، بأن عائلته من المزارعين وتملك أرضًا. 

في الطريق إلى بيته، يجد توم الواعظ الكنسي «كيسي» (الممثل جون كارادين) يعبث بفردة حذائه البالية، وينظر داخلها، وهو يترنم بعبارة دينية لطلب الخلاص. الواعظ كيسي هو مَنْ عمّد توم عند ولادته، لكنه الآن فقد إلهام الوعظ. يتذكر توم والده الذي قال له، إن كيسي في مرة ألقى موعظته، وهو يمشي على يديه. يبتسم كيسي الواعظ المهرج، فيلسوف النظر في فردة حذائه، ويؤكد لتوم، لا مواعظ بعد الآن. يسأله توم إلى أين يتجه؟ يرد كيسي بعذوبة المتسكع، المشرد، «لا يهم.. منذ أن فقدت الروح كل الطرق متشابهة».

عناقيد الغضب

توم يحلم بوجبة طعام من اللحم، فهو لم يتناول اللحم في سجنه سوى أربع مرات، في أربع مناسبات، في أربع سنوات، في أعياد ميلاد أربعة. يُفاجأ توم وكيسي أن الشركة طردت المزارعين من منازلهم، وعائلته تستعد للرحيل إلى كاليفورنيا للبحث عن فرص عمل. الشركة كيان رأسمالي يملك الأرض، ولا يستطيع المزارعون الوصول إليها، إنها لا أحد عندما يريد المزارع الوصول إلى رأسها. فقط يواجه المزارعون أفرادًا تعمل لصالح الشركة، وهم ينفذون أوامر الشركة. الجرارات المجنزرة تهدم بيوت المزارعين الخشبية. 

تعويض المزارعين عبارة عن منشور في الصحف، مجهول الهوية، يدعوهم إلى 800 فرصة عمل في كاليفورنيا، قطف ثمار الخوخ، والعنب، الأجور المرتفعة، هناك في كاليفورنيا الحلم الأمريكي. الجد جوود، رأس العائلة، يحلم بعد وصوله لكاليفورنيا، بالحصول على عنقود عنب كبير، يدعكه على وجهه، فيسيل العصير على ذقنه. 

عناقيد الغضب

يرتفع شتاينبك بكلمات جوود العجوز إلى رتبة الاستعارة التي تضم الرواية والفيلم معًا، عناقيد الغضب، الغضب الأيديولوجي، الوعود الكاذبة بالحلم الأمريكي. الغضب الأيديولوجي عند شتاينبك يعني التغيير الجذري وسيطرة البروليتاريا (الطبقة العاملة) على وسائل الإنتاج، تحقيقًا لصيغة ماركس الشهيرة، البعيدة عن الواقع «لا تطرح البشرية على نفسها إلا المشكلات التي تستطيع حلها». المُفَارَقَة أن تفاؤل شتاينبك الماركسي، أشد رومانسية من تفاؤل روزفلت وهوليوود وجون فورد الذين يعرضون على الطبقة العاملة في فيلم «عناقيد الغضب»، بعض التحسينات والإصلاحات في أوضاعهم المعيشية، ثم يسحبون نصف تلك الإصلاحات أثناء تحقيقها، ومع هذا يبقى هذا أفضل من فوضى ودموية التغيير الجذري.

قبل الرحيل تجلس الممثلة العظيمة جين دارويل في دور أم توم جوود، وتد الأسرة، والتي نالتْ جائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم «عناقيد الغضب» أمام نار موقد وإبريق ضخم للماء الحار تحرق بعض الذكريات، ورقة من جريدة فيها خبر سجن ابنها توم، كارت معايدة من مدينة نيويورك، لكنها تحتفظ بتذكار عبارة عن كلب بولدوغ صغير من الخزف، معرض لويزيانا، سانت لويس، 1904، وتحتفظ أيضًا بقرطين، تضعهما بيديها على أذنيها، وتنظر في المرآة. البطولة في هذا المشهد الصامت للمصور جريج تولاند، وأداء جين دارويل. 

