فاصلة

مقالات

لُغز إيزابيل أدجاني

Reading Time: 5 minutes

غالبًا ما كانت إيزابيل ياسمين أدجاني (بالعربية عجّاني ـــ مواليد باريس عام 1955) تخرج عن نطاق السيطرة جسديًا وعقليًا، لتأخذنا عبر متاهات الروح البشرية المظلمة. إنّه الشغف الذي تضعه في شخصياتها بكثافة درامية، ويساعدها في تقديم شخوص نساء عصابيات، وهشّات، وغامضات، ومضطربات، ومعتلات، أو حتى غير مستقرات عقليًا.

هالتها الباردة والغامضة، وصورتها كدمية خزفية هشّة، التي تناقض شخصياتها السينمائية المجنونة والشرسة، ونظرتها، وصوتها الآسر والحسي أحيانًا، والهستيري في أحيان، كل هذا حوّلها إلى لغز سمّيَ «لغز أدجاني».

التمثيل بالنسبة إليها، يعني كشف جسمك وروحك، وإعادة اكتشاف تاريخ المعاناة الإنسانية وعنفها وظلمها ويأسها، والقبول بالشعور بها في العمق، أو كما تقول أدجاني بطريقتها: «عندما تلد شخصية، عندما تنزلق داخل جلدك، تصطدم بلحمها، بهيكلها العظمي، لأن الشخصية ليست فارغة، ولا جوفاء أبدًا. هي مليئة بما وضعه الكاتب والمخرج فيها… التمثيل يعني خلق الشخصية مما تحتويه وكل ما أضيفه إليها كممثلة، مع المخاطرة بأن يفيض هذا الأمر. الفن كله عبارة عن توازن محفوف بالمخاطر بين الكثير والأقل مما ينبغي، وهو توازن عليك أن تعرف كيفية كسره، لأنّ بعض الأدوار تتطلب أكثر من اللازم (فائضًا)، والبعض الآخر أقلّ مما ينبغي (نقصًا). نعم، إنه عمل محفوف بالمخاطر، كالمشي على حبل رفيع من دون شبكة أمان وأنت تنتعل كعب “لوبوتان” بطول 16 سنتيمترًا».

الفنانة «المتوّجة بقوّة القدر» كما قالت القابلة التي أخرجتها إلى النور، هي ابنة الألمانية الكاثوليكية إيما أوغستا شفاينبرغر، والجزائري المسلم محمد عجّاني اللذين التقيا في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما كان والدها يخدم في الجيش الفرنسي. نشأت إيزابيل في جينيفيلييه، وكان والداها يستخدمان اختلافاتهما العرقية والثقافية أثناء شجارهما لإهانة بعضهما! لكن هذه الاختلافات أغنت البنت الصغيرة. أثناء التحاقها بـ «مدرسة ألفريد دي فينيي الثانوية».

في عام 1969، تلقّت عرضًا من المخرج الفرنسي بيرنار توبلان ميشال، وظهرت للمرة الأولى في فيلمه La Petit Bougnat (1970)، وهي في الرابعة عشرة من عمرها.

Isabelle Adjani in Le Petit Bougnat (1970)

تدربت بعده كممثلة كلاسيكية في «الكوميدي فرانسيز» عام 1972، وتميزت بأدائها دور أنييس في مسرحية «مدرسة النساء» لموليير، ولكن سرعان ما تركت المسرح لتلتحق بالسينما. بعدما لعبت أدوارًا ثانوية في أفلام عدة، حققت نجاحًا متواضعًا في فيلم «الصفعة» (1974ـــ La Gifle) الذي شاهده المخرج فرانسوا تروفو، ومنه اختارها لتقديمها كبطلة في فيلمه «قصة أديل هوغو» (1975ـــــ The Story of Adele H). كان أداؤها في الفيلم مذهلًا حازت عنه ترشيحًا لجائزة أوسكار أفضل ممثلة وهي في العشرين من عمرها.

