يتناول الناقد الفرنسي الشهير أندريه بازان في كتابه «بازان في عمله»، فكرة الاقتباس في السينما وقدرتها على التعبير بنفس العمق والتعقيد الذي تقدمه الرواية الأدبية. يوضح بازان أن السينما يمكنها تجاوز حدود العرض البصري المجرد، لتقدم فهمًا أعمق للأحداث.
عملية الاقتباس في حركتها تتضمن إعادة تفسير مستمرة للعمل الأدبي، متحدية المفاهيم التقليدية المتعلقة بالوفاء للنص الأصلي. فالاقتباسات الناجحة ليست بالضرورة تلك التي تظل وفية تمامًا للأصل، بل التي تعيد تقديم مادة المصدر بطريقة مبدعة ومختلفة. في بعض الأحيان، نجد أنفسنا أمام عملين مختلفين تمامًا رغم اشتراكهما في المفاصل الرئيسية، كما في فيلم «الكيت كات» المأخوذ عن رواية «مالك الحزين» للأديب الراحل إبراهيم أصلان.
قد يكون فيلم «الكيت كات» للمخرج داوود عبد السيد، هو المثال الأفضل لهذا الفصل بين النص الأصلي والفيلم. على الرغم من المفاصل المشتركة بين العملين الإبداعيين، تطلبت عملية الاقتباس حذف الكثير من الشخصيات والأحداث والأماكن، وإعطاء أهمية لشخصيات دون غيرها، بل وحتى تغيير طبيعة العلاقات بين الشخصيات بما يخدم رؤية الفيلم.
تشبه بنية الرواية المقطعة إلى 21 فصلًا بنية الفيلم المقسم إلى مشاهد، إضافة إلى غني الرواية بأدق التفاصيل المتعلقة بالمكان والشخصيات مما ساعد مهندس الديكور والمخرج في بناء الحكاية.
لا شك أن الاقتباس السينمائي أدى إلى تغييرات جذرية في العلاقات بين الشخصيات مقارنة بالرواية، إضافة إلى إعطاء مساحة أكبر لبعض الشخصيات على حساب شخصيات أخرى. على سبيل المثال، ركز عبد السيد على شخصيتي الشيخ حسني وابنه يوسف محورًا للأحداث في الفيلم، فيما تدور باقي الشخصيات في فلكهما. بينما لا يوجد رابط قوي بين الشخصيتين في الرواية؛ بل إن حجم شخصية يوسف في الرواية أكبر بكثير من الشيخ حسني. وبالمقابل؛ لا توجد شخصيات رئيسية أو أحداث محورية في الرواية، بل إن شخصيات الرواية أكثر تنوعًا؛ ففيها المهندس والدكتور والمحامي والمدرس مما يعطي الرواية طيفًا أوسع من الشخصيات بحيث يكون حي إمبابة تصويرًا للمدينة الأكبر.
المدينة هي الموضوع المركزي في كل من الفيلم والرواية، حيث تتناول الرواية التغييرات الجذرية التي طرأت على المدينة أثناء احتجاجات 17 و18 يناير، الشهيرة باسم «ثورة الخبز» في سبعينيات القرن الماضي بمصر. ونشرت الرواية بعد وفاة السادات، لتسلط الضوء على صعود طبقة ملاك جديدة من محدثي النعمة، تعيد ترتيب المدينة وفقًا لثقافتها، ممثلة في شخصية المعلم صبحي تاجر الطيور. الذي نستدل من خلاله في الرواية على تغير العلاقات في المدينة بقيامه هو دون غيره بشراء المقهى، الذي يمثل الفضاء الأكثر حضورًا في هذه الرواية. هدم المقهى يعني هدم العلاقات الاجتماعية السائدة وتبديل الهوية الثقافية للمجتمع. يقول «الأمير» وهو شخصية موجودة في الرواية فقط تعليقًا على هدم منطقة الكيت كات والمقهى: «كيف يمكنه وهو يجلس الآن في المقهى أن يرى ما سرقة الأيام والشهور والسنوات». أصلان يرصد تاريخ إمبابة وأهلها وبالتفصيل منذ أواخر القرن الثامن عشر ودخول بونابرت حتى تاريخ كتابة الرواية.
