هناك شذرة فلسفية لغوية للودفيغ فيتغنشتاين، تصلح كمُقَارَبَة دائمة لصناعة الكوميديا في سينما جيم جارموش، الشذرة تقول: «أمر طبيب أحد المرضى بأكل الفاكهة مدة من الزمن، فجاءوا للمريض بعنب، ثم كمثرى، فرفضهما على التوالي، لأن الطبيب أمر له بالفاكهة تحديداً، وليس شيئاً آخر».
يفتتح المخرج جيم جارموش فيلمه «Coffee and Cigarettes»، «قهوة وسجائر» (2003)، بلقاء بين روبيرتو بينيني وبين ستيفن. المكان عبارة عن حائط قديم، ساقط عنه الطلاء في مواضع متفرقة، وعليه كتابات من نوعية «للذكرى الخالدة»، التي تُحْفر أحياناً على جذوع الأشجار. أمام الحائط، وبوضعية غير مريحة، هناك منضدة مربعة، سطحها رقعة شطرنج، مُناسِبَة لفيلم «قهوة وسجائر»، القائم على لونين، وهما الأبيض والأسود. في الحائط فتحة باب كبير إلا أن الباب غير موجود، وفتحة الباب لا نرى فيها عمقاً، بل نرى سواد حائط آخر على بعد مترين، وهذا قد يزيد من عدم الارتياح في الجلوس على منضدة روبيرتو، بوضعها الغريب بجوار فتحة الباب.
روبيرتو أمامه على المنضدة الصغيرة، خمسة فناجين قهوة، نصف منتهية، نصف مُنْتَهَكة من أفواه لا نعرفها، وملاعق، ومنفضة سجائر، ومُبيض قهوة. يرفع روبيرتو فنجان القهوة، وترتعش يده. يأتي ستيفن فجأة من داخل المكان، وليس من فتحة الباب. يُرحِّب روبيرتو بستيفن قائلاً: ستيف. يرد ستيفن مصححاً خطأ روبيرتو: ستيفن. نحن الآن أمام أعمق لمسات الكوميديا عند جارموش، وهي سوء الفهم، بسبب استحالة التواصل. لا بد أن اللغة هي السبب، اللغة تسمح بنصف تواصل، تماماً مثل فناجين القهوة نصف المنتهية. اللقاء الغريب بين روبيرتو وستيفن، يفتقر حتى إلى معرفة الاسم الصحيح، فكيف سيكون الحديث الدائر في اللقاء؟
يقول روبيرتو لستيفن: أنا متحمس جداً، فيرد ستيفن بأنه هو أيضاً متحمس. يقول روبيرتو، وهو يُقدم فنجان القهوة لستيفن: كلانا متحمسان. فناجين القهوة نصف المنتهية، ليستْ لشخص بعينه، وكأنها دعوة عامة، لمن يجلس على المنضدة، ويُكمل فنجان قهوة، لم يكن له في الأساس. هذا عدوان ساخر من جارموش على أبسط ذاتية يتمتع بها الإنسان الحديث، وهي أن يأتي فنجان القهوة على شرفه، ومن أجله فقط، أو ربما كان جارموش يقصد الأخوية الكونية التي تتمتع بها شخصيات دوستويفسكي، المتواضعة بأريحية مُهَانَة أمام غرور وعجرفة الإنسان الغربي، الرافض لإكمال فنجان قهوة، لم يكن له في الأساس.
يسأل ستيفن: ماذا تشرب؟ يرد روبيرتو: قهوة، أنا أحبها كثيراً. ماذا عنك؟ يرد ستيفن: أنا أحبها. بدهشة يقول روبيرتو: أنت تحبها أيضاً. يفرح روبيرتو بتصريح ستيفن، ويمسك كتفه ويهزه بحماس، ويقول: ستيف. يصحح ستيفن خطأ روبيرتو: ستيفن. لا يعتبر ستيفن تكرار الخطأ في اسمه من قِبَل روبيرتو، إهانةً، لأن روبيرتو لا يقصد الإهانة، فهو متحمس فقط، بينما ستيفن يكتفي بتصحيح اسمه دون التفكير في أبعد من ذلك، لكن مع التكرار يُخيم على الكوميديا ظل العبثية الثقيل، ولهذا يبقى جارموش من أكثر المخرجين تعقيداً في تقديم الكوميديا.
