فاصلة

مراجعات

«ڤوي! ڤوي! ڤوي!»… كوميديا سوداء بلا تفاهة

Reading Time: 5 minutes

هذا فيلم يتحرك من نُقطة زمانية فوضويّة، من مرحلة اللا بطل حيث كُل شيء ضبابي وملتبس، ويدع لزمن الفيلم مهمة الكشف المتمهل للحبكة والأبطال وما يحركهم من دوافع ومبررات.

إنه فيلم “ڤوي! ڤوي! ڤوي!”، الذي يتصدر قائمة الأعلى مشاهدة على منصة شاهد بعد 10 أشهر من عرضه الأول في سبتمبر 2023.

ينطلق الفيلم من تيمة تهتم بها السينما العالمية اهتمامًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، وهي تيمة الهجرة غير المنظمة من دول الجنوب، لا سيما دول العالم العربي، إلى أوروبا. لكننا نراها هذه المرة من وجهة نظر العائشين في دول الجنوب وتتناول أبعادًا تختلف عن الأبعاد المعتادة التي تنتجها الدول المستقبلة للمهاجرين واللاجئين.

 إذن يطرح الفيلم من مدخله إشكالية لا يختص بها أبطال العمل، وهي مشكلة الظروف التي تدفع كل هؤلاء البشر للمخاطرة أملًا في حياة أفضل، هذه المعاناة التي تطول الكُل، وتلك المشقة الجماعية، والتجرُبة الحسيّة والنفسيّة التي تكاد تكون مشاعًا لا تتميز بالخصوصيّة الفرديّة.

 لذلك فالفردانيّة هُنا ليست خاصيّة تُثقل شخصيات العمل السينمائي أو تمنحها امتيازات دراميّة. ورُبما لذلك يُمكن للجميع التوحد مع شخصيّة حسن التي يلعبها محمد فرّاج، فالتلقائيّة والديناميكية التي تتسم بها الشخصيّة مألوفة داخل الحارات الشعبيّة والمناطق الفقيرة في مصر، وتمتد لكُل أفراد الطبقة العاملة والأدنى منها، فهُم لا يملكون رفاهيّة السكون والتمهُّل، إذا توقفوا عن الحركة يموتون، تدهسهم عجلة الحياة.

تدور أحداث الفيلم حول مجموعة من الشباب المهمشين في مصر الذين يدعون كونهم من فاقدي البصر مشكلين فريقًا رياضيًا يستهدف السفر المأمون خارج مصر ومن ثم الهروب والبقاء بعيدًا عن بلادهم التي لا يجدون فيها فرصة أو إنصافًا.

من هنا؛ نجد أن شخصيات العمل وإن كانت تمثل العادي والمألوف والشائع بين الشباب المصريين، فإن ما يميزها هو التجربة الداخليّة لذلك الفريق الذي يدعي فقد البصر، مقدمًا مساحة طازجة للاستكشاف، إلى جانب كون المُفارقة التي يصنعها تظاهُر الأصحاء بالعمى تخلق نوعًا من الكوميديا الساخرة الممزوجة بالحسرة، أشبه بمأساة مُضحكة مُبكيّة لمجموعة من الأفراد يحلمون بالهرب بعيدًا إلى حيث يأخذهم جناح الطائرة، بلا رغبة في العودة.

الحيّز الذي منح للفيلم تجرُبته الخصوصية هو حيّز شديد البراءة، وفي هذا مفارقة؛ فمن الطبيعي أن تكون ردة فعلنا كمشاهدين: من المُجرم الذي يحاول استغلال إعاقة الناس لصالحه؟! لكننا على العكس، لا نرى أبطال القصة مُجرمين، بل ضحايا للواقع.

استغنى المُخرِج عن المُقدمات الكافية للتأسيس الدرامي، غير أن العالم كتجرُبة ومناخ كافٍ وحده لمنح كُل التبريرات المُمكنة، فالأساس ذاته ــ البيئة/المساحة المكانيّة/المجتمع ــ تكتنفه الوحشيّة والقسوة والفساد. إذا فالعلّة تكمُن في الوسط ذاته، وتُمرر إلى الشخصيّات، وعمليّة الاحتيال ليست إلا محاولة بائسة للتعافي من المرض المُستشري.

ڤوي! ڤوي! ڤوي

ينطلق الفيلم من أرضية واقعيّة، شاب يعمل في أحد المُنتجعات السياحيّة يحاول أن يتزوج من عجوز أوروبيّة لتنتشله من الضياع وتأخذه نحو الجنّة، تلك الأرضية مُعبرة لأنها تُلقي بنا في خضم المُشكلة منذ البداية، وتؤطّر الحُلم والهدف الأسمى بالنسبة للبطل حسن، بعدها يُمهد المُخرِج والكاتب “عُمر هلال” للفيلم بمُقدمة رسوم متحركة طريفة تبدأ برفع النسق لأنها تبدأ بسحب الفيلم للأمام بموسيقى ساري هاني التي ستُكمِل حتى نهاية الأحداث كعُنصر رفع للإيقاع.

