فاصلة

مقالات

«الدجاج بالبرقوق».. موت الفنان في الطريق الذي لم يسلكه

Reading Time: 7 minutes

عُرِض فيلم «الدجاج بالبرقوق  – Chicken with Plums» المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي، في الثالث من سبتمبر 2011. تدور أحداث الفيلم حول «ناصر علي خان»، الشخصية التي استوحتها مؤلفة ومخرجة العمل الإيرانية مرجان سترابي، من شخصية عمها.

قصة الفيلم مبنية على أحداث واقعية تدور حول ما تقاسيه روح الفنان ما بين حبه الضائع و زواجه الفاشل. حكاية إيرانية مروية بالفرنسية؛ إذ وُلِدَت المؤلفة في مدينة «رشت» و نشأت في «طهران»، وهناك التحقت بالمدرسة الفرنسية ثم غادرت لدراسة الفنون في «ستراستبورغ». و هي تعيش حالياً في باريس. 

فالسينما الإيرانية ازدهرت دوماً في ظل صيغ مختلفة من الديكتاتوريات، لذا طورت آلية بقاء تقوم على «الاستعارة» المعروفة بالإنجليزية بالـ «Metaphor» وقد تكون اللغة بحد ذاتها استعارة، فنحن نختبئ خلف اللغة أحياناً ليسهل علينا قول ما يصعب علينا قوله في الثقافة التي تنتمي إليها لغتنا الأم.

رحلة البحث عن كمان ضائع

المشهد الأول في الفيلم يدور في طهران، خريف عام 1958. يخبرنا الراوي، الذي سيرافقنا طوال أحداث الفيلم، بأننا نشهد بداية رواية فارسية. و يأخذنا فوراً لنقابل «ناصر علي» موسيقي وعازف كمان. يسير في الشوارع حاملاً كمانه الجديد الذي اشتراه للتو، وتعبر بجواره حبيبته «إيران» التي فارقها منذ عقدين من الزمان. لكنها لا تتذكره؛ إنها ليست حبيبته! ثم يصل إلى منزله ويعزف على كمانه لكن لا تخرج ألحانه بالحنان الذي كانت عليه عندما جربه لأول مرة في دكان بيع الآلات الموسيقية، فيعيده وقد فقد أعصابه. ثم يسمع عن وجود كمان «ستراديفاريوس» نادر لدى بائع في مدينة «رشت»، فيسافر و يعود به؛ لكن ما زال عزفه ميتاً! من هنا نكتشف أنه في رحلة بحث عن بديلٍ لكمانه القديم المحطم، وحين لم يجد له بديلًا رمقه بنظرة وداع وقرر الموت.

الدجاج بالبرقوق

خلال ثمانية أيام من الاحتضار، يعيش «ناصر علي» على السرير، حيث يحلم ويتذكر؛ تختلط في ذاكرته وقائع من الماضي مع تخيلات للمستقبل. يستعيد ذكريات من طفولته، و يتنبأ بمستقبل أطفاله، و نحن نشاهد معه هلوساته ولا يبدو شيئاً في مكانه الصحيح، ثم نفهم كل شيء عندما نعيد ترتيب أجزاء القصة. يستعيد «ناصر علي» شريط حياته بينما يغادرها، من خلال انعكاسه في عيون ثلاث نساء: والدته الراحلة، وزوجته الحانقة، وحبيبته الأولى. و في مشهد سيريالي، تعبر هلوساته صوفيا لورين! يجسَّد «ناصر علي» خليطاً إنسانياً معقداً يقدم تصوراً موجزاً للرجال و النساء في بلده؛ إيران ما قبل الثورة.