ستيفن يرى أن القهوة والسجائر، مزيج رائع، وروبيرتو يرى أن الإفراط في شرب القهوة، صحي، مع أن ملامح وجه روبيرتو تشي بالنفور قليلاً من رشفات القهوة المستمرة. ستيفن يشرب القهوة قبل النوم مباشرةً، وهذا يجعل الأحلام تمر بسرعة على جانبي وجهه، كأنّه يركب سيارة، وحين يسأل أحدهم، بماذا حلمت؟ يرد ستيفن: ليس لدي وقت لإخباركم بهذا. هذا منطقي داخل العبث ذاته، فالأحلام كانت سريعة.
ألا يكفي مَنْ يسأل، معرفة أن الأحلام كانت سريعة جداً؟ على ستيفن أن يُغادر بعد قليل من الوقت، فلديه موعد مع طبيب الأسنان، لكنه لا يحب الذهاب لطبيب الأسنان. يسأل روبيرتو: ألن تذهب؟ يرد ستيفن: يجب أن أذهب، لكنني لا أريد ذلك. يفكر روبيرتو، ثم يقول بحماس: ستيف أنا غير مشغول. يسأل ستيفن: هل تريد الذهاب بدلاً عني؟ يرد روبيرتو، وهو يضع يده على كتف ستيفن: شكراً جزيلاً. يتأكد ستيفن من رغبة روبيرتو، فيؤكد له روبيرتو بأنه سيذهب للطبيب بدلاً عنه. يعطي ستيفن عنوان الطبيب لروبيرتو. ينظر روبيرتو باهتمام للعنوان، ويقول: ستيفن شكراً جزيلاً.
لم يُخطئ روبيرتو هذه المرة في اسم ستيفن، وكأنّ جارموش أراد هنا كسر رتابة التكرار، والسماح لنا باستراحة مؤقتة من منطق الصواب الخطأ، المعروف، والعقلاني، حتى يخدعنا مرةً ثانية وثالثة. يقول روبيرتو لنفسه، وهو يفرك يديه من فرط الحماس والرضى، وعلى مسمع من ستيفن الجالس أمامه: موعد مع طبيب الأسنان، هذا رائع. يصمت روبيرتو قليلاً ويقول، وهو ينظر إلى عنوان طبيب الأسنان: يجب أن أذهب. أنا آسف يا ستيف. يرد ستيفن مُصححاً: ستيفن. يشكر روبيرتو مرةً أخرى ستيفن، ويُغادر لطبيب الأسنان. ينصحه ستيفن بنصف تشجيع: لا تتأخر.
يُواجَه دائماً إسحاق دي بانكولي بطل فيلم «The Limits Of Control»، «حدود السيطرة» (2009)، لجيم جارموش، بسؤال استفهامي، أو على وجه الدقة، شبه استفهامي، وبلغات مختلفة. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ ودائماً تأتي إجابة البطل بكلمة نفي واحدة. الفيلم من أفلام الجريمة، والمألوف في هذه الأفلام أن تُستخدَم كل معلومة لخدمة هدف النهائي، وهو القتل. يتلقى البطل تعليمات بأن يستخدم خياله ومهاراته في القتل، كل شيء شخصي أياً كان معنى ذلك. منذ البداية يؤكد جيم جارموش في حوار فيلمه، النقاط الغامضة التي تنأى بالجريمة عن ما اعتادتْ في أفلام الإثارة أن تقترب منه، بل تلتصق به، وهو الوضوح القاتل، والاستقامة الدرامية المميتة.
