“الجميع يحبّ ميريل ستريب”. هذا ليس عنواناً وضعته مجلّة “تيليراما” الفرنسية فحسب، بل شعور دهم كلّ من كان في شارع الـ”كروازيت” خلال اليومين الأولين من انطلاق الدورة السابعة والسبعين لمهرجان كانّ السينمائي (14- 25 أيار). لقطات للممثّلة الأميركية التي تبلغ الرابعة والسبعين عاماً، وهي تمشي على السجّادة الحمراء، تصدّرت كلّ الشاشات، بعدما بات اسمها على كلّ لسان، وأدوارها في الذاكرة الحيّة.
غداة الافتتاح، حيث أُسنِدت إليها جائزة فخرية عن مجمل مسيرتها، ووقفت محرجةً لدقائق طويلة أمام جولييت بينوش التي كالت لها المديح، كان لها لقاء مع الجمهور في مسرح دوبوسي، تحدّثت خلاله عن تجربة نصف قرن من التمثيل في إدارة كبار المخرجين، في حوار تولاه الصحافي ديدييه علوش بخفّة دمه المعهودة واطلاعه الواسع. علينا من باب التذكير استعادة بعض الأسماء الكبيرة التي وقفت ستريب أمام كاميراتهم: مايكل تشيمينو، روبرت بنتون، آلان ج. باكولا، سيدني بولاك، ستيفن سبيلبرغ، روبرت أولتمان، فيليب نويس، ستيفن فريرز، كلينت إيستوود، وغيرهم، في مسيرة لم تشارف نهايتها بعد، سواء في التلفزيون أو السينما، في حين انقطعت عن المسرح منذ فترة. اللائحة طويلة لا يمكن نشرها بالكامل في هذا المقال. أو يمكن اختزالها في جملة ستريب الظريفة: “إني عجوز إلى درجة أني عملتُ مع الجميع”.
لم تطأ ستريب كانّ منذ 35 سنة، أي منذ 1989، وكانت عامذاك فازت بجائزة التمثيل عن دورها في “صرخة في الليل” للمخرج فرد شيبيسي. تذكّرت كيف إنها تلقّت نصيحة بأن تستعين بتسعة مرافقين لحمايتها من المعجبين، فسخرت من الفكرة، وعندما وصلت إلى المدينة، أدركت أنها كانت تحتاج إلى أكثر من ذلك. مصوّرو الباباراتزي، كانوا يطاردونها من مكان إلى مكان، الأمر الذي بثّ الرعب في نفسها. قالت انها لم ترَ أي شيء كهذا في حياتها، إلى درجة أنها غادرت كانّ قبل موعد توزيع الجوائز، فتسلّمها عنها الممثّل جاك بالانس.
عشية هذا اللقاء، كانت روت أيضاً وهي تتسلّم الجائزة، أنها كانت في الأربعين من العمر وأمّاً لثلاثة، يوم حضورها إلى كانّ، واعتقدت أن حياتها المهنية قد لامست نهايتها، ملمّحة إلى قلّة الأدوار التي كانت متوافرة لممثّلة أربعينية في تلك الحقبة. في هذا الصدد وعن التغيير الذي حدث منذ ذلك الوقت، قالت: “اليوم، أكبر نجوم السينما هن نساء، كان الأمر مختلفاً عندما بدأتُ، كان كلّ شيء يتحلّق حول النجم. الأفلام هي انعكاس لأحلام من يصنعها. حتى كبار المنتجين لديهم أحلام. لم يكن صعباً على النساء التماهي مع النجوم الرجال، لكن استحال على الرجال أن يحلموا من خلال شخصية نسائية”.
منذ ذلك الحين، تطوّرت تجربتها صعوداً، مع 21 ترشيحاً لجائزة الـ”أوسكار”، نالت منها 3 إلى الآن. تحدّثت بكلمات سهلة، بلا أي إدعاء. بدت أميركية حتى أطراف أصابعها، بمعنى الاسترسال في الكلام، بعبارات وتفاصيل تكشف حبّاً للبوح. ستريب لا يوجد فيها ما هو باطني، ما في بالها على لسانها، أو أقلّه هكذا بدت. فقد تناولت الماضي بأريحية، مازحت وتذكّرت رغم انها اعترفت انها لم تنم إلا بضع ساعات بسبب حضورها سهرة حفل الافتتاح التي استمرت حتى الفجر. وفي معرض الحديث عن التكريم ورؤيتها لدموع الناس في مسرح لوميير خلال تسلّمها الجائزة، قالت جملة غريبة: “هالني حبّ الناس لي هنا، في بلدي لا أحد يحترمني!”.