الدجاج بالبرقوق

في السطح، نشاهد واحدة من أكثر القصص نمطية stereotypical، غير أنها تُروى ببراعة تجعلك تود أن تشاهدها للنهاية، مرة بعد مرة! و سيجد كل أحد منا جزءاً منه في كل شخصية. في الدقائق العشر الأخيرة من الفيلم، نعود لنشاهد «ناصر علي» وهو يسير في الشوارع حاملاً كمانه الجديد الذي اشتراه للتو، وتعبر به حبيبته «إيران» التي فارقها منذ عقدين من الزمان. و تتذكره؛ إنها حبيبته!

الدجاج بالبرقوق

الطريق الذي لم أسلكه

في قصيدته المعنونة «The Road Not Taken»  يتحدث الشاعر روبرت فورست عن مفترق طرق في غابة مصفرة بفعل الخريف، حيث شعر بالأسف إذ لا يستطيع أن يمشيهما معاً! و قد تطَلَّع طويلاً إلى أحدهما، ثم سلك الآخر حيث بدا أكثر اخضراراً في ذلك الحين. ترك المنعطف الثاني ليومٍ آخر، و قد حمل شكِّه حيال العودة إليه يوماً ما. ثم كلا الطريقين تغطيا بأوراق الشجر حتى تشابها. واليوم يقولها مع تنهيدة، في مكان ما في زمن آخر، في حياة أخرى ربما، مفترق طرق في غابة، و هذه المرة سوف يقطع الطريق الأقل ارتياداً، و ذلك ما سيصنع كل الفرق!

«Two roads diverged in a yellow wood

And sorry I could not travel both

And be one traveler, long I stood

And looked down one as far as I could

To where it bent in the undergrowth»

لماذا سنة 1958؟ لأن في تلك السنة حصل الانقلاب الذي أطاح برئيس الوزراء المنتخب، و الذي قادته الولايات المتحدة، و ستظهر تلميحات ساخرة في الفيلم تهزأ بالثقافة الاستهلاكية الأمريكية، وشكل الأسرة الأمريكية وأدوار الأفراد فيها، وذلك من أجل إظهار التباين بينها وبين العائلات التقليدية الإيرانية، ونزوعها إلى الجمع ما بين أن تكون عصرياً، وكذلك، محافظاً. كما أن تلك المقارنة ظهرت في سياق يوضح التحول الذي جرى في خط السلالة الواحدة، وكيف اختلف عالم الابن اختلافاً كبيراً عن العالم الذي نشأ فيه الأب. و قد وضحت كاتبة القصة أن النسخة التي تحول إليها الفيلم مبتعداً بشكل متعمد عن تفاصيل كانت جوهرية في الكتاب، كان الهدف منها أن تكون القصة عالمية أكثر ويرتبط بها الجمهور من أي مكان بالعالم.

راوي و موسيقى و مسرح

 يحتفي الفيلم بعناصر عديدة من التراث الفني الفارسي، حتى إنه يبدو مزدحماً بالتفاصيل وكأنه غرفة جامع تحف. ليس له طابع موحد،  وكأنه مصنوع من أشكال مختلفة من الفن لتكوين عمل فني جديد، أجزاء من قطع فنية مختلفة (ديكوباج) غير أن سياقاً (درامياً) يربطها. وسوف يلامس روح الطفل أو الفنان بداخلك على الفور، وجزء من ذلك يعود إلى صوت الراوي «الحكاواتي» الذي يجوب العالم و يجلب معه حكاوي الشوارع.

طوال الفيلم، يصطحبنا صوت الراوي على خلفية موسيقية، تقدم المشاهد والشخصيات وتعطيهم مساحة للأداء و تعود لتربط الأحداث ببعضها البعض. الحوارات مسرحية، داخلية (مونولوجات) وخارجية (أحاديث تدور بين الشخصيات)، وفي كلا الحالتين تتجه الشخصيات إلى الجمهور (على طريقة المسرح)، حيث تترتب الشخصيات عندما يجمعها مشهد واحد بطريقة تظهرهم جميعاً في إطار واحد، تتخذ مواقعها و تتوقف بمواجهتنا، تقول أسطرها ثم تعود إلى الحركة.

