ذات صباح، يكتشف بول ماتيوز (نيكولاس كايج) أن ملايين الناس يحلمون به، من الذين لا يعرفهم ويجهلونه تمامًا. يخترق لا وعيهم كشاهد على ما يحدث لهم، من دون أن يحرك ساكناً. هذا البروفسور في علم الأحياء يتحوّل على إثره من إنسان عادي إلى شخصية عامة يتمنّى كُثُر التقاط صورة معها. يُصبح مصدر اهتمام لكلّ الذين في محيطه، تنهال عليه العروض من كلّ صوب، وتحاول العلامات التجارية الاستفادة منه لإقناع المستهلكين بمنتجاتها. أما الإعلام فيصنع منه ظاهرة جديدة. النظام الرأسمالي القائم على الاستهلاك، يوظّف كلّ شيء لمصلحته ليوهم الضعفاء، ولو للحظة، بالقوة والسيطرة والأهمية، لكن هناك ضريبة ينبغي تسديدها، وهذه الضريبة ستقلب حياة ماتيوز رأسًا على عقب. هل سيستفيد على الأقل من شهرته اللحظية لنشر كتاب بحثي يطمح إلى تأليفه منذ سنوات؟
هذا هو باختصار، ما يتناوله «سيناريو حلم»؛ فيلم أميركي (انطلق من مهرجان تورونتو العام الماضي)، إخراج النرويجي كريستوفر بورغلي الذي أعطى نيكولاس كيج واحداً من أجمل أدواره، في ما يمكن اعتباره قطيعة مع الأدوار النمطية التي كان غرق فيها في السنوات الأخيرة. إنها الولادة الجديدة التي كان يحتاج إليها. بصلعته ونظاراته والكبت الذي يجرجره خلفه جراء شعوره بعدم التحقق، وبتلك الطيبة الفطرية التي تجعلنا نتعاطف معه، يجسّد كايج المواطن العادي الذي يتصدّر المشهد فجأةً، ليسد هذا الاهتمام المفاجئ به الفراغ النفسي الذي يعاني منه، وصولاً إلى تحويله شيئاً أشبه بفزاعة!
هذه تيمة لطالما تطرقت اليها السينما الأميركية. حتى «كايج» نفسه سبق أن مثّل بطولة فيلم مماثل في عنوان «كان يُمكن أن يحدث لك» (1994)، حيث شرطي يجد نفسه وسط قضية رأي عام بعد أن يربح ورقة يانصيب. السينما الأميركية بنت جزءاً من مجدها على كتفي المواطن العادي الذي يصبح بطلاً رغماً عنه، أو ما يُعرف بـ«الشخصية العادية التي يُزَّج بها في مواقف غير عادية»، خلافاً للسينما الأوروبية حيث شخصيات معقّدة تواجه مواقف عادية.
لكن هذا الهوس الأميركي بالشهرة (تناوله المخرج في فيلمه السابق «مريض بنفسي»، من خلال شخصية تبحث عن لفت الانتباه)، ليس سوى نقطة انطلاق، وهو يأخذ شكلاً آخر لسبب بسيط هو أنه يحدث في زمن وسائط التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي الذي يربط الناس بعضهم ببعض ويتيح المجال للتحكّم بعقل الإنسان لا بل للتلاعب به، وصولاً إلى التسلل داخل لا وعيه. فالفيلم إذ يبدأ بفكرة جديدة ومستغربة (أن تحلم مجموعة من الناس بشخص واحد لا تربطهم به علاقة)، ينتهي مع تحوّل هذه الفكرة السوريالية إلى شيء «طبيعي»، بعد أن تسلّعها شركات التكنولوجيا الحديثة التي ستخرج من هذه التجربة بفكرة اختراق أحلام المستهلكين لأهداف تسويقية.
بين هاتين اللحظتين (لحظة الانبهار بالفكرة ولحظة تكريسها والمتاجرة بها)، يحرص الفيلم على ان نشهد التحولات كافة التي سيعيشها ماتيوز، صعوداً وهبوطاً، ومن خلال قصّة مبتكرة، سيتحدّث عن أمراض العصر وهواجسه، خصوصاً في ضوء الثقافة الأميركية الشعبية المهيمنة، واصرار مَن يحرّك خيوطها على إقناع مواطن عادي بأنه «إنسان يمتلك قدرات خارقة»، رغم أن ما من شيء يميزه، بل هو مدفوع فقط بالرغبة في أن يحصل على الاعتراف والحبّ والإعجاب، لكنه يبحث عن هذا كله في المكان الخطأ.
