فاصلة

مقالات

علامَ يضحك المصريون؟

Reading Time: 14 minutes

خلال عام 2022 أشرفت على استفتاء كبير نظّمه مهرجان الإسكندرية السينمائي لاختيار أحسن مائة فيلم كوميدي في تاريخ السينما المصرية، ساعدتني تلك الرحلة ليس في إعادة اكتشاف فن الكوميديا في السينما المصرية ومنحه ما يستحق من تقدير فحسب، ولكن أيضًا على إعادة النظر من زاوية نقدية لهذا الرافد الضخم الذي يضم ما يقارب الألف فيلم طويل، وتكوين فهم عام للأشكال الشائعة في الفيلم الكوميدي المصري.

صناعة الكوميديا في مصر تبدو في أغلب الأوقات عشوائية كليًّا، تحكمها مواهب ورغبات وأحيانًا نزوات النجوم، لكن النظرة المتعمقة تجده فنًا يقوم على بعض المعادلات السائدة التي تتكرر بتنويعات مختلفة، قمت باستخراج 14 شكلًا منها في هذه الدراسة. 

14 نوعًا، أو تيمة متكررة، أو اتجاه فيلمي يمكن رصدهم في الأفلام الكوميدية المصرية، مع التأكيد على أمرين أساسيين، أولهما أن هذا مجرد اجتهاد أولي مفتوح لمساهمة الجميع بالعثور على تصنيفات جديدة يمكن إضافتها للقائمة، أما ثاني الأمرين فهو أن الفيلم قد ينتمي لأكثر من نوع في الوقت نفسه، فالعمل الواحد قد يكون كوميديًا وغنائيًا معًا، أو يكون كوميديا أكشن، أو كوميديا رعب، أو أي مزيج آخر تنتجه عقول المبدعين. كذلك يمكن للفيلم الواحد أن ينتمي لأكثر من تصنيف كوميدي، وهو ما سنوضحه أكثر خلال المرور على الأنواع الأربعة عشر للكوميديا المصرية.

أولًا: الكذبة المتضخمة

تقوم كثير من أفلام الكوميديا المصرية على كذبة صغيرة تتفاقم لتبعات ضخمة، تُقدم عليها الشخصية الرئيسية لحل مشكلة أو الهروب من مأزق، أو حتى تكون الكذبة نتيجة سوء تفاهم لا يتم تصويبه، لكن ما يترتب عليها يجعلها تتعاظم ككرة الثلج حتى تصل بالدراما إلى نقطة اللاعودة. المثال الأبرز هو الفيلم الذي اختاره مصوتو استفتاء الإسكندرية كأحسن فيلم كوميدي مصري على الإطلاق، “إشاعة حب” لفطين عبد الوهاب، والذي يبدأ بكذبة صغيرة هدفها إيقاع فتاة في حب شاب بلا خبرات عاطفية، قبل أن تكبر الكذبة فتصير حديث المدينة، ثم تصل النجمة موضوع الكذبة لتزيد الوضع عبثيةً.

في “سكر هانم” لم يتخيل سكر أن موافقته على لعب دور العمّة العائدة من الخارج سيتسبب في هذه السلسلة من الأحداث والمطاردات الغرامية، وفي “الكيف” كل ما أراده صلاح أن يثبت نظريته حول الأثر المتوهم للمخدرات، ولو كان يعلم أن الخلطة التي صنعها ستنتهي به وقد صار مدمنًا وتاجرًا للممنوعات، لما أقدم عليها بالتأكيد. قس على ذلك ادعاء الطفولة في “صغيرة على الحب”، وادعاء الثراء في “أضواء المدينة”، وحتى إنكار العلاقة الزوجية بين الموظف والمديرة في “مراتي مدير عام”. أما الكذبة الأضخم فربما تكون اضطرار أحمد في “الإرهاب والكباب” أن يتعامل مع وزارة الداخلية وقوات الأمن باعتباره إرهابيًا، بينما كان الأمر مجرد ثورة غضب من مواطن يرغب في نقل أبنائه من مدرسة لأخرى.

تكمن الكوميديا في هذا النوع من محاولات الشخصية التعامل مع تبعات الكذبة غير المتوقعة، والتي كلما ازدادت عبثية ومفاجئة كلما صارت مادةً خام للمزيد من الضحك.

