على مدار تاريخها الطويل، عانت السينما المصرية من إشكالية الشكل والمضمون، لا سيما في الستينيات والسبعينيات حين انقسمت الغالبية العظمي من الإنتاجات المصرية بين أفلام تهتم بالشكل، جيدة الصنع وجذّابة للجمهور، لكنها تروي حكايات مكررة تفتقر للعمق الإنساني، وأفلام ملتزمة تحاول طرح المشكلات المجتمعية والسياسية بلغة سينمائية بدائية، كثيرًا ما غضّ النقاد الطرف عن عيوبها انتصارًا لقيمة الموضوع. إلا أن أفلامًا نادرة تمكنت من جمع الحسنيين اللذين ما إن اجتمعا إلا وصارا واحدًا، ففي الأعمال العظيمة الشكل هو المضمون، كلاهما قرينان لا وجود لأحدهما بمعزل عن الآخر. من بين الأفلام التي تقف على قمة هذا النجاح يأتي “البوسطجي”، ثاني أعمال المخرج حسين كمال، والذي قدمه عام 1968 ليظل حتى يومنا هذا من أيقونات السينما المصرية.
“نوفيلا” أو رواية قصيرة تناهز الستين صفحة كتبها يحيى حقي، وحوّلها صبري موسى ودنيا البابا نصًا سينمائيًا كلمة السر فيه هي تلك القدرة السحرية على رسم الجو العام الكابوسي، القوطي gothic إن جاز التعبير، لعالم مقفر وصفه حقي عندما كتب بلغته الجزلة إن بطله “أطل من الشباك على بيوت واطئة متراصة، الفقير منها بالجالوص والغني مبرقش بفتات التبن في طوبه النيّ. كأنها أقزام متزاحمة متلاصقة. كأنها قبيلة متوحشة، على رؤوسها شعر الهمج في تلول هشة من حطب القطن وبوص الذرة. ووصلت إلى أذنه صرخات متعالية، بعضها للإنسان وبعضها للحيوان، لا فرق بينهما.. حدة الصارخ فيها واحدة، وعناد المنتهر سواء”.
عالم كابوسي
هذا الطابع المقفر لعالم الرواية يؤسسه حسين كمال سينمائيًا من الثواني الأولى للفيلم، والتي يصل فيها ناظر البريد الجديد عباس، الشاب القاهري الذي لم يعش أبدًا خارج العاصمة، إلى كوم النحل، القرية النائية في أعماق الصعيد، والتي تؤسس كاميرا أحمد خورشيد لها ببراعة كمكان مُقفر، ثقيل الظل، دخوله أشبه بالرجوع قرونًا للوراء. مكان يهبّ عباس فيه مذعورًا خلال ليلته الأولى عندما يسمع صراخًا ونحيبًا، ليكتشف أن الضحية جاموس مات قبل ذبحه.
لا ضير في بكاء الفلاح على حيوانه؛ فهو أكثر قيمة لحياته من الأبناء، لكن الأمر الكاشف للقرية هو تأكيد أحد الأهالي أن نفس الجاموس الذي رآه الكوم كله جيفة فطساء ـ سيكون معلقًا في الصباح يقطع الناس ويأكلون من لحمه. بلد يأكل سكانه لحم الميتة، لا فرق بين بشر وحيوان، والميتة كما نعلم نظير لغوي ربطه القرآن منذ الأزل بالغيبة، بالمعيشة على مراقبة الآخرين ولوك أسرارهم وأدق تفاصيل حياتهم.
قد تبدو هذه القراءة تأويلًا مفرطًا للنص السوداوي الذي وضعه يحيى حقي والذي تعامل معه حسين كمال بقدر مماثل من القسوة. صحيح أنها قسوة تعرض الأسباب، ففي عالم بهذا القدر من التخلف والحرمان من أبسط أبجديات الحضارة والتمدن لا بد وأن يصير البشر ضباعًا. لكن المسببات لا تبرر الأفعال، وفهم السياق لا ينفي كون كوم النحل أحد أكثر أماكن السينما المصرية وحشةً وثقلًا على القلب والروح.
