تعاني السينما المصرية في السنوات الأخيرة من تخمة غير مسبوقة في الأفلام الكوميدية الخفيفة، لدرجة تجعلك أحيانا تفشل في تمييزها عن بعضها. وتتسم هذه الأفلام عادة بطواقم تمثيل متشابهة يذوب فيها الموهوبين وسط المدعين. ضيوف شرف مكررين، وملصقات دعائية بنفس التكوين والألوان والخطوط، وعناوين تعتمد على التلاعب اللفظي المبتذل، وسيناريوهات نصف مطهوَّة، وطواقم فنية شبه ثابتة تتناوب على صناعة هذه الأعمال بنفس النسق الذي يطغى عليه الاستسهال ومنطق «السبوبة السريعة».
فيلم «إكس مراتي» المطروح في السينمات قبل أيام يختلف عن هذه الأفلام، ويمكن القول إنه فيلم كوميدي جيد الصنع بالفعل، فيلم نجا من مفرخة الكسل، ومكتوب بحد أدنى من العناية وخفة الظل. أجاد أبطاله تمثيل أدوارهم من دون استظراف أو مبالغات. وأول سمات الجودة تظهر من ملصقه الدعائي الذي يكشف عن صراع القصة ولو بشكل بسيط. فلم يكن مجرد كولاج رخيص لتجميع صور النجوم.
القصة تدور حول يوسف (هشام ماجد) وهو طبيب نفسي من خلفية أرستقراطية، يعمل استشاريًا في السجون ويكتب التقارير عن الحالة النفسية والتأهيلية للمسجونين، آخر تلك التقارير يتسبب في إطلاق سراح رجل العصابات الخطير «طه العجوز» (محمد ممدوح). ليُفاجأ يوسف بعدها أن هذا الشخص هو الزوج السابق لزوجته «سحر»، وأنه خرج من السجن ليطاردها وينتقم من ذلك «الرجل المجهول» الذي تزوجته بعده.
يرتكز «إكس مراتي» على فكرة درامية مفارقة تقوم على أساسين يكملان بعضهما، أولًا: وضع المتناقضات في سلة واحدة، وثانيًا: الاستثمار في سوء التفاهم بين الشخصيات. وهي مبادئ كلاسيكية في الكوميديا، لكن العبرة دائمًا بجودة التنفيذ.
خلال أحداث الفيلم نرى رجلًا متحضرًا مهذبًا متعلمًا وناجح في عمله، يدخل في صداقة اضطرارية مع رجل سوقي ومزعج ومتهور وله سوابق إجرامية. والأدهى أن الأخير كان يومًا متزوجًا من زوجة الأول وله طفل منها، وهي الحسناء التي نراها اليوم وقد أصبحت سيدة أعمال من طبقة الصفوة، بعد أن محت ماضيها وتخلصت منه.
الآن، تخيل أن الشخصيات الثلاث (ومعهم الطفل) يعيشون تحت سقف منزل واحد، بعضهم يعرف الحقيقة، وبعضهم لا يعرفها. ثم توقع كم المواقف الطريفة والمفارقات التي قد تحدث جراء سوء الفهم وتضارب المصالح الذي سيحدث في هذا المكان.
كل ذلك، مع ضرورة الانتباه إلى أن من يقف وراء الكاميرا هو «معتز التوني»، المخرج الذي يتمتع بخفة ظل وخبرة في استخراج الفكاهة عن طريق أدوات الصورة والموسيقى والمؤثرات والحركة والمونتاج قبل «الإفيهات» أحيانًا. لكن الميزة الأكبر في سيناريو «إكس مراتي»، أنه لا يكتفي بالمنطق الكارتوني القائم على تناقضات الشخصيات فقط، بل يكمل رسم تلك الشخصيات بنضج درامي. فكل منهم لديه غاية واحتياج وجُرح. ويتم توظيف ذلك دراميًا بشكل جيد.
نحن أمام بطلين متنافرين، لكن كل منهما يملك بداخله الصفة التي يحتاجها الآخر ولا يعرف. يوسف مثلا، أسفل طبقات الاحترام والتحضر والرقي، يخبئ طبقات أخرى من الجبن والسلبية. طه، وراء قناع الفظاظة والعنف والإجرام، يملك الشجاعة والمسؤولية. إذا، يوسف يحتاج لطه والعكس.
وهنا، فالصراع أمام الكاميرا ليس صراعًا سطحيًا لتسليتنا؛ بل صراع يكمل مغزى القصة، سواء بعين المتفرج، أو بعين الزوجة. فهي الأخرى في معضلة أخلاقية وعاطفية بسبب وقوعها في اختيار افتراضي بين الرجل المحترم السلبي، والرجل الفظ المسؤول. تلك هي رسالة الفيلم. نعم ليست رسالة عميقة أو فلسفية. لكنها على الأقل تحفظ للفيلم السير وفق منطق درامي ما، ليبتعد ولو قليلا عن عشوائية الاسكتشات.
العيب الأبرز في السيناريو يكمن في رسم ماضي شخصية الزوجة، أو محطات التحول من «سوستة» إلى «سحر»! هناك شيء مرتبك في تصميم تلك الشخصية، من الزاوية الطبقية والتطورية، وعلاقة ماضيها بحاضرها، هناك تفاصيل غير مفهومة. يحاول الفيلم تبرير هذا القصور بالتلويح أن البطل نفسه «يوسف» مصدوم في حقيقة زوجته، وأنه ياللعجب لم يعرفها طيلة ثماني سنوات. لا بأس، إذن، إن لم يعرفها الجمهور طيلة ساعتين مدة العرض. وقد انعكس الارتباك في كتابة تلك الشخصية على الأداء التمثيلي لأمينة خليل.
فيما قدم محمد ممدوح أداء تمثيليًا قويًا، استطاع من خلاله الكشف عن طبقات متعددة للشخصية التي يلعبها، وإظهار جوانب عاطفية منها دون إفراط أو ميوعة. كما يُحسب له أن خطواته الأخيرة كلها تكرس لمفهوم «الممثل الجوكر» في طبيعة الأدوار التي يلعبها. فهو قادر على إقناعك أنه بلطجي أو زعيم عصابة أو مهندس من الطبقة المتوسطة أو إرهابي أو قائد جيوش روماني، أو شرطي فاسد، أو سائق شاحنة رقيق الحال.
قدم هشام ماجد أدائه الهادئ الموزون كعادته. يُضحكنا دون فرد عضلات أو بذل مجهود. وقد بات يتضح منذ الانفصال التدريجي للثلاثي الكوميدي (أحمد فهمي – شيكو – هشام ماجد)، أن الأخير هو صاحب الخطوات الأنجح. تفسيري لهذا التفوق (النسبي) هو أن هشام ماجد كان أقل من زميليه تمتعًا بمقومات كوميديا الجسد، ما دفعه دفعًا للاهتمام بجودة نصوص الأعمال التي يقدمها، لأنه – في غياب المقومات الأخرى – سيكون رأسماله الوحيد هو النص الجيد. وقد كان.
ختاما. رغم أن «إكس مراتي» ينتمي نظريًا لنفس المنظومة التصنيعية التي تفرز الرداءة الكوميدية وتمتلئ بها إنتاجات الساحة، يأتي هذا الفيلم ويخالف التوقعات ليكون مثل الإبرة التي عثرنا عليها في كومة القش.
اقرأ أيضا: الطريق إلى شباك التذاكر مفروش بالاستثمار في صناعة النجوم