ثانيًا: الانتحال والتبديل

ترتبط جزئيًا بالنوع الأول، فكثير من الكذب يقوم على انتحال شخصية أو صفة غير حقيقية، كما أوضحنا في حالات مثل “سكر هانم” و”صغيرة على الحب”، أو في اثنين من أفضل أفلام نجيب الريحاني “سلامة في خير” و”سي عمر” بانتحاله شخصية تفوقه ثروة ومكانة للخروج من مأزق، أو في “30 يوم في السجن” الذي يقبل فيه أمشير أن يُسجن بدلًا من صديقه الثري مدحت الشماشيري. يكمن الفارق بين النوعين في أن منبع الكوميديا هنا هو الفارق بين تصرفات الشخصية الحقيقية، وبين ما يُفترض أن تتصرف به الشخصية المنتحلة، ولا مثال أفضل من “صاحب الجلالة” الذي يصير الشيّال فيه سلطانًا.

يظهر السلطان الحقيقية في الفصل الأخير من “صاحب الجلالة”، لكنه لا يملك مساحة كافية تجعلنا نعتبر العمل ينتمي لتنويعة لهذا الشكل الفيلمي، وهو الأعمال التي يكون الانتحال فيها متبادلًا، بأن تُجبر الظروف شخصيتين (يلعبهما نفس الممثل) على تبادل المواقع، إما لأسباب حياتية أو بسبب وفاة أحدهما. ففي “المليونير” يُقنع المليونير المحاصر بالديون المونولوجست الفقير أن يتبادلا حياتهما، وفي جزئي “أخطر رجل في العالم” يتم استغلال الشبه بين مستر أكس المجرم الدولي وبين الموظف المصري البسيط للإيقاع بالرجل الخطير. ولعل أطرف لحظات هذا الشكل هو عندما يستخدم ممثل قدراته ليؤدي أربع شخصيات دفعة واحدة، ففؤاد المهندس في “أخطر رجل في العالم” مثلًا يلعب في نفس الفيلم أدوار زكي/ إكس/ مفتاح ينتحل إكس/ إكس ينتحل مفتاح، ويجعلنا نفهم في كل مرة المقصود بتنويعات الأداء.

أما الحالات الإجبارية للتبادل بسبب الموت فنراها في “اللي بالي بالك” عندما يضطر اللمبي أن يعيش حياة الضابط الراحل رياض المنفلوطي، أو في “لا تراجع ولا استسلام: القبضة الدامية” عندما ينبغي على حزلقوم أن يعيش حياة المجرم الدولي أدهم، أو في “قلب أمه” عندما يكمل زعيم العصابة مجدي تختوخ حياته وهو يعيش بقلب أم مصرية أصيلة!

ثالثًا: العبور الجنسي

لا يقوم الضحك في “قلب أمه” على فكرة التبديل فقط، ولكن على كونه تبديل شخصية رجل مخيف بأم طيبة، أو بكلمات أخرى عبور مجدي تختوخ جنسيًا ليتصرف بصورة أنثوية أمومية أبعد ما تكون عن ذكوريته المفرطة. وهو أيضًا شكل دائم النجاح في الكوميديا المصرية رغم قلة عدد أفلامه نسبيًا، لكن أغلبها أفلام ناجحة محبوبة بسبب طرافة المأزق: رجل في جسد امرأة أو امرأة في جسد رجل.

ستجد التحول بصورتيه حاضرًا: حنفي الشاب الرجعي المتزمت يصير امرأة في “الآنسة حنفي” فيعرف خطأ ما كان يمارسه عندما كان رجلًا، وفوزية (أم رجلين حلوة) تثور على الظلم الاجتماعي فتنقلب لتصبح فوزي في “السادة الرجال”. العبور هنا حقيقي ومكتمل، ولعل هذا ما يُفسر القيمة الفكرية للفيلمين وما يحملانه من نقد اجتماعي وثقافي، بينما يأتي العبور في أغلب الحالات في صورة خدعة أو تظاهر بالانتماء للجنس الآخر كما هو الحال في “سكر هانم” أو في “للرجال فقط” عندما تنتحل المهندستان شخصيتي رجلين لدخول مهنة محرمة على النساء، أو عندما يختلق الشاب شخصية الخالة نوسة المشعوذة صاحبة الكرامات في “يا أنا يا خالتي”، وبنفس الطريقة وبنفس الممثل، يلعب هنيدي دور فتاة الليل في “جاءنا البيان التالي” في مشهد واحد لكنه مشهد لا يُنسى. أما بطلات “بنات العم” فتتسبب لعنة في تحولهن رجالًا.

