بعد رحيل جان لوك غودار، تتوالى الأفلام التي تتناوله وتفكّك أعماله، وهي في أي حال لم تكن قليلة أو نادرة خلال حياته التي توزّعت على تسعة عقود، إخراجاً وتأليفاً ونقداً، شاكس خلالها الفنّ السابع. أحدث ما يأتينا عنه: “وحده غودار” للفرنسيين آرنو لامبير وفنسان سوريل (عدم الخلط مع فيلم “غودار، وحدها السينما” الذي شارك في مهرجان البندقية قبل أيام من وفاته في العام 2022)، الذي يقارب المسألة الغودارية سياسياً وجمالياً من منظور مختلف وخاص وضيق، معتمداً صيغة سردية تقع بين الوثائقي الصرف والنمط التمثيلي المشغول، بين المانيفستو والانشودة. فبعد عشرات الأفلام عن المعلّم، ينبغي لكلّ جديد ان يضيف ولو بعض التفاصيل على ما جاء سابقاً أو يتطرّق إلى الموضوع من زاوية غير مسبوقة، وهذا ما كان يفعله صاحب “بيارو المجنون” في أعماله التي وصل عددها إلى 140.
بعيداً من الاسطورة المرتبطة بفناّن يتعذّر تصنيفه، يحملنا الفيلم الجديد الذي اكتشفناه في مهرجان سالونيك الأخير للفيلم الوثائقي، إلى عوالم غودار المعقّدة والمتشابكة، وذلك انطلاقاً من أعماله الأكثر انحيازاً إلى التجريب والبحث والتنقيب في السؤال. يرتكز الفيلم بشكل خاص على أقواله: أقوال ذكية شاعرية لمّاحة تحض على التفكير وتشرّع أبوابا واحتمالات جديدة. تقع هذه الأقوال في خانة التنظير التي جعلت منه السينمائي الذي كان معروفاً ببلاغته. الفيلم يحاول أن يعطي جسداً لكلماته من خلال إعادة خلقها بصوت الممثّل دافيد لوغران الذي يستعيد صوت غودار، وذلك على نحو لا يحاول التقليد الممل بل يسعى إلى التأويل. هذا كله ينتهي بكشف الجوانب غير المعروفة من شخصية غودار الذي كان يقول الشيء ونقيضه في العديد من الأحيان. يقول صاحبا الفيلم أن عملهما مانيفستو يسمح بالتأويل انطلاقاً من مكانة غودار، من خلال سينما يمكن إعادة اختراعها بلا نهاية. فيلمهما محاولة للدخول في رأس غودار ومخيلته، قبل أن تصبح محاولة يائسة يعلنها الفيلم بنفسه.
كيف يمكن صوغ بورتريه لجان لوك غودار؟ أو بالأحرى كيف يمكن صوغ بورتريه لمنهجيته، لعالمه، لطريقته في بناء السينما أو تفكيكها، يكون على مستوى جرأته السينمائية وعبقريته؟ كيف يمكن أن يكون ذلك إلا من خلال المجازفة وتجربة أساليب لا تقل جذريةً عن طريقه ولا تحيد عن منهجه؟
ينطلق الفيلم من هذه الأسئلة لتصبح هي الهمّ الأكبر طوال 88 دقيقة. فلا يكفي إنجاز فيلم عن أكثر السينمائيين ثوريةً، بل الأهم الكيفية التي سيُنجز فيها. هذه الأسئلة ستتشابك بشكل معقّد في توليفة سينمائية يقول صاحبا الفيلم انهما على يقين من أن حتى غودار نفسه، الذي لم يكن يعجبه العجب، كان سيستمتع بها.
من خلال سيل من الصور واللقطات التي لا نأبه لنوعها طالما أنها تساهم في تشكيل البورتريه، يزج بنا الفيلم في مستودع التخزين الذي نُقلت إليه في العام 2010 الأرشيفات كلها التي احتفظ بها غودار في سويسرا. بعض المقتطفات من كتاباته وصوره تعطينا لمحة عن ميثولوجيته وتقنياته ونظرته المتفردة إلى العالم. أما دافيد لوغران فيتولّى دور مرشدنا إلى عالمه.
