مثل حادث سيارة مفاجئ وسيئ (سيئ جدًا) قد تصطدم بتشخيصٍ عنيف، طبيب يتثاءب ويطقطق أصابعه وهو ينقل إليك حقائق ستغيّر حياتك، وحياة عائلتك أيضًا إلى الأبد، أو إلى وصولك أنت تحديدًا إلى محطة الأبدية.
خلال هذا النوع من الوقت الثقيل والحقيقي، لا يبدو الأمر كمشهدٍ متقن أعاد المخرج تصويره بشكلٍ متكرر، كي يضمن أن الممثل يلعب دور الطبيب بمصداقية وإنسانية فائقتين. ولا يبدو كذلك أن التحضيرات المناسبة قد اتخذت كي يظهر من يلعب دور المريض (أنتَ كمصاب) بهدوءٍ إيماني، لقد حدث الاصطدام، وانقلبت السيارة وصولًا إلى حافة الجرف، لكنها لم تسقط بعد.
يتم إنتاج العديد من الأفلام حول العالم تقدم زوايا مختلفة للأمراض العضال، مثلًا في حال كان صانع الفيلم «رساليًّا» سيكون الفيلم للتوعية، وفي حالات أخرى سيكون المرض تصعيدًا للأحداث أو تطويرًا للشخصيات أو حتى الإثارة.
لكن كيف هو الأمر من وجهة نظر المتلقي، والمصاب بنفس المرض مثلًا؟ الأمل؟
أعتقد عند تشخيص أي مريض بداء عضال أنّ أول شعور يُطبق على روحه بعد الخوف هو الوحدة، وحدة غامرة تجمعه بالمرض في تلك اللحظة، لقاء لم يختره ولم يرغب فيه، لكنه ملزم به، قد تصبح تلك الوحدة أخف وطأة مع دعم طبيب جيد وأحباء دافئين، أو التعرف إلى آخرين متعايشين مع المرض العضال نفسه، أو البحث وغير ذلك. لكني أظن أن استعادة التوازن بعد الخوف المتوحش الذي هاجم المريض قد يحصل إلا أنه لن يمحو الشعور بالوحدة.
في كتاب «سرديات المرض: المعاناة، الشفاء، والحالة الإنسانية» لآرثر كلاينمان، يقول: «عندما نكون مرضى، نحن لا نعاني فقط من حالة بيولوجية، بل نخوض تجربة إنسانية كاملة؛ نصبح خائفين، مكتئبين، مرهقين، ومستنزفين. أمراضنا ليست فقط حالات بيولوجية، بل هي أيضًا حالات إنسانية».
حسنًا، أنا لا أدري كيف سأنتقل من هذا الاقتباس إلى ما يخطر في بالي بعده، لكني أرغب باستحضار سياقات متنوعة لعدد من التجارب السينمائية قدّمت حالات المرض العضال بيولوجيًا وإنسانيًّا، وكيف رفَع حنوّ السينما في أفلام محددة سقف الرعاية الصحية خلف الشاشة، في الوقت الذي تتدمر فيه تجربتك كمريض غير افتراضي على أرض الواقع.
علميًّا وبشكل غير إنساني يطلق على الأمراض المزمنة تسميات طبية قاسية ومعادية للأمل، مثل «الأمراض غير قابلة للعلاج». لكن سأسميها من طرفي «أمراض التعايش»، تلك التي تتطلب منك تغيير حياتك لتتعايش مع أعراضها وما تفرضه من تراجع على نمط وأسلوب العيش.