نرى المدينة في الفيلم من خلال وجهة نظر الشيخ حسني في المقام الأول، مما حتم الحفاظ على الشخصيات التي ترتبط به بشكل مباشر وتخدم هذه الرؤية. تلعب فاطمة دورًا رئيسيًا في توضيح شخصية يوسف وعجزه وأحلامه، بينما يلعب الهرم تاجر الحشيش، والشيخ عبيد الأعمى، والعم مجاهد صديق والد الشيخ حسني، أدوارًا في كشف أبعاد شخصية البطل فاقد البصر حاد البصيرة.
أخذ الاقتباس من الرواية الملامح العامة للشيخ حسني؛ علاقته مع العميان، سبب تسميته بالشيخ، خلفيته الموسيقية، تسلمه جائزة من عبد الناصر (في الرواية استلمها من الملك فاروق)، علاقته مع الحشيش. إلا أن ملامح الشيخ حسني مختلفة في الرواية عنها في الفيلم: «ورفع وجهه الكبير المائل بلحيته الطويلة التي بقعها البياض».
يبني المخرج فضاءات متنوعة من خلال حكايات شخصياته. هناك أولًا فضاء الواقع بكل أشكاله الضاغطة وأحيانًا الرومانسية، ويشمل البيوت التي تعيش فيها الشخصيات بحاضرها وماضيها. وهناك فضاء الحلم، الذي يتضمن السينما وأوروبا والنيل. بيت الشيخ حسني الذي يُباع لتأمين الحشيش اليومي، وقد طُرد منه في الماضي. بيت فاطمة خانق وصغير، حيث لا تستطيع أن تختلي لدقائق في الحمام بسبب ازدحام القاطنين. روايح تخون زوجها سليمان الجواهري في بيته. بيت الهرم تاجر الحشيش في الحارة. بيت الأسطى حسن تخونه زوجته مع الهرم وتطرده منه. وأخيرًا، البيت الذي يجتمع فيه يوسف مع فاطمة لممارسة الحب. هذه البيوت مجتمعةً ترسم صورة معقدة لحياة الشخصيات في الحارة، حيث تتشابك الضغوط الاقتصادية والاجتماعية مع انهيار عام للقيم، وتظهر الشخصيات في بحث دائم عن الهروب والتغيير وسط واقع قاس.
تعكس هذه البيوت كيف تؤثر الظروف الاقتصادية على العلاقات الإنسانية وتسبب في تفككها، مما يجعل الشخصيات في سعي دائم للهروب من الواقع المرهق إلى لحظات من الحلم الرومانسي أحيانًا. ففاطمة لا تريد أن تغادر الحي رغم كل حياة البؤس التي تعيشها، وتجد سلواها في السينما، تهرب من الواقع القاسي لواقع متخيل أكثر لطفًا. السينما كفضاء هو المكان الذي يهرب فيه الشيخ عبيد من عماه حين يأخذه صائد العميان الشيخ حسني إليها – كما تسميه الرواية-. وأوروبا هو المكان الحلم الذي يقود يوسف ويحركه خلال الفيلم، المكان الذي لن يصل إليه بعد أن يئد أباه حلمه ببيع البيت.
النيل له حضور واضح فهو المكان الذي يهرب إليه يوسف وهو يطارد حلمه بالمغادرة وهو المكان الأخير الذي يظهر في الفيلم في واحد من المشاهد الأيقونية في الرواية:
«واقترب يوسف من الماء. أراد أن يغسل جرحه. اغسل. لكم عببت من مياهه الفوارة، وطميه الثقيل. اغسل. لكم غرقت فيه عاريًا. ولكم أخذك التيار».
رثاء المدينة إذًا هو الرابط المشترك بين الفيلم والرواية. تختلف أدواتهما، البلاد تغلي في الرواية، الفصول الأخيرة هي فصول قيامية، عسكر وجنود وانفجارات. «الليلة تنقضي، والهدوء يتراجع، كما تتراجع الأحلام» والأعمى في الفيلم هو الوحيد الذي «بشوف أحسن منك في النور وفي الظلمة كمان».
اقرأ أيضا: «الفهد» من الرواية إلى السينما… كيف تغيّر كل شيء لكي تظلّ الأشياء على حالها؟