تناولت تاريخها مع السينمائيين الذين عملت وإياهم، فرداً فرداً. علمنا مثلاً انها عدّلت النهاية في فيلم “كرايمر ضد كرايمر” الذي كان أساسياً في رحلة صعودها إلى الشهرة، ونالت عن دورها فيه أول “أوسكار” لها، أو كيف أنها اقترحت تغييرات في الشخصية التي لعبتها في “صائد الغزلان”. تشيمينو أعطاها تلك الحرية، وهذا لا يعني أنها حظيت بهذه الفرصة دائماً. هذه الممثّلة التي لطالما انتصرت لشروط عمل أفضل للممثّلات في هوليوود، استطاعت في العديد من اللحظات فرض نفسها، لا بل كانت واحدة من الرائدات في هذا المجال. ولم تخفِ حقيقة أن الظروف تغيّرت كثيراً بالنسبة إلى حضور المرأة في الأفلام. فمثلاً عندما أشار علوش إلى أن حضورها لافت في بعض أفلامها، كان ردّها بأنه من الطبيعي ان يلفت كونها كانت المرأة الوحيدة بين مجموعة رجال.
عادت إلى تصوير “خارج أفريقيا”، وخوفها من الحيوانات المفترسة في موقع التصوير، ويبدو أن شريكها في التمثيل روبرت ردفورد هو الذي افترس قلبها في تلك الأيام، لأنها لا تزال تتذكّر كما لو كان حدث في الأمس، كيف غسل شعرها بالشامبو. عيناها تلمعان عندما تتحدّث عن ذاك الذي وقعت في غرامه. مشهد الشامبو هذا، تمنّت لو لم ينتهِ، ثم علّقت: “إنه مشهد جنسي نوعاً ما، لشدّة حميميته. نرى الكثير من مشاهد الجنس في الأفلام، لكن لا نرى لمسة حبّ فيها”.
كشفت ستريب أنها لا تتحكّم بالأدوار التي تُعرض عليها، لأنها لا تملك شركة إنتاج كبعض الممثّلات. أما شركة الإنتاج الخاصة بها، فهي “الأطفال الذين أنجبتهم”، قالت ممازحةً، اذا يبلغ عددهم 4، في حين أنها أصبحت جدّة لخمسة أحفاد. وأقرت بأن سبب عدم رغبتها في خوض مجال الإنتاج، يتأتى من عدم رغبتها في تلقّي اتصالات هاتفية بعد السابعة مساءً، هي التي اختارت “حياة هادئة ومملّة”.
عندما جاء علوش على ذكر مشهد انتزاع النازيين طفلها في “خيار صوفي” (فازت عنه بثاني “أوسكار”)، بدت منزعجة لا تود ان تتذكّر قسوة تلك اللحظة. ثم راحت تشرح: “بحسب الاسطورة المنتشرة، فإننا لم نصوّر ذلك المشهد إلا مرة، وهذا غير صحيح. في الحقيقة، صوّرناه مرتين لكن اخترنا المرة الأولى. في الأولى، لم تكن الطفلة تعلم انها ستُؤخذ من أمّها، فيما كانت تعلم ذلك جيداً في الثانية. رد فعلها هو الذي كان مؤثّراً. لم أقرأ المشهد في السيناريو إلا مرة. كان يحزنني جداً. لا شيء يجعلك مستعداً لشيء كهذا. هذا أشبه بأن تجد نفسك في عرض البحر. لا تملك إلا أن تلقي بنفسك في الماء، لأن التقنيات لا يمكن أن تساعدك”.
كشفت ستريب “أسرار” التصوير لدى بعض من عملت وإياهم، فاعتبرت سبيلبرغ (لعبت في إدارته “ذا بوست”)، “عبقرياً، في رأسه الفيلم عندما يصوّر”، أما كلينت إيستوود الذي أعطاها ربما أجمل أدوارها وذلك في “جسور مقاطعة ماديسون”، فروت انه يعمل بهدوء، لكن ذات يوم بعض الأشخاص الذين كانوا يتحدّثون بصوت عال خلال التصوير أثاروا غضبه، فصرخ بكلّ ما يملك من قوة. عن التصوير نفسه، روت: “صوّر إيستوود هذا الفيلم في خمسة أسابيع. كان يصوّر بسرعة، ينهض في الخامسة صباحاً، كي تتسنّى له ممارسة لعبة الغولف بعد الظهر. ما نراه في الفيلم هو تقريباً التمارين. هكذا يعمل”.
اعترفت ستريب بأنها لم تطمح يوماً في أن تلعب بطولة أفلام ذات موازنات ضخمة، لكن أعمال مثل “مامّا ميّا!” أو “الشيطان يلبس البرادا”، أضحت في نهاية المطاف أفلام “بلوكباستر”، جعلتها أكثر شهرةً في جميع أنحاء العالم وهي في نهاية الخمسينات من عمرها، الأمر الذي لم تكن تتوقّعه يوماً. وختمت اللقاء بـ”لا تستسلموا”. وكانت هذه نصيحتها للشباب الذين يريدون خوض مجال التمثيل.
اقرأ أيضا: نبيل عيوش: أتمنى عرض «الجميع يحب تودا» في السعودية