الليل ملّاح
تايه سوّاح
لا بيوصل شطْ
ولا بيرتاح
الليل مشحون أسرار وشجون
وألم ونغم
وكاسات ونايات ودموع وآهات
وعِبَر وحِكَم
(أحمد فؤاد نجم 1964)
لنتفق في البداية على قواعد أساسية: أي مكان في الليل يختلف عن نفسه في النهار. أما لو كان هذا المكان هو السعودية، فالاختلاف يزيد كثيرًا في هذه الحالة، فكلما كان النهار منضبطًا متبعًا للقوانين والأعراف، كلما زادت الهوّة بينه وبين عالم الليل الذي وصفه أحمد فؤاد نجم ببراعة في قصيدته، عالم الأسرار والطرب، السكون والصخب، الشراب والألاعيب التي يجيدها قلّة تُنصبهم قدراتهم نجومًا لليل. غير أن هذه النجومية هشّة، غير دائمة، مرهونة “على كف عفريت” كما يكتشف أبو معجب، بطل حكاية محمود صباغ الجديدة ونكتشف معه.
«آخر سهرة في طريق ر.» هو الفيلم الطويل الثالث في مسيرة صانعه، المسيرة التي انشغلت منذ اللحظة الأولى بثنائية مثيرة للإعجاب هي ثنائية أنا/ نحن: الفرد في المجتمع السعودي المعاصر، بما له/ لها من سمات خاصة، من حس نزق وتمرد ابن العمر واللحظة التاريخية، في مواجهة المجتمع ككيان أكبر يضم الجميع، له سماته وأعرافه التي ظلت طويلًا راسخة، ثم جاء العقد الأخير ليُمطرها بوابل من التغييرات التي تضع كل تفصيلة حياتية محل تساؤل اجتماعي وفكري وأخلاقي. الإنسان السعودي وسعودية اليوم كانت ثنائية حاضرة في خلفية «بركة يقابل بركة» و«عمرة والعرس الثاني»، وها هي تظهر في صورتها الأوضح – والأمتع – في رحلة الرباعي المتبقي في فريق موسيقي قديم داخل ليل جدة الصاخب.
دون كيخوته جدّة
دعونا لا نقفز سريعًا إلى النتائج، ونحاول أن نتبع خطى المخرج الذي لا يلقي بكل أوراقه سريعًا، بل – على العكس – يدفعنا دفعًا لأن نكوّن تصورات أولية عن أبطاله، قبل أن تبدأ الأسرار في الانكشاف تباعًا، لنبدأ في إدراك الحقيقة التي يعلمها الجميع وينساها الجميع في آن واحد: أن البشر أكثر تعقيدًا من أي تصور سريع تكوّنه عنهم، مهما بلغ قدر فراستك.
البداية من أبو معجب، نجم البحري، قائد الدفة الذي يأخذ باقي الفرقة في رحلة محمومة، ظاهرها جمع مبلغ محدد من المال، وباطنها تحدي الزمن، وإثبات أنه لا يزال هو من هو. ملك الليل وأسطورة سهرات الطرب و”الوناسة”. نصف قدرة الشخصية على تحقيق مراد المخرج ينبع من اختيار عبد الله البراق للعب الدور، فتكوينه الجسماني الضخم، وملامحه الأقرب للعنف، وطبيعة الشخصية الجافة رغم احترافها للفن، كلها أمور تدفع المُشاهد لتكوين مشاعر سلبية نحو البطل في بداية الرحلة، فيكون بمثابة الخصم في حكاية كولا، المغنية الموهوبة الحالمة بما هو أكثر من قضاء الليلة في سيارة عتيقة تتنقل من زفاف إلى ختان لتجمع الفتات.
غير أن تحرك الأحداث إلى الأمام يجعلنا نتفهم أبا معجب شيئًا فشيئًا، وندرك ما يختبئ في ثنايا ما يفعله من حزن طفولي. حزن لا يُمكن وصفه بالنُبل لكنه ليس شريرًا كذلك. تُحرك نجم دوافع دون كيخوتية بحتة، نسبة إلى بطل ملحمة ثربانتس الذي خرج ليصنع مجده من محاربة طواحين الهواء. الطواحين هنا هي الخصم الذي تستحيل مواجهته: الزمن. نجم فاته قطار التغيير المنطلق بسرعة الصاروخ، ربما لأنه تربى في سياق مختلف له قواعد مغايرة، أو لأنه اختار في لحظة ما الانحياز لما يراه الأصح وإن خالفه الجميع، أو لأسباب أخرى إضافية ساهمت في تعقيد وضعه أكثر فأكثر.