يمكن أن نضم لهذه القائمة أمرًا نادر الحدوث، وهو أن يلعب ممثل رجل شخصية امرأة حقيقية، دون أي عبور جنسي، فقط لإظهار قدرته على لعب شخصية المرأة بشكل طريف، وهو ما نجح فيه تمامًا علاء ولي الدين عندما كان جواهر في “الناظر”، وكذلك محمد سعد الذي صنع من الخالة أطاطا في “عوكل” شخصية أيقونية لها حضورها المستقل خارج الفيلم في أعمال أخرى.

رابعًا: انقلاب الحال

من العبور الجنسي إلى العبور الطبقي، فلا يقل عن طرافة الرجل في جسد المرأة والعكس، أن نرى الغني في حياة الفقير أو العكس. لا نعني هذا تظاهر الفقير بكونه ثريًا أو العكس كما في “المليونير” أو “صاحب الجلالة”، فهي من أفلام الانتحال والتبديل كما أوضحنا، ولكن نعني أن يتغير حال الشخصية فعليًا، ففي “الأيدي الناعمة” تأتي ثورة يوليو لتطيح بمكانة البرنس شوكت وتدفعه لتبديل النياشين بالبطاطا والتعامل بتأفف مع من كان يراهم رعاعًا، وهو نفس الموقف الذي حاول صناع فيلم “ابن عز” أخذه لأقصى مداه الكوميدي فلم يحققوا النجاح المأمول، قبل أن يتم تنفيذه بنجاح أكبر في “إتش دبور”.

لكن انقلاب الحال لا يقتصر على فقد الشخصية للثروة والمكانة، وإنما يمتد إلى الثراء المفاجئ الذي يجعل البشر في حالة انعدام توازن للتعامل مع حالهم الجديد. هذا الصعود السريع هو جوهر فيلم “لعبة الست” سواء مع البطل أو مع زوجته، وهو أيضًا أساس الكوميديا التي صنعت شعبية سلسلة “بخيت وعديلة” عندما وجد “بخيت حنيدق المهيطل” و”عديلة صندوق” (بما في الاسم من دلالة طبقية) أنفسهما فجأة من أصحاب الملايين، وهي نفس الحكاية التي جرت قديمًا في مطلع الأربعينيات لمحروس الحلاق عندما ورث ثروة قريبه الشحاذ في “لو كنت غني”. وفي “التجربة الدنماركية” لا يزيد قدري ثراءً لكنه يزيد مكانة عندما يتم اختياره وزيرًا للشباب، بما يؤثر على علاقته الفريدة بأبنائه الأربعة.

نلاحظ هنا أنه وبعكس الأنواع الثلاثة السابقة التي تبدو فيها الأحداث عادةً خيالية بشكل طريف بعيد عن حياة المشاهدين، فإن انقلاب الحال أمر وارد الحدوث للجميع، أو على الأقل يحلم به (ويخشاه) الجميع، وهو ما يضفي على هذا النوع جاذبية خاصة مصدرها إسقاط الجمهور ما يراه على حياته الخاصة، فمن منّا لم يحلم أن يطلب ولو مرة تلك الوليمة الضخمة التي استأثر بها بخيت لنفسه؟

خامسًا: متاعب الحياة اليومية

يقودنا الإسقاط بين الجمهور والفيلم إلى نوع آخر من الكوميديا وهي الأعمال القائمة على متاعب الحياة اليومية للمصريين، فما من حياة تخلو من مواقف كوميدية، بل إن أحد صور التعايش مع الهموم هي السخرية منها، وهو ما يجعل هذه الأفلام -التي لا تحمل مواقف غريبة أو مغامرات مبالغ فيها- تحتفظ بقيمتها في أذهان المشاهدين إذا ما تمكنت من التعبير عنهم والتماس مع حياتهم بصورة أو بأخرى.

كلمة السر دائمًا ستكون العائلة وما يدور داخلها من مشكلات وشد وجذب ومواقف طريفة وحميمية، من “عيلة زيزي” التي يحمل الفيلم اسمها إلى عائلة الموظف المصري الأصيل في “أم العروسة” التي ستتطور مسؤوليتها مع قدوم “الحفيد”، من متاعب رجل الأعمال محمد الأسيوطي مع اختيارات بناته لأزواجهن في “يا رب ولد”، إلى متاعب الأولاد أنفسهم بعدما دخل والدهم مراهقة متأخرة فصارت العائلة مهددة في “رجل فقد عقله”، إلى العائلة عندما تتضخم لتصبح أكبر من الخيال في “عالم عيال عيال”، والذي طرح قضية تنظيم الأسرة بصورة كوميدية، تمامًا كما تعرض “غريب في بيتي” إلى أزمة السكن التي يستغل النصابون فيها حاجة الناس إلى بيت بأي ثمن. الصراع على السكن أيضًا كان موضوع “الشقة من حق الزوجة” الذي استمد عنوانه من تشريع قانوني.

