أعترف أنني رغبت بشدة في أن أحب هذا الفيلم. شعور لم امتلكه حصريًا، بل كاد يسيطر على كل الحضور في مهرجان كان، فصار “ميغالوبوليس” هو الفيلم الأكثر طلبًا، والذي نفذت جميع تذاكره في غضون ثوان بمجرد طرحها للحجز، وصار من تمكن من اقتناص تذكرة في عداد سعيدي الحظ. كيف لا، وهو فيلم العودة – والنهاية غالبًا – للمخرج الأسطوري فرانسيس فورد كوبولا، صاحب “العرّاب The Godfather” و”المحادثة The Conversation” و”نهاية العالم الآن Apocalypse Now”. الفيلم الذي ظل كوبولا يحلم بتنفيذه لثلاثة عقود، قبل أن ينتجه من ماله الخاص بميزانية بلغت 120 مليون دولار وفق التقديرات المعلنة.
لا يشكل المال أزمة كبيرة لكوبولا الذي كوّن ثروة ضخمة من مزارع العنب التي يمتلكها ويصنع من خلالها النبيذ الفاخر، لكن الأهم في حالة “ميغالوبوليس” كان هذا الحلم السينمائي المؤجل، طموح الرجل الكبير الذي حقق كل ما قد يحلم به صانع أفلام، لكنه لا يزال يطارد حلمًا سينمائيًا لا يريد أن يفارقه. ولأن أحلام الكبار كبيرة، أراد كوبولا أن يصنع فيلمًا ختاميًا يليق به، يجمع فيه عصارة أفكاره حول الحضارة والتاريخ والسياسة وموضوعات أخرى، ليكون هذا الطموح الشاهق أول الخيط الذي انتهى بخروج الفيلم في صورة مضطربة، باهتة في كثير من أجزائها، تقل كثيرًا عمًا تمنيناه قبل المشاهدة.
عن المادة وأكثر
يبدأ الفيلم ببطل الحكاية الرئيسي سيزر كاتيلينا (آدم درايفر) يستعد ليخطو خطوة سيهوي بها من فوق ناطحة سحاب، لكنه يتمكن بطريقة ما من إيقاف الزمن، ليثبت قدرته على النجاة ويواصل حملته لدعم مشروع إعادة بناء المدينة باستخدام المادة الجديدة التي اكتشفها وأسماها “ميغالون”، ونال عنها جائزة نوبل. تشاهده وتقع في حبه جوليا (ناتالي إيمانويل) ابنة عمدة المدينة فرانكلين شيشيرو (جيانكارلو إيسبوسيتو)، والذي يمتلك بدوره مشروعًا مقابلًا يسعى لتطوير المدينة وفق نفس النماذج القديمة. عندما نقول المدينة هنا نقصد “نيو روما”، مدينة خيالية في المستقبل القريب تشبه نيويورك لو كانت تدار بنظام حكم مستوحى من قوانين روما القديمة.
لأول وهلة تبدو الفكرة براقة وملائمة جدًا للحظة، ذكرتني للفور بالفيلم الوثائقي الإبداعي الذي عرضه الروسي المخضرم فيكتور كوسكاكوفسكي في مهرجان برلين قبل ثلاثة أشهر بعنوان “أركيتكتون Architecton”، وفيه يروي كيف ارتبط تاريخ الحضارة البشرية بالمادة الرئيسية التي يستخدمها البشر في بناء حضارتهم، وكيف تُعد الخرسانة عنصرًا جوهريًا لا يمكن تجاهله عند تحليل الحضارة المعاصرة. غير أن “أركيتكتون” كان فيلمًا بسيطًا يطرح رؤية متماسكة، بينما لم يمنع صانع “ميغالوبوليس” نفسه من اعتبار الصراع حول مادة البناء مجرد موضوع واحد ضمن مواضيع عديدة يمر عليها الفيلم ويمزج بينها بلا توقف.
لدينا فكرة رأس المال المتحكم في القرارات المصيرية ممثلًا في كراسوس (جون فويات) مالك البنك الرئيسي الذي تتصاعد ثروته بالمليارات كل ثانية، وابنه (شيا لوبوف) الذي يصير في لحظة ممثلًا للأفكار الأناركية والرغبة في تدمير المؤسسات (مع إحالات واضحة إلى هجمة أنصار ترامب الجمهوريين على البيت الأبيض). هناك أيضًا دور الإعلام في تبني بعض القضايا وتلميع أصحابها لأغراض شخصية تتمثل في المذيعة المتسلقة واو بلاتينم (أوبري بلازا). هذا ليس كل شيء، من الممكن أن نرصد أفكارًا أكثر عن قيمة الفن، عن قيم التحديث عندما تصطدم مع حاجات البشر (سؤال هل ننحاز للحاضر أم المستقبل؟)، عن الحب وتأثيره في التاريخ، وعن أشياء أخرى متشعبة ومتعددة تكاد تحتاج مقالًا يُخصص فقط لرصدها في قائمة تضم طموحات فرانسيس فورد كوبولا في تغريدته السينمائية الأخيرة.
سينما بلا “ميغالون”
لم تكتشف البشرية بعد مادة جديدة مثل “ميغالون” يمكنها أن تسمح لفيلم واحد أن يطرح كل تلك الأفكار بعمق، حتى لو طال زمن عرضه إلى 140 دقيقة يُشعرك صانعها إنه كان يتمنى لو ضاعفها. الأمر الذي يتسبب سريعًا، وبمجرد أن تلاحظ قفز الفيلم من موضوع لموضوع بلا توقف في خفض سقف توقعاتك من “ميغالوبوليس”.
