إذا كان التمثيل يعني حضوراً، فإن دونالد ساثر لاند الذي رحل قبل أيام عن 88 عاماً، أحد أسياده. وإذا كان القدرة على الانتقال من الأقصى إلى الأقصى، فهذه أيضاً من الأشياء التي أبدع فيها. أما إذا كان يعني تحولاً، فمسيرة الراحل حافلة بتقنيات وأساليب وأنماط تؤكد عظمته.
خلافاً لمعايير الجمال الكلاسيكي الذي دفع بالكثيرين إلى النجومية، كان لساثرلاند شكلًا خاصًا ومختلفًا لا يمكن فصله عن طاقته الإبداعية وله فضل كبير في أن يُسنَد إليه العديد من الأدوار التي صمدت في الذاكرة. اعتاد الواحد منا ربط التمثيل بالموهبة، لكن أمثال ساثر لاند هنا لتذكيرنا بأن للوجه دوراً في صعود الممثل متى أُعطي الشخصيات التي تليق به.
حكاية ساثر لاندر مع التمثيل ليست تقليدية. روى أن التمثيل خَطَرَ له وهو طريح الفراش لدى إصابته بالبوليو (فيروس معوي معدي) عندما كان طفلاً. لحسن الحظ تلقى علاجاً أعاده إلى حالته الطبيعية.
هذا الذي في سجله أكثر من 150 دوراً سينمائياً، ولد في مدينة كندية صغيرة اسمها اسكتلندا الجديدة، ولا يتجاوز عدد سكانها 5000 شخص. اعتاد دونالد الصغير مرافقة والده إلى السينما كلّ يوم سبت.
في لقاء مفتوح مع الجمهور خلال مهرجان لوميير السينمائي في ليون عام 2019، روى أنه عندما كان مراهقاً، ذهب مع والده في رحلة، ولمّا سأله الأخير ما المهنة التي يريد أن يمارسها، كشف له أنه يود دخول عالم التمثيل، رغم اعترافه بأنه لم يكن لديه أدنى فكرة ماذا يعني التمثيل.
تذكر ساثر لاند يومها: «لا أنا ولا هو كنّا قد دخلنا إلى قاعة مسرح في حياتنا. أبي كان بالكاد دخل صالة سينما. لم تكن في تورونتو معاهد للتمثيل. لذلك، درستُ الهندسة لثلاث سنوات، وكنت في موازاة ذلك أحاول دخول مجال التمثيل. مرةً، راهنتُ مع أحدهم على دولار واحد بأنه لن يُسنَد إليّ دور من الأدوار، وهو راهن بالعكس. خسرتُ!».
انطلقت مسيرة ساثرلاند السينمائية في منتصف الستينات، بعدما حصل على أدوار صغيرة في بعض الأفلام السينمائية والتلفزيونية التي سقط عدد منها في النسيان وبقى بعضها الآخر في الذاكرة. بيد أن أول دور رئيسي له كان في «الدزينة القذرة»(1967) لروبرت ألدريتش، حيث لعب دور فيرنون بينكلي، أحد الجنود المدانين الذين تم تجنيدهم في مهمة انتحارية خلف خطوط العدو خلال الحرب العالمية الثانية.
الدور ساهم في بناء سمعة جيدة له وقد أظهر ما هو قادر عليه، أما العمل نفسه فأصبح من الكلاسيكيات مع الزمن. كان الفيلم نقطة تحول في مسيرته وجعله محط أنظار المخرجين والمنتجين في هوليوود، فبدأت رحلة النجاح المتصاعد بدءاً من العقد التالي.
بعدها بثلاث سنوات، جسّد دوراً لافتاً في «ماش» لروبرت أولتمان، فيلم ساخر يحمل نقداً لاذعاً تدور أحداثه في مستشفى وهو عن وحدة جراحية متنقلة خلال الحرب الكورية. شارك فيه بدور الكابتن الجراح الذي لا يبالي بالأوامر العسكرية بل يتحداها، وسيتبين نزقه مع تطور الأحداث.
تلت ذلك مشاركته في أفلام مهمة مثل «كلوت» لألان باكولا (1971) و«لا تنظر الآن» لنيكولاس روغ (1973)، وفي الاثنين أكد تنوعه، وعدم تقيده بنمط واحد من الشخصيات، لا بل قدرة عالية على التكيف.
السبعينات هي الفترة الذهبية التي لمع فيها نجمه، من خلال حفنة من الأفلام التي يمكن اختصارها بثلاثة. «القرن العشرون» لبرناردو برتولوتشي و«كازانوفا» لفيديريكو فيلليني و«أناس عاديون» لروبرت ردفورد. ويمكن أن نضيف إليها «غزو خاطفي الجثث» لفيليب كوفمان حيث يجسّد دور مفتش صحي يجد نفسه وسط أحداث غريبة تتعلّق بسلوك الناس.