أزمات الزواج وكيف يمكن للعقلانية أن تقود إلى قرار جنوني في “سيداتي آنساتي”، ومشكلة التعلق المرضي بين الأب وابنته في “عريس من جهة أمنية”، إلى الكبت الجنسي الذي يسيطر على الشباب ويرتبط بشعورهم بالإحباط ومرور الحياة هباءً في “فيلم ثقافي”، دون أن ننسى أن “مراتي مدير عام” هو الآخر فيلم عن متاعب الحياة اليومية في الأسرة المعاصرة، حتى لو قامت حكايته على كذبة متضخمة.

القاسم المشترك بين هذه الأفلام هي أن الكوميديا تنبع فيها من مواقف الحياة اليومية، قد يتم تضخيم هذه المواقف ودفعها لحدها الأقصى بغرض الإضحاك، لكن يظل الأساس هو علاقتها بما يعيشه الجمهور في بيته وعمله وجامعته وشارعه.

سادسًا: ألاعيب الحب والزواج

لا يبتعد كثيرًا عن النوع السابق، لكنه نوع يطرح أسئلة وفرضيات درامية تتعلق بالعلاقات العاطفية بالأساس، سواء كانت علاقات ما قبل الزواج (تنتهي عادة بالوصول إليه)، أو بما يحدث لهذه العلاقات بعدما يرتبط أطرافها برباط الالتزام والمسؤولية. من مغامرات (واحد صاحبي ما تعرفوش) المتتالية في “البحث عن فضيحة”، إلى قرار حواء أن تؤدب آدم المزواج في “الزوجة 13″، أو الحكاية العكسية لترويض شابة متمردة في “آه من حواء”، أو المعركة المتكافئة بين طرفين لا يقل أحدهما حيلةً عن الآخر في “أنت حبيبي”.

لا يمتلك هذا النوع نفس الجذور الواقعية التي تجعل أفلام متاعب الحياة اليومية قيِّمة فنيًا ووثيقة الصلة بالمجتمع المحلي، بينما يتشابه هذا النوع عمومًا مع ما يعرف في هوليوود بكوميديا الكرة الملتوية Screwball Comedy، وهو نوع يحتمل الكثير من المبالغات والافتراضات غير الواردة في الواقع، مثل الهوس المرضي بالأحذية الذي يؤدي لعلاقات عاطفية عابرة للقارات في “مطاردة غرامية”، أو التنظيم الخفي الذي يلبي للرجال المتزوجين نزواتهم في “نادي الرجال السري”، نجد متاعب ما بعد الزواج أيضًا في “البعض يذهب للمأذون مرتين”، والذي تم استلهام عنوانه المميز في فيلم جديد أقل تأثيرًا وقيمة هو “البعض لا يذهب للمأذون مرتين”، وإن دار داخل نفس العالم محتفظًا بهامش رحابة الخيال وعدم الالتزام بقيود الواقع.

يندرج تحت هذا النوع أغلب الأفلام التي يحاول فيها بطل الوصول لقلب حبيبته، سواء كان ذلك في صورة فيلم كلاسيكي من ثلاثة فصول مثل “ظرف طارق” (وهو أيضًا من أفلام الانتحال)، أو في صورة أنطولوجية تقسم الفيلم الواحد إلى حكايات قصيرة متعددة مثل “طير أنت”.

سابعًا: الأنطولوجيا الكوميدية أو الاسكتشات

كما أوضحنا يُمثل “طير أنت” أحد أبرز أمثلة هذا النوع الذي لم يتكرر كثيرًا في الأفلام المصرية، لكنه حقق في كل مرة نجاحًا وشعبية تؤكد قدرته على إضحاك المصريين. ففي “طير أنت” يظهر العفريت مارد للطبيب الخجول بهيج، ليدخله سبع مغامرات متتالية يحاول في كل منها الوصول لقلب الفتاة التي يحبها. سبعة هو أيضًا عدد المواقف التي يختلقها البائع الشعبي لبلب ليربح رهانه مع شمشون (الذي صار عنترًا) ويضربه سبعة أقلام تضمن له الاحتفاظ بحبيبته لوزة.

