فاصلة

مراجعات

«أغنية الغراب»… محمد السلمان يحلِّق فوق سماء الرياض

Reading Time: 4 minutes

فانتازيا سينمائية، لغزٌ يضعنا – مجازيًا- في وضع غير مستقر. صراعات وهوية مجتمع مرتبك بين النظر إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، يتردد بين العالم القديم والجديد، التقاليد والحداثة، الإنسان والطيور، الرعب والجمال، الواقع والخيال. من كل هذا ينسج المخرج السعودي محمد السلمان أفكاره من خلال صور رمزية، ومواقف سوريالية، وصراعات واقعية، مستكشفًا هوية مجتمع وأشخاص على خطى التغيير. 

في باكورته السينمائية «أغنية الغراب»، الوقت مجزأ ومتحجّر، بينما تكشف صور الفيلم الثابتة -إلى حد ما- جدلية الجمود، وصعوبة التقدم، وتراكمات الزمن؛ فنجد في الفيلم تراكمًت لبقايا الماضي، يضاف إليه الحاضر المتقلب، وتُستخلص منه شهادات أولئك الذين يحاولون التغلب على من يريد إسكاتهم ونسيانهم.

تتساقط الأمخاخ من سماء الرياض، على الأقل من وجهة ناصر (عاصم العواد) المتذبذبة. طبيب ناصر مقتنع بأنّه مصاب بورم في الدماغ، وهو تفسيره وتشخيصه الطبي للهلوسة التي يعانيها ناصر، هلوسة يريد الطبيب استئصالها. ناصر ليس متأكدًا من ذلك، فأحلامه وأوهامه وهلوساته ممتعة أكثر من بقية حياته التي يسيطر عليها والده المتعصّب، ورئيس الفندق الذي يعمل فيه، وقصيدة الحب التي لا يستطيع إنهاءها، ومشاكل والأفكار الشعرية الغنائية لصديقه أبو صقر (إبراهيم الخير الله)، الذي يضعه في القلب منها. فلماذا التخلّص من هذه الأشياء؟ خصوصًا عندما تبدأ هذه الرؤى بتضمين امرأة شابة جميلة تدعى هديل (كاترينا تكاشنكو)، تصل إلى الفندق لتطلب مفتاح غرفة رقم 227.

أغنية الغراب

يرحّب بنا «أغنية الغراب» ويصطحبنا للتجوال في قاعات عقل ناصر في أي وقت، في دماغ رجل بسيط، يحاول التخلص من ضغوط اجتماعية، في وقت زمني يتسم بصراعات وتوجهات ونقاشات ونقد لكل شيء يحدث في السعودية.

يبدأ «أغنية الغراب» مثل ناصر، مرتبكًا ومخيفًا، وكذلك نحن. ثم يتكشف ببطء أمام أعيننا، مظهرًا كل تعقيداته. قصة الفيلم آسرة، حنونة ورومانسية في مكان، ومرعبة ومحيرة مثل الارتباك الجسدي والعاطفي الذي يحيط ببطلها في أوان أخرى. وطوال الفيلم، نرى ناصر مشرّعًا على مشاعر تغلب عقله، تمزّقه مخاوف أقرب إلى التهيؤات، وتعصف به أمزجة متقبلة ومتناقضة.

«أغنية الغراب» فيلم لا يهدأ، يبني خريطة لنفسه وللمجتمع الذي يحاول فهمه أو رفضه أو نقده أو حتى احتواءه. ومع تقدم الفيلم، يتبنى نغمته أكثر فأكثر، ويغمرنا في وجودية قصته.