فيلم ڤوي ڤوي ڤوي لمحمد فراج

يعتمد المخرج ضمن أدواته بشكل كبير على الفوتو-مونتاج في ضغط المسافات الزمانيّة أو إعمال الخيال في خطط بديلة، مثلما يرى المُشاهد رحلة الهروب الموازية على مركب غير شرعي، وينظُر مخاطرها بشكل خاطف، والحقيقة أن هلال يستخدم الفوتو مونتاج بتقنيّة مُميزة تُشبه ما يفعله المُخرِج البريطاني المُميز جاي ريتشي، خصوصًا في تقنية تصوير خطط الاحتيال والقطعات السريعة الخاطفة، حتى حركات الممثلين والمواقف الذكيّة الفكاهية التي يقع بها الأبطال، خصوصًا مشهد السرقة التي ينظُر فيها حجاج عبد العظيم إلى اللصوص من الجانبين، تلك النوعيّة من المشاهد تردني إلى أفلام بعينها إلى جاي ريتشي، والحقيقة أنها نفذت جيدًا، وقدمت كوميديا دون ابتذال الإفيهات. وعليه فتأثر المُخرِج بذلك النمط البصري مفهوم جدًا، لأنه أسلوب كامل يُمكن تطويعه داخل قوالب سينمائية مختلفة.

فيلم ڤوي ڤوي ڤوي لمحمد فراج

يتعرّض هلال للمُجتمع كمأساة هزليّة  تُنتِج شخصيات مهزومة. مهزومة حتى قبل أن نتعرف عليها كمُشاهدين. كابتن عادل (بيومي فؤاد) يُمثل خيبة أمل كُبرى بالنسبة لذاته وعائلته، فشل كلاعب كُرة وكمُدرب رياضي، والآن ينشط كمُدرس ألعاب في مدرسة حكوميّة، يُمثل كابتن عادل إحباط جيل لم يتمكن من الفرار، ويُجسد شكل من أشكال العجز، حتى أحلامه المؤجلة أصبحت منزوعة القيمة، يؤسس هلال لشعورٍ بالعجز يطول كُل الأجيال، فأصدقاء حسن، سعيد (طه دسوقي) وقِدرة (أمجد الحجار) أجسادهم منحولة من فرط الحركة والمحاولة، ولكنهم في الحقيقة يفتقرون للحركة بمعناها الجوهري، أي الحيويّة المعيشيّة التي تطور شعورًا بالجدوى. فذوبان الإنسان داخل دوامة لقمة العيش تجعله ينسى كونه إنسانًا في المقام الأول، يتحوّل تدريجيًا إلى همجي، وهذا مُبرر آخر لعمليّة الاحتيال، فهي محاولة أخيرة للعثور على الذات وانتشالها من دوامة الحياة، بيد أن هلال فضّل أن يُعبّر عن قساوة الحيّاة بذروات مُغرِقة في الميلودراما، مشهد الأب مع ابنه القعيد، وهو يشجعه على مُغادرة البلاد إلى الأبد، مشهد شديد الميلودراميّة، رُبما لأن القصّة ذاتها تشتبك مع أفراد من الطبقة الدُنيا، فتحتاج إلى التعبير الفعّال عن الانفجارية الشعورية، لكن تلك “الذروات” كانت مقبولة على أي حال، مثل مشهد الأم (حنان يوسف) مع حسن، بعد أن ضربها الطبيب التي تعمل في عيادته، لتقوم ثورة حسن ولكنها تنتهي بالبكاء واحتضان الأم فيما توجّه كلماتها بشكل مُباشر لابنها: “سافر يا حسن”.

أظن أن هذا النوع من المشاهد لم يُضف الكثير للقصة على مستوى الحكي، فنحن نرى من خلال السياق العام ما تُشكله المنظومة من ضغط على الشباب الصغار، بحيث لا يوجد مكان للأحلام، ولكنها رؤية المُخرِج على أي حال، بالإضافة إلى كونها لم تكن مُنفرة على الإطلاق.

ما يُشكل الحلقة الأضعف في السردية كُلها، هو خط الصحفيّة إنجي (نيللي كريم) وقصة حُبها الكرتونيّة مع حسن، فشخصيّة إنجي ذاتها شخصيّة مُسطحة، لم تتطور بأي شكل، ولم تُضف للسرديّة بُعدًا مختلفًا. رُبما أراد هلال استغلال العُنصر النسائي وإضافة خط سردي يلعب في مساحة مُختلفة، وطبقة اجتماعية أعلى لرصُد تفاهة وسطحية بعض أفراد تلك الطبقة، خصوصًا مع تناولهم كسلعة، الصحفية إنجي كانت ضيفًا خفيفًا على القصة، ولكنها لم تنجُ من الخط الرومانسي المفتعل.

يُعتبر فيلم “ڤوي! ڤوي! ڤوي!” تنفيسة للسينما المصرية. ينجح في إبقاء المُشاهد متحفزًا في السينما دون أن يسقط في فخ التسطيح وتيار الكوميديا الفجة والتافهة، فهو مُمسك بخيوط قصة ذات بُعد مكاني وزماني مرصود جيدًا، يقدمه في قصة ذات هموم واقعية مُقدمة داخل قالب كوميدي لطيف ومُمتع، عن مجموعة من المبصرين يعيشون في العتمة، يتحولون إلى مكفوفين لعلّهم يرون النور مرّة أخرى، والحقيقة أنهم لم يكونوا مبصرين أبدًا، فـ “العور” الذي يصيب المجتمع يجعل عيونهم نصف مفتوحة، لذلك فهم مستعدين للمخاطرة بكل شيء فالوضع بالفعل من سيء إلى أسوء، أو كما يقول المثل الشعبي المصري: “ضربوا الأعور على عينه… قال خربانة خربانة”.

اقرأ أيضا: هالة القوصي: «شرق 12» وضعت فيه نفسي أمام تحدٍ جمالي

شارك هذا المنشور