ذكرنا أيضًا فيلم “البحث عن فضيحة” الذي يتغير فيه البطل في كل حكاية، ليصنع أنطولوجيا حقيقية تجمع قصص قصيرة تروي كل منها حكاية فشل رجل في خطة للزواج. وهو البناء الذي لا يبتعد كثيرًا عن فيلم “جاءنا البيان التالي” الذي يستفيد من عمل بطله نادر كمراسل تلفزيوني، ليأخذه ومنافسته اللدود عفت من مكان لمكان ومن موقف لآخر، يعبران خلال تلك المواقف على عدد من القضايا الملحة في المجتمع، في صورة مثالية لكون الفيلم مضحك، ثري بالمواقف والأحداث، ويحمل قيمة فكرية ومجتمعية في الوقت ذاته.

ثامنًا: الفرضية الخيالية

إذا كان النوعان السابقين متصالحين مع بعض المبالغة في الخيال، فإن كثير من الأفلام الكوميدية المصرية تجاوزت ذلك لحدود الفرضية الخيالية، أو ما يُسمى في الأدبيات السينمائية بالمفهوم المرتفع high concept، والذي ينطلق فيه الفيلم من فرضية مستحيلة الحدوث، ويبدأ في تخيل الواقع بناء على تلك الفرضية. تكمن الكوميديا هنا في مد الخطوط على استقامتها ومحاولة توليد أكبر قدر من المواقف والنكات من تلك الفرضية الواحدة التي يقوم عليها الفيلم.

قد تكون الفرضية قدرة خارقة يكتسبها البطل كالقدرة على الاختفاء “سر طاقية الإخفاء”، أو على قراءة الأفكار “الحاسة السابعة”، أو على بيع الأخلاق في صورة حبات يتناولها البشر فتغير شخصياتهم في “أرض النفاق”. قد يكون انتقالًا زمنيًا للمستقبل كما في “عروس النيل” أو للماضي كما في “سمير وشهير وبهير”. وقد يكون واقعًا افتراضيًا تغيرت فيه طبيعة العالم لوضع غير معتاد كالصقيع الذي تعيش فيه مصر ضمن أحداث “حملة فريزر”، أو بوباء العجز الجنسي الذي أصاب الرجال المصريين في “النوم في العسل”.

يمكن أن نضم هنا أيضًا أغلب أفلام العبور الجنسي، خاصة التي يتم فيها العبور بشكل مفاجئ وصادم مثل “بنات العم” و”السادة الرجال” و”قلب أمه”. كذلك نضيف أفلامًا ليست خيالية بمعنى استحالة حدوثها، ولكن في انخفاض احتمالية وقوعها جدًا، كأن يفاجأ رجل أن منزله صار في نفس بناية السفارة الإسرائيلية “السفارة في العمارة” أو أن يتم تسجيل ثلاثة توائم تحت اسم واحد “كده رضا”.

التحدي في هذا النوع يكمن في أن الفكرة الأولية جذابة جدًا، بما يجعل من الضروري أن يتمكن العمل من مواكبة قوتها على مدار أحداثه، لا أن يكتفي بجاذبية الفكرة ولا يتمكن من البناء عليها وتقديم كوميديا ناجحة.

تاسعًا: البيئة المختلفة

في أغلب أفلام الفرضية الخيالية يكون العالم غريبًا على المشاهدين وفي هذه الغرابة تكمن الطرافة والكوميديا، أما في النوع التاسع فإن العالم لا يكون غريبًا على الجمهور وإنما غريب على الشخصيات، التي يتم انتزاعها من عالمها لتدخل عالم لا تعرفه فتتصرف بالطريقة التي اعتادت عليها، ليأتي الضحك من هذه التصرفات وما يترتب عليها بناءً على معطيات البيئة الجديدة.

بدأ الأمر ربما من “غزل البنات” الذي يعجز فيه الأستاذ حمام عن تقييم الأشخاص الذين يقابلهم بسبب انتقاله من بيئته الفقيرة إلى عالم السراي، فيقع في مواقف طريقة متتالية، واستمر من حينها بتنويعات مختلفة، فنجد القروي أو الصعيدي الذي ينتقل إلى القاهرة فيصطدم بعالمها في أفلام مثل “العتبة الخضراء” و”صعيدي في الجامعة الأمريكية” و”هنا القاهرة”. ونجد العكس في مصري، المواطن الأمريكي الذي يعود لجذوره في “عسل أسود”. السفر إلى أوروبا يأتي محملًا بالمواقف الطريفة والمغامرات في “عنتر شايل سيفه” و”همام في أمستردام” و”عوكل”، ثم تأتي موضة للسفر شرقًا في “فول الصين العظيم” و”جحيم في الهند”، وحتى إلى العراق وقت الغزو الأمريكي في “معلش احنا بنتبهدل”.

