عندما قرر المخرج جورج ميلر صناعة فيلم يحكي قصة شخصية فيريوسا التي أدت دورها تشارليز ثيرون في فيلمه السابق «Mad Max: Fury Road»، كانت فكرته الأولية أن يكون فيلم رسوم متحركة. تغيرت الفكرة لاحقًا لتصبح فيلمًا حيًا، لكن الأثر البصري للفكرة القديمة لا يزال واضحًا ومحسوسًا في عدة مشاهد وكادرات من فيلم “فيريوسا: ملحمة ماد ماكس”«Furiosa: A Mad Max Saga». أذكر كل ذلك لأقول إنه من المدهش مشاهدة رجل يبلغ من العمر 79 عامًا وهو منغمر في عالمه الخاص ويصوره بكل شغف وكأنه يرينا مقتنياته الثمينة.
في الفيلم السابق “ماد ماكس:طريق الغضب fury road، أخرج لنا جورج ميلر لمحة من عالمه الديستيوبي، ذلك العالم الذي يبدو ظاهره جافًا قاسيًا متقشفًا، لكنه مفعم بالتفاصيل التي لا يتنقص ثراءها من هوية الفيلم الرئيسية. وفي هذا الفيلم الجديد، نستكشف هذا العالم بشكل أكبر مع بطلته فيريوسا في قصة ملحمية عن الانتقام والأمل.
من الأمور التي لا يمكن تجنبها في «فيريوسا» هي المقارنة المباشرة مع «طريق الغضب»، فالأخير احتوى نقلة نوعية صنعها جورج ميلر من الناحية البصرية والاعتماد على استخدام المؤثرات العملية أكثر من المؤثرات البصرية، ومشاهد المخاطر إلى جانب تصوير الفيلم في مواقع حقيقية وعدم الاكتفاء بالكروما (الخلفية الخضراء واستخدام المناظر المخلقة رقميًا)، ما أكسب الفيلم مصداقية وجمهورًا حقيقيًا. بالتالي؛ من الطبيعي أن يأتي هذا الجمهور إلى فيريوسا وهو متلهف للمزيد، لكنه عمل مختلف من الناحية السردية بالكامل، فبينما كان طريق الغضب يقدم نظرة شاملة على ذلك العالم بالكامل ويختار عدة شخصيات منه جاعلًا منهم أبطالًا يرافقهم في رحلتهم، فإن فيريوسا يقدم نظرة أكثر قربًا وحميمية مركزًا على شخصية واحدة جاعلًا منها بطلة للفيلم، نستكشف العالم نفسه من خلال تجربتها وحدها.
لم أدرك الدرجة التي أراد فيها الفيلم التعمق داخل مكنون هذه الشخصية حتى رأيت الفترة التي قضاها وهو يستكشف طفولتها فقط، هناك حرص واضح على دراسة فيريوسا وإعطاء المشاهد كل الأدوات لفهم شخصيتها ودوافعها، ليس في هذا الفيلم فقط؛ بل حتى في الفيلم السابق. النجاح في هذه النقطة تحديدًا أمر مبهر حيث أن العديد من المشاهد والعلاقات في «طريق الغضب» اكتسبت بُعدًا وعمقًا آخر بسبب أحداث فيلم «فيريوسا»: علاقتها بماكس، وردات فعلها الحادة نتيجة الأحداث المستقبلية التي نراها في الفيلم الأقدم، تبدو أكثر منطقية ومناسبة جدًا لتطور قصتها.
على الرغم من الإفراط في استخدام المؤثرات البصرية الصناعية في بعض المشاهد، بخلاف الخلطة البصرية الممثلة التي صنعها ميلر في فيلمه السابق، فإن الفيلم يرتقي للتوقعات ويقدم ملحمة بصرية رائعة.
حينما تبدأ فيريوسا مغامراتها وبعد تحضير طويل لما ينتظرها، يأتي أول مشاهد المطاردات كحمام ثلج بارد يصعق المشاهدين ويدفعهم إلى حواف مقاعدهم. توقيت المشهد مناسب جدًا لأنه يأتي بعد فترة طويلة من تأسيس شخصية فيريوسا، في تلك المرحلة كان الفيلم أقرب إلى كونه بيوغرافي أكثر منه فيلم أكشن. بمجرد اكتمال تقديم وتطوير اللاعبين في القصة ينطلق الفيلم بالسرعة المعهودة بدون توقف.