اقتباسات فوق اقتباسات، فكاهة وحنين إلى الماضي، وتطلعات إلى المستقبل، وطبعًا؛ الشعور بأنك لن تصل أبدًا إلى قلب القصة أو جوهرها، ولكنك تكتشف أنك عشتها كلها في النهاية. تظهر العناصر المرئية لمحمد السلمان، وتهيمن بطريقة مغرية ورؤيوية بقدر ما هي مقلقة إلى درجة الإزعاج. يقف الفيلم كما المجتمع، على حافة تشويه منمق، كل شيء فيه أصبح متطرفًا. بغرور وفكاهة أبو صقر، وانعدام أمان ناصر، يصنع المخرج نسيجًا مغايرًا للعلاقات البشرية (وغير البشرية) في مدينته الرياض وكواليسها. يلعب المخرج بصريًا وسمعيًا بموضوع الهوية والشخصيات الوجودية، ويستفيد من الحيل التي تتيحها له الكاميرا خلال التصوير السريع والمكثف، وينجح في إضفاء الغموض الضروري في بعض الأمكنة، من دون أن يترك الكثير من المفاجآت.

أغنية الغراب

يناقش «أغنية الغراب» عديد من القضايا الاجتماعية الحسّاسة في السعودية، ومحمد السلمان هو من بين المخرجين الشباب الذين يطرحون أسئلة مختلفة حول هذه الفترة الحاسمة من التغييرات في المملكة، التي تزامنت ايضًا مع تطور وعيهم وأدواتهم كفنانين ومخرجين سينمائيين. الحركة عنصر مركزي في الفيلم، على الرغم من جمود الصورة في بعض الأوقات. أبطاله متحركون ومتجولون، وفي عملية تغير جسدية وعاطفية، بينما لم يتخل السلمان عن طرح هواجسه التي تسكن حالته وحياته وتخيلاته وتمرده في بعض الأوقات. يمشي الفيلم بسرد مثقل وفوضوي، موقفًا بعد موقف، وتطورًا تلو الآخر، في تشابك مفرط من المؤامرات وعناصر سرد مختلفة. 

إنها الفوضى، في الجانب الجيد منها. تدور دراما السلمان حول ثمن الحرية والهوية، بعناية شديدة على مدى ساعتين تقريبًا من أجل الكشف عن التفاصيل شيئًا فشيئًا. بترك الفيلم عقدة متشابكة حول العديد من القضايا المجتمعية، ويفتح نافذة أو الغرفة 227، التي يسكنها شخص غامض، للنقاش. يضيء فيها على ما يحصل في المجتمع، ويترك أيضًا للمشاهد ما يكفي ليفكّر به. الفيلم تذكير بأن الحياة في المجتمع تنبثق من الصدام المذهل بين رغبات الأفراد وهواجسهم.

«أغنية الغراب» فيلم طموح، يحتوي على ومضات تجعلنا مهتمين جدًا بما يحدث، لمخرج يعرف ما يريد، على الرغم من وجود بعض الفواصل السردية الضائعة بين أبيات وصدر وشطر وعجز الفيلم، وغالبًا ما تكون مسطحة بالمقارنة مع باقي الشريط، ومكررة في بعض الأحيان.

أغنية الغراب

يستند «أغنية الغراب» إلى الواقع السعودي، ففي مطلع هذا القرن، تقاتل الشعراء والنقاد في أعمدة صحف الرياض حول النهج الصحيح للوزن والقافية، مما أدى إلى تأليب المحافظين الكلاسيكيين على الشعراء الجدد. فالفيلم ينطلق من هناك، بطريقة غير مباشرة في البداية، ثم يأتي المشهد الذي يثبت ذلك، عندما يجد ناصر نفسه جالسًا في مقصورة بلا نوافذ، معدة كغرفة اجتماع لمجموعة من عشاق الشعر، حيث يُطلب منهم اختيار جانب في مناظرة بين الحداثيين والتقليديين. هذا المشهد، ومشهد ناصر الذي يحاول الوصول إلى هديل في لباسها الأبيض، على أنغام أغنية «تعالي دقائق نحلم فيها» لمطلق الذيابي، أعطى الفيلم بعده المباشر، بينما كان المخرج يلعب على أحبال الرمزية والاستعارة والفانتازيا.

اقرأ أيضا: السينما.. مؤرخ المدن الخفي

شارك هذا المنشور