الملاحظة هنا أن كل هذه الأفلام يجمعها عادةً نسق درامي واحد، وهو أن البطل الذي ينتقل إلى البيئة الجديدة، والذي يتعامل في البداية بسذاجة وسلامة نيّة توقعه في أزمات، سرعان ما يكتشف جوهره عندما يوضع على المحك، فيتمكن ليس فقط في أن يثبت جدارته بالوجود في العالم الجديد، بل ويتفوق على أصحاب هذا العالم فيغدو من الناجحين بينهم. قصة صعود من النوع الكوميدي الذي تنفجر الضحكات في فصليه الأول والثاني ثم تأتي الحكمة والنضج في الفصل الثالث.

عاشرًا: النسخة المصرية

إذا كان البطل في النوع السابق يتحرك من بيئته ليدخل بيئة جديدة، فإن النوع العاشر يأتي بالبيئة الخارجية ليضعها في السياق المصري، مقدمًا نسخة مصرية الطابع من أنواع فيلمية عالمية، لتكمن الكوميديا في المسافة بين ما نتوقع مشاهدته عادةً في هذا النوع من الأفلام، وما يسفر عنه إحضاره إلى مصر بكل ما فيها من تناقضات وعجائب. “العميل رقم 13” يخلق بطل جاسوسية مصري جدًا يطارد العصابة بصحبة أمه وخطيبته، بينما نشاهد في “لصوص ولكن ظرفاء” فيلم سرقة Heist movie على طريقة لصوص بلدنا، أما العصابات والجريمة المنظمة فنجدها في أكاديمية الجريمة التي تنتمي لها بطلة “الشيطانة التي أحبتني”.

“البحث عن فضيحة” مجددًا نموذج واضح لم يتم فيه الاكتفاء بتمصير هدف البطل من رغبته في خيانة زوجته في الأصل الأمريكي إلى الرغبة في الزواج في الفيلم المصري، بل امتد الأمر لخلق حكايات بالغة الطرافة والمحلية. نلاحظ هنا الفارق بين الفيلم وبين عمل آخر مأخوذ عن أصل أمريكي وهو “غريب في بيتي” الذي لا يمكن أن ننسبه لهذا النوع. ففي “غريب في بيتي” يتم تمصير القصة بشكل جاد وإن تم الاحتفاظ بطبيعة الحكاية الكوميدية، أما في “البحث عن فضيحة” فالجانب الأكبر من طرافة الفيلم تكمن في الشخصيات والعالم المحلي الذي تدور فيه الحكاية. أي أن هناك مستوى لتمصير الحكايات الكوميدية بشكل منضبط، يليه مستوى تقديم “النسخة المصرية” عبر بناء متماسك مخلص للنوع لكنه منغمس في طرافة العالم المحلي. تذكر المستويين جيدًا لأن النوع التالي سيترتب عليهما.

حادي عشر: المحاكاة الساخرة أو البارودي

يفضل المؤرخون بدء حكاية هذا النوع، والذي تبلغ فيه السخرية مستوى أعلى يتم فيه التعامل مع كل شيء باعتباره مادة للسخرية، من الأفلام القديمة إلى الموسيقى والثقافة الشعبية وغيرها، من ظهور فيلم الهواة “رجال لا تعرف المستحيل” الذي صنعه مجموعة من طلبة الهندسة ليقدموا نسخة ساخرة من الفيلم الوطني “الطريق إلى إيلات”، كانت مفتاحًا لظهور الثلاثي الكوميدي أحمد فهمي وهشام ماجد وشيكو على شاشة السينما، لكن الحقيقة أن السينما المصرية استخدمت حيل المحاكاة الساخرة أو “البارودي” في مرات عديدة، أغلبها كجمل ضاحكة أو “إيفيهات” كأن يقول الشاويش عطية عن الجندي الجديد إسماعيل يس “هو بعينه بغباوته بوشه العكر”، أو أن يرفض فريد شوقي خدعة زكي رستم في “رصيف نمرة 5” عندما يتظاهر بالصلاة فيقول له “لا ده أنا عاملها قبلك”، في إشارة لطريقة هروبه في “حميدو”، هنا يكسر الفيلم الإيهام ويترك الحكاية ليستدعي فيلمًا آخر وشخصيات أخرى بغرض مداعبة الجمهور، ومن البديهي أن شخصًا لم يشاهد “حميدو” أو فيلم إسماعيل يس الأسبق لن يفهم الجملة ولن يجدها مضحكة.