منذ اللحظة الأولى، وقبل بداية أحداث الفيلم، نرى بوضوح طابعه المسرحي ونلاحظ العناصر المسرحية التي تقدم المشاهَد على هيئة لوحات أو مناظر تجري الأحداث على خلفيتها. وتعطينا الانتقالات بين المشاهِد انطباعاً بأننا جمهور يشاهد فصولاً مسرحية. يتعزز ذلك الإحساس كلما أظلمت الشاشة مؤقتاً من أجل التبديل بين المناظر؛ تتحول الشاشة إلى الأسود لمدة ثواني، مثل إسدال ستار أو إغماضة مطولة للعين.

الدجاج بالبرقوق

الموسيقى هي القصة، تبرز الموسيقى على خلفية باهتة تخلو من الألوان، وتبرز الحوارات المهمة بتأثير اللمسة الدرامية التي تضيفها الموسيقى المرافقة لها. الفيلم قائم بأكمله على الموسيقى والحوارات، وأثناء إلقاء الحوار يكون الأداء الدرامي والتركيز على تعابير الوجه. وفي معظم الوقت نحن لا نرى سوى الجزء الأعلى من الشخصيات ولا يعنينا منها سوى ما يحدث في القلب والرأس، وأما ما يجري في الخارج فليس سوى خيال فنَّان.

الديكور في المشاهد إما شديد الاقتصاد أو بالغ الإسراف، والغرض منه أن يعكس طبيعة الزمان والمكان، ويعطي تصوراً عن المركز الاجتماعي والثقافي، والحالة النفسية والذهنية للشخصية. وكل شيء مصمم ليحافظ على الحضور الطاغي للشخصيات دون أن تغطي بقية العناصر عليها. حتى الموسيقى ظهرت لتعزز من قوة الأداء و لم تقلل من أهمية الحوارات المصاحبة لها.

السرير.. مكانٌ للحلم و للتذكر

الملحقات (الاكسسوارات) أحد العناصر الفعَّالة في إنتاج (سينوغرافيا) العرض المسرحي. بالإضافة إلى الإضاءة والصوت اللذان يساهمان في بناء المزاج العام للمشهد، فإن كل ما هو على المسرح، أي ما يظهر في المشاهِد من ديكور وأغراض (objects) هي هناك لسبب. ليس فقط لأسباب جمالية بل الأهم هي تأثيراتها الوظيفية في خلق البيئة التي يجري فيها الحدث وإيصال السياق الفلسفي للمشهد، وكذلك إضافة بُعد درامي لأداء الممثل يُعبِّر عن الحالة الانفعالية التي تمر بها الشخصية في هذه اللحظة.

في أيام احتضار الفنان، برز السرير في الغرفة و كأنها خالية من أي شيء آخر سواه. بعد أن يتخذ «ناصر علي» قراره بالموت لازم فراشه وامتنع عن الطعام.

السرير مرادف للاكتئاب، وفيه سافر «ناصر علي» للماضي وللمستقبل، اختلطت هلوساته بذكرياته، استقبل زواره و أعاد أمواته، ألف قصصاً و اخترع ذاكرة. إن أيام السرير كانت سوداوية للغاية، إلا أنه، وفي أكثر اللحظات تراجيدية ومن حيث لا يمكن للمشاهد أن يتوقع الهزل، تباغتنا الكوميديا و تتركنا و قد شعرنا ببعض الذنب لأننا ضحكنا و نحن نشاهد تلك «المأساة»!

الضوء والظل لغة بصرية

منذ البداية، كان الضوء هو اللغة التعبيرية التي لاحقت «ناصر علي» لتعبر عن تقلباته الانفعالية، ينحسر أحياناً ليترك مكانه للظلام، وفي أحيان أخرى يتداخل بالظل، ويسطع مرات و تختلف درجات سطوعه بحسب التأثير الدرامي المطلوب في كل مشهد. و قد استُخدِم الظل ببراعة لإضفاء ثقل درامي على المواقف المؤثرة عاطفياً للحد الذي يُشعِر المُشاهِد بالسوء.