وعندما يقول جيم جارموش على لسان الشخصية: كل شيء شخصي أياً كان معنى ذلك، فهو يقصد هذا حقيقةً، أي يقصد أن الجريمة التي على البطل القيام بتنفيذها، هي بشكل ما جريمته الخاصة، وهي تحقيق وجودي لوجود البطل ذاته، بصرف النظر عن إحساس البطل إسحاق دي بانكولي بأنها جريمته الخاصة أم لا. هنا نرى عمق النظرة الكوميدية لجيم جارموش، فالبطل لا يشعر، أو لا يعطي إشارة، ولو هينة، بأن الجريمة القادم على تنفيذيها تمثِّل له شيئاً شخصياً، أو وجودياً، فقط هو يؤدي مهمته بجدية عالية، وحياد بارد، وهو أداء شائع في أفلام الإثارة التقليدية.
الكوميديا تأتي عند جيم جارموش كما في أفلامه المميزة «أغرب من الجنة»، «القطار الغامض»، «قهوة وسجائر»، من تصلُّبٍ عضلي شديد في جسم الكوميديا، فشخصياته لا تعي عبث ما تقوله، ولا يخدم جيم جارموش الصورة كي تفصح عن ما هو مُتصلِّب في حوار شخصياته، بل تزداد الصورة مع الحوارات العبثية، جموداً، وعرياً، وتجريداً، وصمتاً. الصمت في أفلام جيم جارموش ليس صمتاً يبتلع روح العالَم، الروح بالمعنى الهيجلي، أي ليس صمت الحكمة، بل هو صمت يبتلع الفراغ، فراغ شخصيات بيكيت، أو هو صمت بارتلبي بطل هيرمان ميلفيل.
أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ قد يعتقد المُشاهِد العادي لأفلام الإثارة أن عدم تحدث البطل للغة الإسبانية، سيقفُ حجر عثرة أمام مهمة القتل، لكنه سيدرك بتكرار السؤال أثناء الطريق إلى القتل، أن البطل لا يعوقه عدم إجادته للغة الإسبانية في أداء مهمته، وشيئاً فشيئاً يتحول السؤال إلى معنى آخر، معنى أليف حميمي، على أثره تنطلق الشخصية صاحبة السؤال أياً كانت، في حديث آخر لا علاقة له بمهمة القتل. إن الفخ الدرامي المعهود للتكرار، هو الوقوع في الاستجابة العاطفية، إلا أن بطل جيم جارموش لا يتعاطف مع الشخصيات التي تبوح له بتأملات واستبصارات فلسفية بعيدة عن جريمة القتل.
الاستبصارات والتأملات في حد ذاتها لا تحمل قيمة طالما أنها تُقال كنتائج حادة أدركتها الشخصيات في زمنٍ ليس هو زمن الفيلم، لهذا تبقى الاستبصارات والتأملات في فيلم «حدود السيطرة» مُعلَّقة في الفضاء، إلا أن علاقتها المُجاوِرة بعلبة كبريت، أو وتر جيتار، أو حبَّات ماس، وهي أشياء ترتبط بجريمة القتل التي على البطل القيام بتنفيذيها، علاقة جمالية يخلقها جيم جارموش بعناية وزهد بصري لا حدود له. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ وضع جيل دولوز أيدينا في تحليله العميق لقصة «بارتلبي النسَّاخ» للكاتب الأمريكي هيرمان ميلفيل، على سر التكرار في العمل الفني، لا سيما عندما يكون التكرار مُتخشباً مُتصلِّباً كما هو عند جيم جارموش.
يحفر السؤال المُوجَّه للبطل في تكراره هوة سحيقة وراء اللغة، وكأنّ التكرار يُبعد اللغة عن وظيفتها. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ وكما عند بيكيت وميلفيل تكون العينة اللغوية المُختارة التي تخضع لمعمل التكرار الدرامي، دائماً بسيطة ومعيارية ومُستخْدَمَة لحد الإنهاك. إسحاق دي بانكولي بطل فيلم حدود السيطرة الوحيد الذي لا يملك استبصارات وتأملات كما تملكها شخصيات الفيلم الثانوية، ولهذا قد يكون البطل هو المُستمع المثالي الوحيد، طالما لا يملك ذاكرة تُعكِّر صفو مرايا الشخصيات، مُستمع جيد دون عاطفة، ودون فائدة أيضاً. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ كان التكرار دائماً علامة الجنون، دمغة على عرض حال الوجود.
اقرأ ايضا: الجميع قلق على خسارة كوبولا لأمواله إلا هو!