هذه نقطة مهمة يختلف فيها الفيلم عن سابقه، فـ “طريق الغضب” لم يعطِ أي مجال للإبحار في اسكتشاف الشخصيات ودراستها عن قرب، لكنه نجح تمامًا في خلق انطباع بأن الشخصيات التي أمامنا مكتملة التأسيس وليست سطحية إطلاقًا. لكن هنا ميلر يؤسس شخصية فيريوسا فحسب، بل ويبني العالم من حولها ويسلط الضوء على الطبقية في أعلى درجاتها تطرفًا، ولا يغفل تطوير شخصيات أخرى مهمة للقصة على رأسها «ديمينتيس» الذي قام بدوره كريس هيمزورث.
هيمزورث قدم في هذا الفيلم أحد أفضل أدواره بلا شك، واستطاع الخروج من فقاعة مارفل التي احتوته في نوع معين من الأدوار. هنا يتحدى القالب المعتاد الذي يتم تصنيفه فيه. وبرغم طبيعة شخصيته الغريبة إلا أنه يستطيع أن يظهر عمقًا حقيقيًا من خلال هذه الغرابة، وأعني بذلك أن الشخصية لا تبدو مجرد مجموعة من التصرفات الغريبة والفوضوية بهدف الشر والخراب فقط، لكننا نستطيع أن نفهم أنه لم يكن هذا الشخص على الدوام وأن هناك ظروفًا قاسية حولته إلى الوحش الذي هو عليه الآن.
آنا تايلور جوي تقدم أداءً صاعقًا، دورها لا يعتمد على الحوارات، وهذا منطقي جدًا بالنسبة لأسلوب الفيلم السردي وطبيعة شخصيتها، لكننا نستطيع استشعار الغضب المكبوت داخلها والذي ينتظر اللحظة المناسبة للانفجار في وجه الجميع. يمكنك فهم أن هناك كثير من المشاعر والرغبات والنوايا تعتمل داخلها بمجرد النظر إلى عينيها. إن أكبر تساؤل يطرحه الفيلم حول فيريوسا، هو سؤال حول الدوافع التي تحركها للمضي قدمًا، هل ما يحركها هو الأمل بالحصول على حياة أفضل؟ أم أنه الانتقام لموت أمها؟ على مدار الفيلم يُطرح هذا النقاش بينها وبين «ديمينتيس» الذي يقف مثالًا حيًا على انقضاء الأمل واعتناق الفوضى والخراب.
إن قدرة جورج ميلر على العطاء بهذا الشكل مثيرة للاهتمام، خصوصًا حينما نأخذ في عين الاعتبار أنه طور هذه القصة من مجرد رسومات وأفكار أولية، وأنه استطاع بناء فيلم كامل حولها. «فيريوسا» مثال سينمائي رائع للقدرة السردية البصرية والسمعية، بدون الحاجة إلى تلقين المشاهد كل الأفكار التي يريد صناع الفيلم إيصالها.
ومن اللمحات البارعة في استخدام الموسيقى كعنصر من عناصر السرد السينمائي، أن مقطوعة «Brothers In Arms» التي لاقت نجاحًا باهرًا في الفيلم السابق يتم عزفها بشكل متقطع وغير كامل في هذا الفيلم، في إشارة إلى أن نمو فيريوسا لم يكتمل بعد، وأنها لا تزال في بداية مشوارها.
بعد نهاية الفيلم يتم عرض بعض المشاهد من فيلم «طريق الغضب» وفيه بداية رحلة هروب فيريوسا مع زوجات «جو الخالد»، لم ينهض أي أحد من المشاهدين من مقعده ولم يغادر أحد صالة السينما التي حضرت الفيلم فيها، إن في ذلك دلالة على سلاسة التدفق السردي الذي صنعه جورج ميلر في ملحمته الخاصة بعالم ماد ماكس الموحش.
اقرأ أيضا: «بذرة التين المقدس».. رسولوف يخطو على الخط الرفيع بين الفن والسياسة