 إيزابيل أدجاني

كعادته، وقع تروفو في حبّ بطلته، ولكن أدجاني رفضت عرضه. كتب تروفو لاحقًا إلى صديق: «لقد ذكرت المتعة التي حصلت عليها خلال العمل مع إيزابيل. إنها عكس المتعة، إنها معاناة يومية بالنسبة إليّ، وتكاد تكون عذابًا لها. فمهنتها هي دينها، ولذلك تصويرنا هو اختبار للجميع. سيكون من السهل جدًا القول إنها صعبة، ولكنها ليست كذلك، إنها مختلفة عن جميع النساء في هذه المهنة». وعندما ترشحت للأوسكار، قال تروفو: «فرنسا صغيرة جدًا بالنسبة لها. إيزابيل صُنعت للسينما الأميركية». بعد ذلك، بدأت تتلقى عروضًا من هوليوود، لكن إيزابيل لم تكن ترى نفسها هناك، معلنةً أن هوليوود «مدينة وهمية»، وقالت: «أنا لست أميركية ولم أكبر مع الرغبة في الفوز بجائزة».

بعدما عملت مع رومان بولانسكي في فيلم «المستأجر» (1976 ـــ The Tenant)، وافقت على تصوير فيلم في أميركا هو «السائق» (1978 ــــ The Driver)، للمخرج والتر هيل، فقط لأنها كانت من المعجبين بفيلمه السابق قائلةً: «أعتقد أنّ هيل رائع، تمامًا مثل هوارد هوكس، رصين ومتقشف. القصة معاصرة، ولكنها أيضًا منمّقة للغاية، والأدوار التي نلعبها أنا ورايان أونيل هي مثل همفري بوغارت ولورين باكال. كلانا مقامران بأرواحنا، ولا نظهر عواطفنا ولا نقولها. بالنسبة إلينا، الكلام ليس له قيمة. أنا حقًا فتاة غامضة في هذا الفيلم، ليس لها اسم ولا ماضٍ. ويجب أن أقول إنّه من المنعش ألا يكون لي حياة ورائي، بهذه الطريقة، لن اضطر إلى البحث بعمق لتجسيد دوري. كل ما أعرفه أنّ حياتي هي اللعبة وأنني الخاسرة».

 إيزابيل أدجاني

«أنا متعصّبة، وشخصية خطيرة للغاية»، هذا ما قالته أدجاني لمجلة «بيبول» عام 1976، وكانت بالكاد قد تجاوزت سنّ المراهقة. «الكثافة هي كل ما يهمّ بالنسبة إليّ»، وقد تألقت هذه الكثافة المثيرة الفريدة في كل لحظة من مسيرة أدجاني السينمائية، سواء انغمست في الهذيان الأنثوي لكاميل كلوديل في «كاميل كلوديل» (1988ــــ Camille Claudel)، الذي منحها الترشيح الثاني لأوسكار أفضل ممثلة، أو في العاطفة الأوبرالية للملكة مارغو في فيلم «الملكة مارغو» (1994 ــــLa Reine Margot)، أو سكنت مع مصّاص الدماء في فيلم المخرج فيرنر هيرتزوغ «نوسفيراتو مصاص الدماء» (1979 ـــ Nosferatu the Vampire). في فيلم باتريس شيرو، يعد مشهد الزفاف وفستان أدجاني الأحمر الدموي مع عينيها الزرقاوين المذهلتين، إحدى اللحظات الفريدة في السينما. وقتها كانت إيزابيل في الأربعين من عمرها، وكان عليها أن تلعب دور شخصية في التاسعة عشرة من عمرها. كانت تذهب كل صباح يائسةً إلى مدير التصوير فيليب روسيلو وهي تشير إلى وجهها وتتنهّد: «انظر إلى هذه الفوضى يا فيليب!» ومن ثم خلال التصوير، تتأنق وتتألق في المشاهد القريبة وتعطينا كل عواطف الشخصيّة بلمحة عين وثبات وجه.