ليست مجرد امرأة مقهورة
في المقابل نجد كولا (مروة سالم بأداء وحضور مُلفت) التي لا تُعاني من نفس الجمود والرفض لقواعد العالم الجديد، ربما لأنها لم تذق لذة الماضي كأبي معجب، فصار من السهل عليها أن تحلم بالمستقبل. ربما أيضًا لأنها بلا جذور كما سنعرف مع تقدم أحداث الفيلم، ليس لديها ما يربطها بهذا المكان أو ذاك. الوضع الذي يمنحها أسباب القوة والضعف في آنٍ واحد، فهي قوية لأنها قادرة في أي لحظة على ترك كل شيء، وهي ضعيفة لأنها لو فعلتها ربما لن تجد وجهة تأويها.
شخصية كولا هي الأخرى تتحدى التصورات الأولية، فإن اعتقدت في البداية أنها فتاة موهوبة ضعيفة مُكبّلة بسطوة نجم عليها، فسريعًا ما ستكتشف أن ذلك مجرد وجه واحد من وجوهها العديدة، فهي في النهاية ابنة ليل. امرأة لديها ألاعيبها وطريقتها الخاصة للتعامل مع الواقع. الطريقة تتضمن أن تكون أحيانًا مستكينة فترضى بأحكام نجم، لكنها بالتأكيد لا تقتصر على ذلك. وإذا كانت الجاذبية تقع في بقعة سحرية ما بين القوة والضعف، فإن مروة سالم تقف في هذه البقعة بالضبط، مقدمةً واحدة من أكثر الشخصيات الأنثوية التي شاهدناها في السينما السعودية نضجًا وتفهمًا لتعقيدات واقع المرأة في أي مكان بشكل عام، وفي السعودية بشكل خاص.
يأخذنا “آخر سهرة في طريق ر.” في رحلة لاكتشاف شخصيتيه الرئيسيتين عبر مواقف متوالية، نُسقط خلالها تصوراتنا الأولية ونبدأ في اكتشاف الوجوه العديدة التي يخفيها أبو معجب وكولا خلف صورتيهما النمطية المعتادة. رحلة الاكتشاف تُحقق لذة لمن يخوضها، لكنها في الوقت نفسه تُهدد من لم يتمكن من الانضمام إليها بشعور الاغتراب. عمومًا، يحتاج الفيلم وقتًا كي يأسرك داخل عالمه، ينمو معك ببطء. هذا فيلم قد لا تحبه في دقائقه الأولى وتشعر ببعض السخط تجاه شخصياته وتصرفاتهم، لكنك لو تمكنت من تجاوز هذا الشعور الأوليّ سيعوّضك لاحقًا بما يستحق الانتظار.
ضحية الانتقال المثالية
أبو معجب وكولا يُعبّران عن الطرف الأول من ثنائية أفلام محمود صبّاغ، فكلاهما هو “الأنا”، الفرد المليء بالتعقيدات والباحث عن الرضا في مطاردة أبدية محمومة. لكن القيمة الأكبر للفيلم لا تكتمل إلا بفهم الطرف الآخر للمعادلة: “نحن”.
رباعي الفريق الموسيقى يشكلون معًا مجتمعًا مصغرًا، لديه عقد اجتماعي يجمع أفراده الذين يمتلكون أهدافًا مختلفة يمكن تحقيقها بالبقاء معًا ولو لفترة. وهم جزء من مجتمع أكبر هو عالم الفن الليلي وأرباب الحفلات الصاخبة التي كانت تُقام سرًا فباتت تُنظم في العلن بتصريحات حكومية وفواتير رسمية وضرائب مسددة. وبالطبع كل هؤلاء جزء من كيان أوسع هو المجتمع السعودي الذي يخوض رحلة تحديث مذهلة السرعة، تثير الإعجاب قدر ما تثيره من تساؤلات حول قدرة الفرد على التعايش مع هذا التغيير العاصف الذي يحدث كل يوم.
في أي سياق آخر سيكون الصراع بين الماضي المُحافظ، الأكثر هدوءً وانضباطًا، وبين الحاضر الصاخب، الحافل بالكثير ممن لم يعتده غالبية البشر. لكن في حالة نجم تحديدًا يختلف الصراع الحاكم، الدائر بين قواعد الماضي وقواعد الحاضر. الماضي السري الذي كان الفنانون فيه مثل أبي معجب وفرقته: مغامرين رُحّل يطوفون سرّا بمعداتهم البدائية لإحداث الفرح والطرب، سابحين داخل بحر من المحرمات، تبدأ بالموسيقى ولا تنتهي بالخمر والمخدرات. هذا السياق هو ما منح نجم خصوصيته وسطوته التي خسرها مرة باختيار خاطئ، ويخسرها كل يوم في ابتعاد تدريجي عن مركز دائرة كان أحد المسيطرين عليها.