لا يوفّر المخرج الذي كتب أيضاً السيناريو، شيئاً، ولا يرحم أحداً، لكن بلا تنظير و«ديداكتية»، بل من خلال الرهان على قصّة وتسلسل بصري مشوّق. كلّ شيء يحظى بتنسيق، على نحو يفعل فعله في المُشاهد، حتى لو خرجنا من الفيلم بإحساس مربك بعض الشيء. العمل يحمل بصمات المخرج السويدي آري أستر كمنتج مشارك، وهو صاحب العالم الغرائبي. أما أسلوبياً فأراه على درجة جرأة الأعمال نفسها التي أنجزها سينمائيون مثل سبايك جونز أو ميشال غوندري.
إذا صرفنا النظر عمّا يقوله الفيلم في مستواه الأول عن قوة الأحلام ومكان اللاوعي في حياة البشر، فإن الحاجة إلى نيل الاعتراف هي من المواضيع التي في صميم هذا العمل، وتتيح المجال للمواضيع الأخرى إلى الدخول عبرها. هذا الاعتراف الذي يصل في حال ماتيوز إلى عتبة بيته قبل أن يُسحَب منه مجدداً بعد تحوّل انبهار الناس به إلى نفور وخوف وتقزز، هو متن النص حيث يجب البحث والتنقيب. وفي كلتا الحالتين، الانبهار والنفور، لا حول لماتيوز ولا قوة في ما يحدث له، وهذا يحملنا إلى تيمة أخرى ذات أهمية وهي مسألة فقدان السيطرة على الحياة عندما تكون صورتنا في قبضة الآخرين.
من خلال التسلل إلى لاوعي الآخرين، يكوّن هؤلاء فكرة عنك تتكرّس لتصبح الحقيقة المطلقة، ولا يهم اذا كانت كذبة أو وهماً، وستحاسب بناءً عليها. ومثلما يساهم هؤلاء في صعودنا، يملكون القدرة أيضاً على حفر قبورنا. وهنا، يتأخّر الفيلم عند مسألة حديثة نسبياً، لم يسبق للسينما أن تطرقت إليها بهذه المباشرة: ثقافة الإلغاء التي سادت بعد اتهامات أخلاقية وُجِّهت إلى شخصيات عامة. لا يفتح الفيلم نقاشاً كبيراً في شأن هذه الظاهرة، لكن يوظّفها ويسائلها في إطار الموضوع الأشمل: الكيفية التي يراك فيها الآخرون ليست سوى انعكاس لعقلهم الباطني ولا تمت إلى الواقع بصلة. أما الأسلحة المستخدمة في هذا الصراع، فهي مزيح من كلّ ما نراه على الإنترنت في أيامنا هذه، من أخبار مفبركة وتنمّر يتطوران إلى شعوبية وجهل… فأذى.
أي وسيط أفضل من السينما لرواية الأحلام؟ بهذه الخلاصة نخرج من الفيلم الذي يرد الاعتبار إلى الأحلام في حياتنا، لا تلك التي نراها خلال النوم فحسب بل تلك التي نعيها جيداً. تلك الأحلام التي هي مساحة حرية، سواء على الشاشة أو في الواقع. من خلال الحديث عن الشرخ بين ما نعيشه وما نحلم به، نجدنا داخل توترات رجل واضطرابات زمن، بحيث لن نعرف أين تنتهي الأولى لتبدأ الثانية. هل يمكن للرأسمالية أن تخترق أحلامنا؟ هذا واحد من الأشياء التي يطرحها الفيلم كفانتازيا، لكن قد لا تكون المسألة أكثر من مسألة وقت، قبل أن يتحول إلى واقع، يستغلّه من يسعون إلى المزيد من التحكّم بحياة البشر.
اقرأ ايضا: كومبارس اللحظة بطل الحياة.. النظر إلى مفهوم البطولة من زاويةٍ حادة