أما أخذ البارودي إلى مستوى أعلى ليكون موضوعًا للفيلم نفسه فقد صنعها حسن الصيفي في فيلم مدهش هو “ابن الحتة”، الذي يسخر فيه فريد شوقي من نفسه، فيلعب دور فريد شوقي النجم الشهير الذي يحبه الناس ويكرهون التعامل معه، ويلعب أيضًا دور دوبلير (بديل) فريد شوقي الذي تأتيه فرصة ذهبية عندما يموت النجم في حادث ويضطرون للاستعانة به مكانه، إي إننا أمام مزيج بين فيلم البارودي وفيلم الانتحال والتبديل. عمل رائد منسي في تاريخ السينما المصرية، كنا في حاجة لمرور عقود يعده حتى يأتي الثلاثي ومعهم أحمد مكي لإعادة بعث نوع البارودي وجعله اتجاهًا سائدًا له نماذجه العديدة.

ظهور أحمد السقا بشخصيته الحقيقية وفيلم عنترة ابن شداد وكل ما يتعلق بالماضي السينمائي في “سمير وشهير وبهير”، السخرية من أفلام الرومانسية والأفلام الهندية ومن برامج الإذاعة العاطفية في “طير أنت”، ثم من أفلام الأكشن في “لا تراجع ولا استسلام: القبضة الدامية”، ثم مزيج بين نوعي (النسخة المصرية والمحاكاة الساخرة) في “الحرب العالمية الثالثة” الذي يصنع نسخة مصرية من فيلم أمريكي ثم يغمسها في ذاكرة المشاهد وعلاقته بالشخصيات التاريخية، وغيرها من الأفلام التي انتهجت نفس النموذج كليًا أو جزئيًا.

ثاني عشر: القدرات المحدودة

هي أحد الروافد الكلاسيكية للكوميديا: أن يُضحى المُضحك بكبريائه ويظهر في صورة شخص محدود القدرات، غبي أو ساذج، لتنطلق الكوميديا من تعجب الجمهور من تصرفاته، وامتزاج شعور الشفقة بالسخرية باطمئنان المُشاهد أنه لن يتصرف بهذه الطريقة إذا ما وُضِع في نفس الموقف. الشكل الذي قامت عليه شعبية إسماعيل يس وكان قرينًا بكل أفلامه تقريبًا، والذي تجد تجلياته في شخصية “اللمبي” التي حققت نجاحًا مدويًا عندما ظهرت في “الناظر” ليبدأ من خلالها محمد سعد مساره كنجم شباك، كذلك في شخصية حزلقوم التي انطلقت هي الأخرى من “لا تراجع ولا استسلام” لتصير علامة مسجلة.

سلطان الذي يشهد اسم الفيلم عليه “غبي منه فيه”، ومنصور الساذج الذي يرث فريق كرة في الدوري الممتاز فيحاول أن يديره بقدراته المحدودة في “4-2-4″، وعبود السمين غير اللائق طبيًا للجندية والذي يجد نفسه فجأة مجندًا في قوات الصاعقة في “عبود على الحدود”، ودائمًا ما ينتصر البطل محدود القدرات على وضعه، مستعينًا بطيبة قلبه وسلامة فطرته، ليتصرف في النهاية بطريقة سليمة (ومضحكة غالبًا) ويخرج فائزًا على عكس المنطق. السينما المصرية كانت كريمة عمومًا في هذا النوع الذي ربما كان أول أبطاله هو عثمان عبد الباسط أو علي الكسار الذي طالما خرج من مآزق يستحيل منطقيًا أن يخرج منها رجل بهذا القدر المتدني من الذكاء.

ثالث عشر: القدرات الفائقة

إذا كان الكسّار هو النموذج الأولي للبطل محدود القدرات، فنجيب الريحاني كان إرهاصة النموذج العكسي: البطل الذي يحمل قدرات فائقة وذكاء أعلى ممن حوله، لكن ظروفه تضعه في حالة سيئة وتدفعه لاستخدام قدراته للتعايش مع الواقع المحيط. شخصية أرساها الريحاني وهو يشرح لعباس فارس طريقة “بحبحة” الحسابات بطريقة قانونية في “أبو حلموس”، ليمتد أثرها لنرى صورتها الأكمل في ألاعيب “الأفوكاتو” حسن سبانخ في فيلم رأفت الميهي الشهير.