في «القرن العشرين» الذي يتناول التاريخ السياسي والاجتماعي لإيطاليا في بداية القرن العشرين، مع صعود الفاشية، اضطلع ساثرلاند بدور الفاشي أتيلا الذي يتسم بالشر والقسوة، رامزاً إلى مدى وحشية الفاشية.
ظهر في هذا الفيلم بملامح صارمة ونظرة جليدية، ممّا عزز قوة حضوره الشرير. تمكن من نقل الشعور بالخوف والرعب من خلال أدائه الذي جمع بين الهدوء الظاهري والعنف الداخلي.
في «كازانوفا بحسب فيلليني» الذي يستند إلى مذكرات المغامر الشهير جاكومو كازانوفا الذي عاش في البندقية خلال القرن الثامن عشر، يجسّد ساثرلاند دور البطولة، أنه المغامر والكاتب والـ«داندي» المعروف بنمط حياته الحافل بالمغامرات الرومنطيقية. هو شخص كله تناقضات، متعدد الوجه: العاشق الشغوف، المثقف المتنور، وفي الوقت نفسه، الرجل الذي يعاني من الوحدة والاغتراب.
تمكن ساثرلاند من نقل هذه التناقضات بواقعية، ممّا جعل الشخصية تظهر بمزيد من العمق والإنسانية. في بعض المشاهد، يمكن الشعور بالحزن العميق والوحدة التي تكتنفه، وهذا ما يمدّه ببُعد إنساني.
أما في «أناس عاديون»، فيجسّد دور كالفين غاريت. الفيلم مبني على رواية بالعنوان نفسه للكاتبة جوديث غيست. كالفين محامٍ ناجح ويحضر كشخصية لطيفة وودودة تتسم بالتعاطف والحنان، ويحاول جاهداً فهم مشاعر ابنه كونراد ودعمه بعد محاولة الأخير الانتحار ومعاناته من اضطرابات نفسية جراء وفاة شقيقه الأكبر. رغم ضغوط الحياة والصراعات العائلية، يظهر كالفين اهتماماً حقيقياً بسلامة أسرته النفسية محاولاً معالجة التوترات المتزايدة بين أفرادها.
يتناول الفيلم، وهو أول تجربة إخراجية لردفورد، تيمات مثل الحزن والشعور بالذنب والقصور العاطفي، وكيف يمكن لهذه الأمور أن تؤثّر على العلاقات الأسرية.
لا يتوانى ساثرلاند عن دعم الشخصية بالتعقيد العاطفي المطلوب. يمكن للمشاهدين أن يشعروا بصراعه الداخلي بين رغبته في الحفاظ على تماسك الأسرة والحاجة لمواجهة الحقائق المؤلمة.
رغم موهبته وشهرته الواسعة، لم ينل ساثرلاند أي ترشيح لجائزة الـ«أوسكار»، فارتأت الأكاديمية المانحة إسناد «أوسكار» فخرية إليه عن مجمل أعماله في العام 2017، وذلك بعد ست سنوات من فوزه بنجمة خاصة به على جادة المشاهير في هوليوود.
في العقود الأخيرة، أطل من خلال العديد من الأدوار الثانوية، وذاع صيته عند الأجيال الجديدة مع دور الطاغية في سلسلة أفلام «ألعاب الجوع» الذي خرج للمرة الأولى في عام 2012.
كانت حياة ساثرلاند الشخصية متداخلة مع حياته المهنية، وهذا واضح من خلال علاقتة بأولاده الأربعة الذين أطلق عليهم أسماء بعض السينمائيين الذين عمل وأياهم.
في ليون، كشف هذا الجانب من حياته: «أحبهم كثيراً. هؤلاء حياتي كلها. نيكولاس روغ مثلاً الذي أنجزتُ في إدارته «لا تنظر الآن»، كان عظيماً، سمّيتُ أحد أبنائي روغ تيمناً به. كما سميتُ ابني كيفر بعد عملي مع وارن كيفر في «قصر الأموات الأحياء». والثالث سميته على اسم صديق يُدعى فريدريك روسيف. عندما رزقتُ بابني الرابع، وددتُ تسميته ردفورد على غرار روبرت ردفورد، إلا أن سيدة في المستشفى اعترضت، فسمّيته أنغوس».
ما هي أفلامه الخمسة المفضّلة التي ظلت ماثلة في وجدانه؟ كان ساثرلاند يرفض الرد على هذا السؤال قائلاً بأن أفلامه كأطفاله لا يمكن التمييز بينها. حكاية طريفة رواها على سبيل العبرة عند الحديث عن علاقته بأفلامه. «عندما نشرت جانّ مورو مذكّراتها، كتبتْ فيها أنها لم تحب أحداً في حياتها. فسألها بعضهم: ولكن ألم تقولي لي إنك أحببتني؟ فقررت أنها، في المرة المقبلة، ستقول إنها أحبّت شخصاً واحداً فقط من دون أن تسمّيه ليعتقد الجميع أنه المقصود».
اقرأ أيضا: «سيناريو حلم»: هل تخترق التكنولوجيا أحلامنا يوماً؟