هذه الأمراض تحضر سينمائيًا سواءً كان مرض أحد الأبطال، أو منعطف لذروة في الأحداث، يوازيها في الحياة تلك اللحظة المخيفة حين تجلس كمريض أو أحد من أحبابك على نفس مقعد البطل ونفس المرض. فهل يستحضر المريض حينها تناول الفيلم وأداء الممثل، أم تتغبش الصورة؟
لكن ليس لدي وقت لأمرض
جوديث تراهيرن، «Dark Victory»
في فيلم «الفوز الأسود Dark Victory» – 1939 للمخرج إدموند جولدينغ، يحضر السرطان للمرة الأولى سينمائيًا في الدور الذي لعبته بيتي ديفيس؛ جوديث تراهيرن، فتاة مجتمعِ لونغ آيلند، التي تكتشف إصابتها بورمٍ لا يمكن علاجه في المخ.
هل كان الفيلم من بطولة المرض؟ أم المريضة؟ أم من حولها؟
يمكنني القول إنّ الكفّة الثالثة هي التي رجحت، خاصةً إذا ما عرفت أن العنوان الترويجي الذي نشرته صحيفة فلورنس تايمز Florence Times بعد عرض الفيلم مباشرة كان: «من هذا الحنان وُلد الحب الحقيقي… قصة ستعلّمك المعنى الحقيقي لكلمة الإخلاص».
هل فهمت ما أقصده؟
لم تكن قصة الفيلم عن المرض نفسه ولا المريضة. لقد صُنّف الفيلم بالميلودراما الرومانسية، ولن ادّعي أني شاهدته بانتظار حقائق وثائقية، لكنْ باعتباره أول فيلم استحضر مرض السرطان في تاريخ السينما توقعت أكثر، ورغم ذلك توقفت كثيرا عند مشهدٍ لجوديث مع طبيبها ستيل، قبل إجراء عملية يائسة لإنقاذها:
«جوديث (قبل أن تغفو في سريرها في المستشفى): دكتور؟
د. ستيل: نعم؟
جوديث: عندما تدخل رأسي بمبضعك، انظر إن كان بإمكانك أن تجد أي منطق فيه».
بالمناسبة، بيتي ديفيس أبدعت في الأداء عمومًا، وهي من قاتلت لإقناع المنتجين بقصة الفيلم في الأساس، في وقت كان رئيس استوديو Warner Brothers معارضًا لإنتاج العمل، بحجة أنّ لا أحد يرغب برؤية شخص يصاب بالعمى على الشاشة؛ في لمزٍ للتدهور الصحّي للبطلة نتيجة الورم، لكنّ الغرابة أنّ الفيلم أصبح أحد أنجح أفلام الاستوديو في ذلك العام.
حين أفكّر بهذا الفيلم من مقعد المشاهد أتساءل فعلًا حول دوافع الجمهور لمشاهدة هذا العمل أو ذاك، خاصة حينما يضم الفيلم عنصرًا غير مريح بالضرورة: المرض، فكيف حين يكون الفيلم قصة حقيقية.
«طالما هناك حياة، هناك أمل»
ستيفن هوكينغ
سيكون كلامي في هذه الفقرة مختلط المشاعر، خاصة أني سأستعرض فيلم «نظرية كل شيء The theory of everything» 2014، الذي يقدّم سيرة عالم الفيزياء ستيفن هوكينغ، أسطورة الفيزياء النظرية الذي عانى منذ شبابه من مرض التصلب الجانبي الضموري، وهو اضطراب عصبي نادر ودائم، يؤدي إلى الفقد التدريجي لكل من الخلايا العصبية الحركية العلوية والسفلية التي تتحكم في العضلات الإرادية، بما يشمل الفقدان التدريجي للقدرة على تناول الطعام، والكلام، والحركة، وأخيرًا، التنفس.
إنّ حديثي السابق عن اختلاط المشاعر يتعلق بأنّ الفيلم غير مفضّل بالنسبة لي، رغم جودة أداء البطل إيدي ريدماين، وتجربته المخلصة للتحضير للدور، والتي شملت زيارات عيادية التقى فيها أربعين مريضًا من مصابي أمراض الأعصاب الحركية، وبحث بشكل مكرّس حول المرض وأعراضه.