عرف جون فورد من قبل، بلاغة السينما الصامتة، وله فيها فيلم Iron Horse، «الحصان الحديدي» 1924، ولهذا كان الانسجام بينه وبين المصور جريج تولاند مثاليًا، عندما يتطلب مشهد جين دارويل الصامت، الأداء، وحرفية جريج تولاند في التصوير، فيما يُعرف بالتركيز العميق Deep Focus، وهو السماح ب 10 % فقط من الضوء للدخول إلى فتحة العدسة الضيقة، مما يسمح بعمق رؤية أبعد في الخلفية.   

في ساعة الرحيل يختبئ الجد جوود المرتبط بأرضه، ويرفض سيلان عصير العنب المستقبلي على ذقنه، ومثل طفل تحاول العائلة إقناعه بالرحيل، لكنه يرفض، ويبكي، ويمسك بقبضته تراب الأرض، ويلعن برتقال وعنب كاليفورنيا. تعد الأم قهوة، وتخلطها بالكثير من شراب مهدئ، فالجد العنيد له رأس قوية ضد الكحول. تحمل العائلة جوود العجوز ما بين اليقظة والنوم إلى الشاحنة المتهالكة. 

عناقيد الغضب

يقول أحد أبناء عائلة جوود للأم، وهم في بداية الطريق إلى كاليفورنيا «ألن تلقي نظرة أخيرة يا أمي على البيت». فترد الأم بحزم «نحن ذاهبون إلى كاليفورنيا.. حسنًا.. دعونا نذهب إلى كاليفورنيا». الشاحنة المتهالكة البطيئة تجر وراءها الغبار. لطالما كان فورد شاعر المناظر الطبيعية المقفرة، ليس في «عناقيد الغضب» فقط، بل في أفلامه اللاحقة مثل «نهر أحمر» و«الباحثون». الجبال والأنهار والسهول، كانت دائمًا مادة لتأمل فورد. على جانب طريق الهاي واي، تركن شاحنة العائلة. يكتب توم في ورقة «هنا يرقد ويليام جيمس جوود. توفى الرجل العجوز بسكتة دماغية. قامت عائلته بدفنه لعدم امتلاكها المال لدفع تكاليف الجناز». يضع توم الورقة في مرطبان زجاجي ويغلقه، ثم يدفنه مع جثة جده العجوز. 

تصل عائلة جوود إلى كاليفورنيا، فلا تجد فرص العمل السخية ذات الأجور المرتفعة، بل تجد حشودًا من النازحين الفقراء في مخيمات، أشبه بمعسكرات الاعتقال، انتظارًا لفرص العمل القليلة. ترضى العائلة بما يسد بالكاد تكاليف المعيشة. يُرضي أيضًا جون فورد معتقدات هوليوود، وروزفلت، ورجال المال الأثرياء، عبر مخيم وزارة الزراعة التابع للحكومة، والذي يُعامَل فيه المزارعون مُعَامَلَة إنسانية، طعام جيد، وماء جيد، خدمات صحية، حفلات رقص. وهذه نهاية قبل أخيرة في الفيلم، أمّا النهاية الأخيرة، ففيها يتحول الواعظ كيسي إلى محرض لإضراب العمّال، ويفقد كثيرًا من سخريته العدمية في بداية الفيلم، وهو ينظر في بطن حذائه، وكأنه ينظر إلى الوجود كله، وهذا يناسب فنيًا جون فورد، أكثر من تحول كيسي في الثلث الأخير من الفيلم إلى يساري يتبع مزاج جون شتاينبك. يضحي كيسي بحياته لإنقاذ توم الذي يتذكر كلمات كيسي قبل موته «لا يملك الرجل روحًا تخصه، فقط يملك قطعة صغيرة من روح كبيرة، روح واحدة كبيرة يمتلكها الجميع».

اقرأ أيضا: «باريس، تكساس»… طعنة فيم فيندرز!

شارك هذا المنشور