و بعدما قرر أن يموت، باتت كل الأشياء قاتمة و كل الأماكن معتمة، وساعدنا ذلك على أن نلاحظ (بتتبع النور) متى انزلقنا بداخل أحد ذكرياته المشرقة. و متى ما زاد الظلام، ترقبنا الأسوأ. على السرير، يُسلَّط الضوء على الممثل و يُبرِز حركاته المُعبِرَة، و قد لعب دوراً أساسياً في أداء الممثلين خلال الفيلم بأكمله. الإضاءة تكشف عما هو مطلوب منا أن نشاهده في اللقطة، وتجمع بين أداء الممثلين في المشهد الواحد. وإلى جانب الديكور والأزياء، تعزز من أداء كل ممثل لشخصيته. 

بقعة الضوء التي تُسلَط على الممثل وهو يتحرك في محيط مُعتِم، تُستَخدَم لتعزيز الدراما وإظهار التناقضات والصراعات. درجات سطوع النور ومدى هيمنة الظل تعطي للمشاهد إيحاءات مختلفة، الحزن و الأسى، الحب و الفرح، تصاعد الحبكة، وضبط الجو أو المزاج العام.

الدجاج بالبرقوق

الطعام.. لغة للحب

«Chicken with Plums» أو «دجاج بالخوخ» هو عمل خيالي واقعي، يعتمد على إثارة حالة مزاجية معينة. أحداث من الواقع، بطلها هو شخصية حقيقية، صنعت رواية مصورة، وتلك الرواية صنعت فيلماً خيالياً. إنه ذاكرة ملفقة، حقيقية ومُؤَلَفة! وبالتعديلات التي أدخلتها الكاتبة على الفيلم، صنعت نسخة من الرواية صالحة لأن تكون قصة كل أحد في أي مكان.

الطعام في جميع الثقافات هو كناية عن الحب. وهو يقوم مقام اللمس. وفي الثقافات الشرقية يُعَدُّ الأكل أحد أبلغ مظاهر أداء الواجب. وهو حاضر في مناسبات الحزن و في الفرح، وهو أول علاقة الأم بوليدها. في الشرق، عندما يحبك أحدهم، فإنه يُظهِر حبه لك بواسطة إطعامك، وكلما تطَّلب الطبق مزيداً من الجهد في إعداده، عنى ذلك أنه لذلك الحد يهتم لأمرك. وإذا استغرق وقتاً أطول في طبخه، فهذا يقول كم يُفكِّر فيك. والأصناف التي تختلط فيها النكهات هي الحياة ذاتها حيث نأخذها بجميع ما فيها من مكونات في لقمة واحدة.

نحن نجوِّع أنفسنا حين نفقد بهجة الحياة. الاعتراض على الطعام هو رفض للحب. و قد كان ذلك الطبق، الدجاج بالخوخ، هو رمز الرعاية الأمومية في ذاكرة «ناصر علي»، و من خلال هذا الطبق حاولت زوجته إظهار تفانيها في حبه، وبالأخير حاولت يائسة إقناعه بالعدول عن قراره بالموت.

إن روح الفنَّان وحش يتغذى على الموسيقى، و قد انكسر قلب «ناصر علي» يوم انكسر كمانه، ولكننا منذ البداية كنا قد عرفنا ما لم تعرفه تلك الزوجة، وهو أن ذلك الموت لم يكن من أجل كمان، بل هو في حب «إيران»!

اقرأ أبضا: «لا تتوقع الكثير من نهاية العالم».. نموذجًا للحداثة والمفاهيمية في سينما رادو جود

شارك هذا المنشور