وكما كانت الشخصية محدودة القدرات قرينة مسيرة إسماعيل يس وصورته الذهنية الدائمة، فإن البطل فائق القدرات، الأكبر من الحياة larger than life بالتعبير الأمريكي، كان المقابل الموضوعي لشخصية عادل إمام السينمائية، سواء كانت القدرة الفائقة هي الدهاء والتمكن من ألاعيب القانون في “الأفوكاتو” و”طيور الظلام”، الثراء الفاحش في “مرجان أحمد مرجان”، ودائمًا الذكاء وخفة الظل الفطرية كما نرى في “واحدة بواحدة” و”النوم في العسل” وغيرها من الأفلام التي صنعت أسطورة الزعيم والبيرسونا persona السينمائية الخاصة به. 

نرصد صورًا أخرى للشخصيات فائقة القدرات، منها مستطاع بطل “البيضة والحجر” يستعين بذكائه ليصير أشهر مشعوذ في البلد. وبشكل عام تُكوّن هذه الأفلام علاقة مختلفة مع الجمهور، فبدلًا من الشفقة والسخرية من أصحاب القدرات المحدودة، يصبح هدف الفيلم أن يجعل المُشاهد ينبهر بالشخصية، تفاجئه قراراتها وقدرتها على التعامل مع المواقف بطريقة لا يقدر عليها الإنسان العادي، فتكون علاقة انبهار وإجلال وشعور بأن هذا الشخص يحقق لنا انتقامًا ما من الأشرار أو أصحاب السلطة أو أي ظالم آخر.

رابع عشر: المأزق أكبر من القدرات

نصل للنوع الأخير في هذه القائمة التي ستحتاج بالتأكيد لمراجعة وتصحيح وإزادة، وهي الأفلام التي لا يكون البطل فيها محدود القدرات بطبيعته، لكنه يوضع داخل مأزق يفوق قدراته بكثير، لم يكن يتخيله، فتضطره الظروف للتعامل معه ودفع حدود قدراته لمداها. لاحظ أن البطل هنا لا يقل ذكاءً عن أي من المشاهدين، لكنه ليس بالغ الثقة في نفسه قادر على التعامل مع كل المواقف كذلك. هو رامي قشوع “بطل من ورق” المؤلف الناجح الذي لم يكن يتخيل أن تتحول رواياته إلى حقيقة، وهما سلماوي وميما “رشة جريئة” الممثلان الموهوبان الباحثان عن فرصة ليجدا أنفسهما مجرمين مطاردين من الجميع، وهو أحمد “الإرهاب والكباب” الذي يتورط في عمل إرهابي لكنه يتمكن من الخروج منه سالمًا ومقدرًا من كل من قابلوه.

ربما تكون هذه هي الصورة الذهنية المقابلة لكثير من أفلام فؤاد المهندس، الذي كان مفتونًا أيضًا بفكرة الانتحال والتبديل، لكنه في أفلامه دائمًا سواء احتوت على عنصر التبديل مثل جزئي “أخطر رجل في العالم” و”فيفا زلاطة” أو لم تحتويه مثل “شنبو في المصيدة” و”سفاح النساء” دائمًا ما يلعب دور الرجل المتوسط average man، ليس منخفض أو مرتفع الذكاء، مجرد رجل آخر يفزع عندما يعرف الورطة التي دخلها، لكنه يتمكن بطريقة ما من خوض التحدي والنجاح فيه، لتكون علاقة الجمهور معه مختلفة مرة أخرى عن النوعين السابقين، بقدر أكبر من التماهي، فإذا وضعنا الأبطال الثلاثة في نفس الموقف، سيقول “اللمبي” جملة غريبة لا تستقيم منطقيًا كي نقولها، وسيقول “الأفوكاتو” جملة ساخرة لاذعة تلخص العالم بذكاء، بينما سيقول “شنبو” الجملة الأقرب لما سنقوله نحن مكانه.

ولعل هذا التنوع في أشكال التفاعل، وفي ردود فعل الشخصيات، وفي أشكال الأفلام الكوميدية المصرية التي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، أمور تخبرنا الكثير عن قيمة هذا الفن المدهش المسمى بالكوميديا المصرية، أكثر روافدنا السينمائية شعبية، وأكثرها أصالة ومصرية، فإذا كان بإمكانك أن تنال إعجاب النقاد وتقدير المهرجانات بأسلوب مُنتحل من السينما الفرنسية أو تأثر بالواقعية الإيطالية الجديدة، فإنك لن تتمكن من فك شفرة ضحكات الجمهور إلا لو كنت مصريًا تمامًا، حتى عند تقديم قصة مقتبسة. إنه فن واسع ثري شمل كل شيء وسخر من كل شيء، ولم ينل منّا إلا أقل مما يستحقه من تقدير.

اقرأ أيضا: سينما الكوميديا.. زيارة نقدية

شارك هذا المنشور