إنّ عدم إعجابي بالفيلم يتعلق صراحة بسياق القصة، وكيف اختيرت زوايا استعراضها، فبناء السيناريو على رواية زوجة هوكينغ جعل الفيلم أضعف في تعرية المشاعر، وفهم حدة المصاعب التي قاتلها ستيفن مع مرضه بشكل يومي، وصولًا إلى النهاية. مع ذلك أجد أنّ رضا ستيفن هوكينغ الأصلي عن أداء ريدماين لشخصيته يُحسب للفيلم دون شك، حيث علّق في رسالة إلى المخرج جيمس مارش: «أعتقد أن إيدي ريدماين صوّرني بشكل جيد للغاية، في بعض الأحيان اعتقدت أنه أنا!».
كما ذكر كاتب السيناريو أنتوني مكارتن، أنّ أعظم لحظة بالنسبة له تجاه الفيلم هي قيام ممرضة ستيفن هوكينج بمسح دمعة من على خده خلال العرض الخاص.
كما صرّحت الطبيبة كاتي سيدل، استشارية طب الأعصاب المتخصصة في مجال أمراض الأعصاب الحركية (MND)، في مقابلة مع المجلة الطبية البريطانية: «إنّ أداء إيدي في الفيلم كان رائعًا جدًا. لقد أحبّه المرضى ومقدمو الرعاية الصحية، واعتقدوا أن الفيلم عبّر عنهم».
بصراحة، مثل هذه الشهادات يجعلني أرغب بمشاهدة الفيلم بعين جديدة.
«الطبيب: اسمه مرض التصلب الجانبي الضموري. اضطراب عصبي تقدمي يدمر الخلايا الموجودة في الدماغ التي تتحكم في نشاط العضلات الأساسية، مثل الكلام والمشي والتنفس والبلع. يتم تعطيل الإشارات التي يجب أن تتلقاها العضلات من أجل التحرك. والنتيجة هي اضمحلال العضلات التدريجي. وفي نهاية المطاف، يتم فقدان القدرة على التحكم في الحركة الإرادية. تماما. وأخشى أن متوسط العمر المتوقع هو عامين. لا يوجد شيء يمكنني القيام به من أجلك.
ستيفن هوكينج: وماذا عن الدماغ؟
الطبيب: الدماغ لا يتأثر. أفكارك لن تتغير، إنها… مجرد… حسنًا، في النهاية، لن يعرف أحد ما هي».
عندما أُغلقت النافذة الكيميائية، حدثت صحوة أخرى؛ إنّ الروح الإنسانية أقوى من أي عقار.
د. ساير
إنّ أول أمانٍ يرجوه المريض بعد تشخيصٍ مفجع يكون في الطبيب: ما سيقوله، وكيف سيقوله تحديدًا سيُحدث فرقًا. لكني هنا سأتجه إلى ما يفعله. سأتناول فيلم «نوبات صحو Awakenings» 1990 للمخرج بيني مارشال، وكتابة أوليفر ساكس، وستيفن زيليان، وبطولة: روبرت دي نيرو، وروبن ويليامز. في قصة مبنية على أحداث حقيقية «للأسف» حدثت في نهاية الستينيات الميلادية.
تدور اﻷحداث حول الطبيب مالكولم ساير الذي يبدأ عمله في جناحٍ يضم العديد من مرضى التخشّب «متلازمة كاتاتونيك» نتيجة إصابتهم بالتهاب في الدماغ، حيث يكتشف الطبيب عقارًا تجريبيًا جديدًا يحمل بعض الأمل، ويستخدم مع ليونارد لوي مما ساعده على استعادة وعيه بعد سنوات من الجمود الكامل، ليجد نفسه متلهفًا للاستمتاع بحياته مجددًا، ولكن الأمور لا تسير كما كان يأمل الجميع. الفيلم أقل ما يقال عنه قاس، لكنه ليس بقسوة الحياة الأصلية!