غودار سينمائي أداته الصورة لكنه مبهور أيضاً بالكلمات التي يطوعها لتتناسب ورؤيته للفنّ والوجود (وعلاقتهما أحدهما بالآخر) ولتخدم حريته كفنّان لا تحكمه قاعدة. يأخذ عبارة أرتور رامبو الشهيرة، “أنا هو آخر”، ليقول بها شيئا مختلفا عمّا قاله الشاعر الفرنسي. “هذه الجملة أجدها عبقرية وذلك منذ طفولتي، قبل أن أعي فجأةً أنها تشملني. نعم، أنا هو آخر، ولكن إذا أنا هو آخر، فمن أنا ومن هو هذا الآخر”؟
المواد التي استعان بها المخرجان لإنجاز الفيلم متوافرة في مخزن في مدينة غرونوبل الفرنسية. يروي آرنو كيف حصل عليها: “لم يكن من الصعب الوصول إلى ذلك المكان. ذهبنا بالسيارة والتقينا شاباً، ووافق أن نصوّر المكان. في البداية لم يُسمح لنا بأن نفتح العلب. النصّ أكثر جديةً من أقوال غودار. لا اعتقد انه كان في إمكانه أن يقوم بهذا العمل بهذه الجدية. هو غير قادر على نشر مانيفستو كهذا”.
أما زميله في الإخراج، فنسان سوريل، فيروي: “عندما باشرنا إنجاز الفيلم كان غودار لا يزال حياً، فكان اشتغالنا على هذا الفيلم فرصة لنذهب ونطرح عليه بعض الأسئلة. كما يعلم الجميع، لم يكن يحبّ أن يزعجه أحد، خصوصاً في السنوات الأخيرة من حياته، إذ كان يحب التركيز على عمله، لذلك كنّا نتساءل دائماً: “إذا وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه معه، فأي سؤال سنطرحه عليه؟”. كانت هذه لحظة صعب علينا التفكير فيها. كناّ نعي أنه قال أشياء مهمة وأحياناً متناقضة طوال حياته، وأهميتها طالت الأجيال التالية لجيله. قال أشياء كثيرة ضمن كتب وأفلام ولقاءات، وفيها ما يبعث على اللبس. لذلك وددنا أن يتحوّل كلامه إلى شيء مسموع. اشتغل آرنو على تجميع كلّ أقواله وعباراته الفصيحة التي كانت مهمّة في نظرنا. جمعنا كلامه انطلاقاً من معيار هو الآتي: يا ترى، هل هذا هو الكلام الذي كان قاله لنا غودار لو ذهبنا إليه؟ شيء آخر: لم نرد أن نذهب إلى غودار ونبدو مبهورين أمامه، بل ان نلعب بكلماته”.
يحاول الفيلم تدمير صورة غودار العامة في المخيلة السينيفيلية والإتيان بصورة أخرى له تتمحور حول الوحدة والشك، أي كلّ تلك الأشياء التي ما كان يظهرها في إطلالاته على التلفزيون أو خلال المؤتمرات الصحافية الصاخبة التي كان يعقدها أثناء مشاركاته المتكررة في مهرجان كانّ حيث كان يبث الشعور بثقة عالية في الذات، قبل أن يعتزل هذا كله ويسجن نفسه داخل جدران منزله في بلدة رول السويسرية. هذه الشخصية المنسحبة من الحياة العامة لطالما بحث عنها غودار، نرى شيئاً منها في الفيلم “إلى يوم الجمعة، روبنسون” لميترا فاراهاني.
في مطلع السبعينات كان غودار حاول أن يمعن في بعض العزلة، فقرر الاقامة في غرونوبل، حيث صوّر بعض أفلامه الوثائقية، وهي كانت بمثابة “عودة إلى الجذور”. في غرونوبل، صوّر فيلماً عنوانه “رقم 2″، عنوان لا علاقة له بمضمون الفيلم، لكن يمكن اعتباره رغبة في الانبعاث من جديد بعد مغادرته باريس واعتبار “مخطوف النفس” كـ”رقم واحد”. يقول فنسان سوريل عن هذا الفصل من حياته التي جاءت بعد انفصاله عن فرقة دزيغا فيرتوف: “أراد الانطلاق من الصفر، كان يرغب في أن ينسى الناس اسمه، وان يصبح الاهتمام به من أجل عمله لا من أجل النجاحات التي حقّقها في الستينات”.
إنها اذاً الحكاية الأبدية لفنّان لم يكتفِ بما لديه بل يتمحور وجوده برمته حول البحث عن التجديد والسؤال، محاولاً الفرار من فخّ التكرار والثوابت. طوال حياته سعى غودار إلى الإفلات من حيز الأمان الذي كان سيجد نفسه فيه بعد انطلاقته المدوية لو لم يعاكس نفسه أولاً، وهذا الحيز، في نظر فنّان متمرد مثله، أشبه بإصدار حكم بالإعدام في حق نظرته الفنية وتطورها عبر الزمن.
اقرأ أيضا: أفلام أنتظرها في كانّ: المشاغب كاراكس… ولقاء أخير مع غودار