المثير للتأمل هنا هو أن كوبولا نفسه هو صانع “العراب”، العمل الذي يُمكن أن يُضرب به المثل في كيفية التمكن (على الأقل في أول جزئين) من بناء عالم ضخم حول فكرة واحدة حاكمة، يُمثل كل فصل جديد من الحكاية إضافة جديدة لها، تُثري التجربة السينمائية وتُعمق رؤية المشاهد للعالم حوله. فما الذي جرى في المسافة بين العملين؟ جرى كل شيء تقريبًا. نصف قرن من الزمان ليس رقمًا هينًا، تغيرت فيه جغرافيا الدول وانقلب النظام السياسي العالم وصعدت وهبطت آلاف المواهب السينمائية. كوبولا نفسه توقف عن تقديم أفلام جيدة من مطلع التسعينيات تقريبًا (من 30 سنة إذا كان عقلك يرفض الاعتراف بها مثلي)، لكننا تعلقنا بحلم امتلاك الرجل العظيم فيلمًا أخيرًا رائعًا يستحق كل سنوات الانتظار والتضحيات.
لماذا كل الجدّية؟ (بصوت الجوكر)
غير أن أزمة “ميغالوبوليس” لا تقتصر على ازدحامه بالتيمات والأفكار المبتورة، بل تمتد لتشمل طريقة معالجة تلك الأفكار دراميًا وبصريًا.
كوبولا يأمل – في التصور المثالي – أن يخلق عالمًا يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الواقع والأسطورة، أن يجعل الجمهور يشعر بكونه في روما القديمة ونيويورك المعاصرة وفي مدينة مستقبلية في الوقت ذاته. هذا طموح شاهق يكاد يتجاوز طموح الموضوعات، ففي النهاية يمكن لمؤلف استثنائي أن ينجز نصًا يطرح عشرات الأفكار، أما تحقيق هذا بصريًا فهو أمر آخر، يحتاج أكثر من موهبة استثنائية في أكثر من تخصص، ويحتاج ميزانية هائلة نقول إن المئة وعشرين مليون دولار كانت – للمفارقة – أقل منها.
النتيجة أن مدينة كوبولا تذكرك بجوثام سيتي تيم برتون. كأنك تشاهد “باتمان” و”باتمان يعود” بنسخة أكثر سخاء. مع فرقين أساسيين: أن برتون صنع أفلامه قبل ثلاثة عقود، وأن صانعها ونجومها كانوا يدركون أنهم يقدمون فيلمًا ينتمي لعالم الكوميكس، فاستفادوا من الشخصيات المرسومة بقدر واضح من المبالغة لتصير طابعًا ملائمًا للفيلم.
كوبولا ونجومه على العكس؛ يتعاملون مع فيلمهم بجدية واضحة. يأخذون شخصيات هزلية في جوهرها إلى مساحة من الصرامة غير المبررة. حالة ربما تنبع من شعورهم بالمسؤولية تجاه المخرج الكبير. حاول كل ممثل أن يسهم بكل ما يملك من موهبة في دعم تجربة كوبولا الأخيرة، والذي بدوره ساهم في تضليلهم باقتباسات ماركوس أوريليوس ومونولوج هاملت، والحديث عن مستقبل البشرية وإسقاط الديون فصارت المسؤولية أكبر. فقط لو مرر لهم حقيقة كونهم “جوكر” و”باتمان” و”بنجوين” متحررين من دي سي كوميكس، ربما كان الفيلم سيتمسك بخفة الظل التي تظهر من حين لآخر فتجعل تجربة المشاهدة أمتع.
ففي كل مرة يتخلص كوبولا لدقائق من حس الحكيم الذي جاء ليلقننا خلاصة خبرته في الحياة فيجعل العالم أفضل في ساعتين وثلث، تظهر متعة ذلك الطفل الكبير الذي لا يزال مستعدًا للاستغناء على نسبة من ثروته كي يمارس لعبته المفضلة. في اللحظات الذي نلمس فيها كوبولا محب السينما الذي لا يشيب؛ يُشعرك “ميغالوبوليس” بمتعة لحظة لا تُضاهي، لكن سرعان ما يأتي كوبولا الثمانيني الحكيم ليُفسد اللحظة.
لا نريد أن نقسو على فرانسيس فورد كوبولا، فلا يوجد ما يستدعي القسوة في نجاح الرجل أن ينجز حلمًا سينمائيًا انتظره طويلًا وانتظرناه معه. فقط بعض الإحباط من النتيجة النهائية، ربما كان الأمل في أن يفاجئنا الرجل بما لم نتوقعه، أو ربما نكون – كما كتب الزميل هوفيك حبشيان – غير قادرين على تقدير الفيلم في وقته ونحتاج عدة سنوات حتى نعترف بقيمته. شخصيًا لا أعتقد، ولا أود إعادة مشاهدة “ميغالوبوليس” قريبًا، لكن كما صبر صاحبه عقودًا، فلنصبر عامًا أو اثنين ثم نعود لنزوره لعلنا نكون مخطئين!
اقرأ أيضا: «الفتاة ذات الإبرة» تفتح أبواب جحيم قديم