أدّى روبن ويليامز شخصية د. ساير، طبيب هادئ عطوف وطموح، مستغرق في حياته المهنية، بطريقة طغت على حياته الشخصية، يجد نفسه منساقًا للصداقة مع مريضه دي نيرو تعاطفًا وإعجابا وعلاجا.
ليونارد لوي: لا تتخل عني.
دكتور ساير: لن أفعل.
وهذا كل ما يتمناه المريض، ألا يتخلى عنه طبيبه، أن يتبناه كما لو كان طبيبه وحده.
أنا حالمة، صح؟
من منظور عبارة: «أنت بجواري، لكنك لست أنا»، يعيش أهل المرضى وأحبّائهم رحلة المساندَة، والتي قد تدمّر علاقات محيطة، كأحد الأعراض الجانبية غير المحسوبة للمرض، سواء كانت انهيار زواج، قطيعة عائلية، تفكك صداقات، وغيرها، وذلك لا يعني سوء الأحباب، فقد يحدث الأمر دون أي سوء في النية أو الفعل، وقد تكون بعض المآسي، من جهة أخرى، سببًا للقرب والتعاضد.
«لا أمانع أن يقتلني مرضي. لكنه يقتل عائلتي أيضًا»
كيت فيتزجيرالد
فيلم «حارس أختي My Sister’s Keeper» إنتاج 2009، ومن إخراج نيك كاسافيتس، وبطولة كاميرون دياز وأبيجيل بريسلين. يستند إلى رواية جودي بيكولت التي تحمل نفس الاسم. وتدور القصة في لوس أنجلوس لعائلة «فيتزجيرالد» التي تتعامل مع تحديات مرتبطة بمرض ابنتهم «كيت» المشخصة بسرطان الدم النقوي الحاد، ونظرًا لعدم وجود تطابق جيني مع الوالدين أو الأخ الأكبر، فإن الزوجين ينجبان أختًا منقذة «آنّا» من خلال الإخصاب في المختبر. تتبرع الأخت منذ الولادة بالدم والخلايا الجذعية المتوافقة، وتعيش حياة مليئة بالدخول إلى المستشفى، وحقن هرمون النمو، ومسكنات الألم، والحبوب المنومة، والنزيف، والالتهابات. الأمر الذي يجعل الأخت المريضة تعاني من الشعور المتواصل بالذنب، وحين تُشخّص كيت بالفشل الكلوي يتعامل الوالدين مع الأمر تلقائيًا بأنّ «آنا» ستهبها إحدى كليتيها، لكن «آنا، 11 عامًا» كان لها رأي آخر يجر العائلة إلى القضاء.
إنّ معاناة الطفلة كيت مع المرض، وتطوراته، والإجهاد الجسدي والنفسي كانوا حاضرين بوضوح صادق ومؤلم خلال الفيلم، لكنه في مجمله كان من بطولة العائلة، الوالدين المنغمسين في سبيل إنقاذ طفلتهما، وديناميكية التعامل مع الابنة المنقذة، وإهمال الابن الأكبر. لقد كان فيلمًا منهكًا وصادق الأداءات والألم.
«آنا: هل تتألمين؟
كيت: ألم؟ حياتي كلها ألم»
أظن أنّ أكثرنا، إن لم يكن جميعنا، سمعنا عن مراحل الحزن الخمس: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول، والتي يغلب استخدامها في سياقات الفقد أو الخسارات العاطفية، اكتشفت أنّ أول من فصّل هذه المراحل هي الطبيبة النفسية السويسرية إليزابيث كوبلر روس، ونشرتها في كتابها الصادر عام 1969 تحت اسم «عن الموت والوفاة»، واستوحتها من عملها مع مرضى الأمراض العضال. حيث أوصت بأهمية التعامل بحساسية فائقة مع الأفراد المصابين.
يا صنّاع الأفلام ويا مشاهديها؛
تعاملوا بحساسية فائقة مع الأفراد المصابين.
اقرأ أيضا: «الغريب»… الوطن هو ألا يحدث ذلك كله