 إيزابيل أدجاني

ثم هناك فيلم «تملُّك» (1981ــــ Possession)، كابوس المخرج أندريه زولافيسكي، حيث قدّمت أدجاني أحد أكثر العروض العاطفية والجسدية غير العادية في السينما. أداء يمكن وصفه بالهستيريا الكاملة. هناك مشهد في الفيلم يعتبر أحد أهمّ المشاهد في تاريخ السينما، وهو رقصة الجنون التي تؤديها أدجاني في مترو برلين من دون تأثيرات بصرية كبيرة، حيث يكون جسد ادجاني فقط هو وسيلة اقناعنا. من الضحك الهستيري إلى البكاء، إلى الحركة المتقطعة للجسد التي تتجاوز حدوده، واجهت أدجاني إحدى أصعب اللحظات في حياتها المهنية. في المشهد المحزن والوحشي والمثير للاشمئزاز، انفصلت أدجاني عن نفسها، ودفعها زولافيسكي إلى أحضان المستحيل. زولافيسكي صارخ دومًا، لكن في هذه اللقطات، أظهر مع أدجاني سينما خارج كل الجماليات والزمن.

يتذكر زولافيسكي رد فعل أدجاني بعدما رأت أداءها في الفيلم قائلًا: «عندما شاهدت النسخة النهاية للفيلم، حبست نفسها في الحمّام وحاولت الانتحار، ولكن بشفرة حلاقة لا يمكنها أن تخترق جلدها بعمق. إنها تعشق الحياة، لذا لا أعتقد أنّها قادرة على قتل نفسها، لكنها كانت طريقتها في إظهار الصدمة التي سبّبها لها هذا الدور». كما اعترفت أدجاني أنها قضت سنوات في العلاج النفسي بعد الفيلم، لأنّ الحالة العاطفية التي وجدت نفسها فيها بعدما أعطت جسدها وروحها للفيلم، كانت مدمّرة. ولهذا لم تلعب شخصية مماثلة مرة أخرى في حياتها.

إيزابيل أدجاني الوحيدة الحائزة خمس جوائز «سيزار» عن التمثيل، كانت رمز السينما في الثمانينيات، كما كانت بريجيت باردو في الستينيات، وكاترين دونوف في السبعينيات. كانت السبعينيات جيدة بالنسبة لها، لكن العقد التالي، الثمانينيات، كان أفضل. وبدءًا من عام 2000 فصاعدًا، قلّصت عملها، وتعيش حاليًا في سويسرا مع عائلتها، لأنه إذا كان هناك شيء يميّز أدجاني، بالإضافة إلى موهبتها، فهو حماسها وحبّها لحياتها الخاصة. لقد أرادت دائمًا أن تكون حياتها الشخصية أفضل أسرارها. وكما هي الحال مع عملها كممثلة، فإن علاقتها بالموضة لم تمرّ من دون أن يلاحظها أحد. فهي أيقونة في إطلالاتها، عاشقة للأحجام المفرطة، ومجوهرات اللؤلؤ، وزخارف حجر الراين، واللون الأزرق، والنظارات الشمسية. لم يكن التباهي في إطلالتها غامضًا على الإطلاق.

Isabelle Adjani

هي من الممثلات القليلات اللواتي لا يختبئن خلف التصريحات المنمّقة، بل يحولن المقابلات إلى لحظات حقيقية من الإطالة والمتعة. كلمات أدجاني تتدفق على شكل تأملات عميقة، مرحة. تثير إعجابنا بالأهمية التي تتحدث بها عن مهنتها أو حياتها أو العصر الذي نعيش فيه. هي نوع آخر من النساء؛ قوية، مغرية، وقادرة على نقل كل المشاعر نحو العواقب النهائية بطرفة عين. إنّها لغز، لا ينبغي لنا أن نكتشفه، بل أن نراقبه بصمت على الشاشة. تجربة تحفّز الحواس، تحمّس العقول، توتر الأعصاب وتخلق كثيرًا من الفضول. تسمح لنا أدجاني بدخول عالمها من خلال عينيها فقط. هنا نلتمس اللجوء، ونلتقي مع أنفسنا!

اقرأ أيضا: «الإعدام شنقًا»… للموت ألف وجه

شارك هذا المنشور