تتبارى الأفلام في وصف نفسها بأول فيلم رعب مصري، بينما “البوسطجي” يستحق هذا اللقب بجدارة. ليس رعب مصاصي الدماء والموتى الأحياء على الشاكلة الغربية، وإنما رعب القرية المصرية: الجدران التي لا تخفي سرًا، الابتسامات الخبيثة على أفواه، سلواها خوض الأعراض، وعباءة الشرف التي توضع فقط عندما يقتل رجل فتاةً أحبت، وتُخلع بسهولة عندما تُغتصب أخرى وتترك لموت لم تطلبه ولا تملك دفعه.
جرأة سابقة للزمن
كل شيء مرسوم بعناية فائقة، من موسيقى إبراهيم حجاج الجنائزية التي ترثي انحدار عباس، من كونه المفعم اعتدادًا بنفسه والرافض أن يلبس أو يتصرف كالفلاحين، نحو صورته الأخيرة الأقرب لمجذوب يضع سترة البريد فوق جلبابٍ بالٍ (لاحظ الحكي باستخدام الملابس)، إلى الشوارع الترابية والبيوت الأشبه بالجبّانات. إلا أن سكان القبور يرقدون في سلام وقد انقطع شرهم، أما سكان “كوم النحس” كما يسميها الوافدون؛ فلم ولن ينقطع أذاهم. ورغم أن المنطقة برمتها تقوم على أطلال حضارة عريقة، مملكة متمدنة يحلم الشباب والصبية المتعلمون بإعادة تأسيسها، إلا حبل الاتصال قد انقطع بين الأجداد والأحفاد منذ قرون.
هنا تكمن قيمة خطاب “البوسطجي” السابق لزمنه، بل ولزماننا. سابق لزمنه لأنه لم ينح ولو لحظة إلى التنظير أو الوعظ أو التطهُّر الساذج والبطولات الزائفة على شاكلة أفلام المرحلة. يعرض مخرجه الحكاية فحسب واضعًا كل شيء أمامنا لنتأمله ونفهم منه ما نريد، كل على حسب قدرته على فك شفرة الفيلم وتأويله، تمامًا كما يفك عباس الخطابات المغلقة كي يسلي نفسه بمعرفة أسرار الناس.
“البوسطجي” أيضًا سابق لزماننا لأنه عمل لا يخشى إصدار أحكام بالغة القسوة على أوساط اجتماعية كاملة، كثير منّا خبرها ويعرف مدى صدق الفيلم في تقديمها، وكلنا يعلم كم من الممكن لمجتمع مغلق أن يصدر بسهولة حكمًا بالتعاسة الأبدية أو حتى بالموت لأتفه الأسباب. أوساط لو حاول صانع أفلام أن يقدمها بهذه الصورة في زمننا الحالي لنالته اتهامات الطبقية وازدراء البسطاء وعدم تفهم ظروفهم العسيرة. إلا أنا عسر الظروف لا يُبرر الجرائم، حقيقة توصّل إليها يحيى حقي وحسين كمال قبل أكثر من نصف قرن بينما ينكرها البعض ليومنا هذا.
وبالرغم من سوداوية المسار الذي تأخذه أحداث الفيلم فيما يتعلق بكل الشخصيات تقريبًا، إلا أننا لا نبالغ إن وصفناه بأنه عمل ثوري في جوهره. ليس فقط لاختلافه عن القطاع الأعرض من الأفلام في زمنه، ولكن لأنه بالأساس يبشر باستحالة استمرار الوضع الراهن، أي وضع راهن. فإذا كان من الممكن لمجتمع تقليدي مغلق أن يواصل فرض شرائع العصور الوسطى على سكانه بحجم الانعزال، فإن استمرار وضع كهذا هو من الاستحالة بمكان.
“البوسطجي” عمل أيقوني في صِدقِه وجرأته، وفي تخلصه من ميراث عَطَّل ولا يزال السينما المصرية طويلًا. فيلم يصعب نسيانه، بما فيه من نقد عميق للمجتمعات البدائية التي لا تزال أفكارها حاكمة حتى يومنا هذا، وما يتمتع به من صنعة سينمائية راقية في كافة عناصره. فيلم يتكامل فيه الشكل والمضمون ليصيرا واحدًا هو ذاك العمل الممتع.
اقرأ أيضا: «ولاد رزق 3: القاضية»… اخدعني ثلاث مرات وأنا راضٍ