وإذا كانت أي عملية تحول لا بُد لها من بعض الضحايا الذين يسقطون خلال الانتقال، فنجم هو الضحية المثالية التي ترفض الاعتراف بالهزيمة، وهو في ذلك صورة مصغرة لمدينته، ففي أحد مستويات تلقي الفيلم يُمثل «آخر سهرة في طريق ر.» مرثية لمدينة جدة وفنانيها الذين كانوا ملء السمع والبصر حتى جاءت رياح التغيير فسحبت البساط من تحت أرجلهم. موسم الرياض هنا هو ذلك الحلم البعيد، “الندّاهة” التي تجذب الفنانين من كل مكان، فمن انضم لرِكابِها فقد فاز، ومن صمم على موقفه صار كأبي متعب: محارب لطواحين الهواء، يمكنك أن تتعاطف معه، لكن لا يمكنك إلا أن تعترف بحتمية ما جرى له.
خصوصية بصرية وهمّ شخصي
لا يكتمل الحديث عن «آخر سهرة في طريق ر.» بدون التطرق للعالم البصري الذي يخلقه المخرج، فحكاية كالتي رصدناها كان من الممكن أن تصير أدبية بامتياز لو تعامل معها مخرج آخر (وهي أدبية على مستوى ما لو فكرنا في رحلة كل شخصية على حدة)، لكن محمود صباغ يتمكن من أخذنا في رحلة بصرية بالأساس، كلمة السر فيها في المفاجأة والطرافة.
طبيعة العمل كفيلم طريق road movie تستلزم الانتقال بين أماكن عديدة بالغة التباين، بين المدينة والصحراء، المنازل الفارهة والحواري القذرة، مساحات السادة الآمنة وأزقة العالم السفلي التي يحكمها العنف والجريمة، الحفلات القانونية المقامة في العلن بتنظيم رسمي وتذاكر مباعة والسهرات الخاصة خلف أبواب مغلقة تُفتح فقط عند ترديد كلمة السر. هذا التنوع فخ كبير لو لم يتم التعامل معه ببراعة، لكن صبّاغ ينجح في أغلب التحديات فيجعلنا باستمرار مستمتعين بما نرى، متفاجئين، بل مصدومين منه أحيانًا.
لو وضعنا تلك الحالة مع ما شاهدناه مؤخرًا في أفلام أخرى مثل «مندوب الليل» و«ناقة»، قد يدفعنا هذا للتفكير في بداية ظهور ما يُشبه النواة لاتجاه سينمائي سعودي. لا يزال الأمر مبكرًا جدًا بطبيعة الحال، لكننا أمام ثلاثة أفلام متميزة، صنعها مخرجون شباب يقدمون خلالها نسخة أخرى لليل السعودية، تختلف عن كل الصور النمطية والتعميمات الدعائية. نسخة أجمل ما فيها كونها حقيقية، مليئة بالضعف الإنساني الذي اعتدنا كعرب أن نخفيه تحت دعاوى الحفاظ على سمعة البلاد وغيرها من العناوين الرنانة الخاوية من المضمون.
«آخر سهرة في طريق ر.» فيلم يأتي من صانع أفلام يُشعرك أنه يعرف عن عالمه أكثر بكثير مما تعرفه، ولا يكتفي بالمعرفة، بل يقوم بالتحليل ويأتي باستنتاج يجيد وضعه بين السطور لمن يريد أن يقرأه. فيلم مشاغب مصنوع بحب ممزوج ببعض المرارة، فلا أبالغ إن قلت إن مأزق أبي معجب يشبه من بعيد مأزق صبّاغ وجيله: الفنان الرائد الذي صنع نجاحه في سياق قديم، وها هو يحاول أن ينجح وفق القواعد الجديدة. لكن لحسن الحظ ينجح محمود صبّاغ فيما فشل فيه بطله، فيصنع فيلمًا معاصرًا، ممتعًا، يجمع تأملات الكبار بمشاغبات الشباب وتحررهم.
اقرأ أيضا: محمود صباغ: نعيش مرحلة مثيرة عنوانها الأبرز الانفتاح على ذاتنا وعلى الغير