قد يكون الموضوع صادمًا لكثير من عشاق فيلم لالا لاند، لهذا أبدأ بتقديم اعتذار جمالي مدعم بحجة الأذواق التي هي معيار الفنون الأول على مر التاريخ. لقد صدمني هذا الفيلم من قبل أن أراه وجعل بيني وبينه حاجزًا نفسيًا بشكل استباقي لم أستطع تجاوزه لا بالنقد المنهجي ولا العاطفي ولا الانطباعي.
قبل إطلاق “لالا لاند” في الصالات، سبقه صدىً واسعٌ قبل الصوت، ومهدت له حملات إعلامية وإعلانية هائلة وموجهة لمحبي الموسيقى والسينما والكتابة معًا، وأنا “زبون” مخلص لكل ما تقدم، ولكن لأنني مشتغل باللغة واللسانيات، حاولت التملّص من الادعاء المشغول بعناية ومجانية في اسم الفيلم، وتكرار حرف الـ “L” المستخف بالمشاهدين قبل عرضه، ولكن لم أستطع التواصل مع العنوان على نباهته وعبقريته كما وصفها البعض، لا قبل إطلاق الفيلم ولا بعده.
قلت إنه فيلم موسيقي، هوّن عليك، واللام هنا ما هي إلا اسم نغمة موسيقية تكمل وقع الاسم الحالم للفيلم. ولكن حدسي للأسف كان أقوى مني، وحكمي الأولى كانت أصدق من الأدلّة التي ساقها الفيلم باحتراف وجمال. ولكن في المجمل، لم أحبه، وكلما لمحته على شاشة أفلام الطائرة التي تنقلني من بلدٍ إلى بلدٍ أجرّب أن أحبه مجددًا، ومجددًا أفشل.
السينما، من وجهة نظري، قصيدة شعرٍ طويلة أو قصيرة لا فرق، مديحٌ أم هجاء، ضحك أم بكاء، لا فرق طالما أنها “شعر”، أي: صورة ومعنى وبلاغة بصرية ولفظية، ونتيجة أصل لها وفق تناغم سمعي وسلاسة الصدق والموهبة. ولهذا دومًا أهتم أين وكيف ومتى أشاهد فيلمًا كبيرًا أترصّده وأريد أن أتوغّل به.
رأيت لالا لاند بالسينما كما هو المفروض، وذلك من أجل الصوت والتأثير النفسي والبصري. لم أكن متحمسًا للفيلم ضمنيًا إذ أنني لا أحب إيما ستون وريان جوسلينج بما فيه الكفاية ولا أراهما موهوبيْن بالقدر الناجز لتحريك فيلم موسيقي بهذا الإنتاج الضخم.
الفيلم أفلت يدي منذ البداية. إنها أكثر بداية مملة في تاريخ السينما، وأكثر 15 دقيقة غير جذابة رأيتها في فيلم. ولأن السينما شعر بالنسبة لي كما ذكرت، فأنا مولعٌ بالمطالع! كان المطلع ضعيفًا جدًا. البيت الأول في تلك القصيدة لم يقتلني بضربة سيف ويشدني من ياقتي لأكمل. ولكن أكملت بكل اهتمام، فحتما أنا مخطئ بعد كل هذا الضخ الإعلامي.
إيما وريان، ثنائي رائع بعيدًا عن (لا محبتي)، جميلان ويمتلكان أصواتًا ساحرة في الحوار، ولكن في الغناء… لا يا ربي! كانا ضعيفين جدًا وفي مساحة ما مضحكيْن. ورغم أغاني الفيلم (المليحة)، ولكن لم أستطع أن أقع بغرام تلك الأغاني إلا حينما سمعتها لاحقًا بأصوات قادرة. أما عن الرقص، فلن أتحدثّ. لقد كان سيئًا للغاية وهو كسرٌ في عروض الشعر وإيقاعه.
المشكلة، أن فيلم لا لا لاند أصبح قضيتي، أصبح معيارًا لذائقتي “الفاسدة” التي يقهرها فوز الفيلم بجوائز جديدة كل مرة كل مرة! أين الخلل؟ رأيته أكثر من مرة وفي أكثر من مكان وزمان وظرف ولم يتغير شيء على الإطلاق.
أنا مولعٌ بالفساتين الصفراء، وهو مفردة شعرية أستخدمها باستمرار، في أغنية A lovely night تغني إيما وترقص بفستان أصفر على واحدة من أجمل الأغاني وكانت مثل الحلم تطل فجرًا على المدينة. هذا المشهد هو الأقرب لنفسي في الفيلم، ولكن للأسف الرقص مجددًا كان كسرًا لم يمكّنني من تجاوزه، رغم أن قلة احتراف الرقص لدى البطلين جزءٌ من سياق الفيلم. ولكن تعال! لا يكفي القول إن موسيقي الجاز الطموح والممثلة الشغوفة “الله يعطيهم العافية” تدربا ورقصا كما يجب لاثنين في أول الطريق. لا طبعًا. لا يكفي لفيلم بهذا الحجم والضخ الإعلامي و”الجوائزي”، فقد كان الموسيقي والممثلة يرميا أطرافهما كيفما اتفق أثناء الرقص الذي تراه في أي عرس شعبي! كيف لي أن أقارنه مثلًا بفيلم أسطوري كلاسيكي أنتج في الخمسينيات، وأعني فيلم “الغناء تحت المطر”، والذي عملت فيه ديبي رينولدز الممثلة “الخام” ذات الـ 19 ربيعًا ثلاثة أشهر قبل الفيلم ليلًا نهارًا مع أحد عباقرة تصميم الرقص والاستعراض “جين كيلي” الذي أدمى قدمي ديبي وظلت لعامٍ كامل لا تستطيع المشي بشكل مريح؟! كيف لي أن أقارنه سواءً بالقصة أو بالسيناريو والحوار أو بالفنيات والتنفيذ؟
ومن ثم، وبمثابة مخرجٍ فلسفي مقنع، فيلم “لالا لاند” كدلالةٍ ثقافيةٍ ونسقٍ مضمر؛ يختطف الجاز من بين يدي “الرجل الأسود” بشكل أو بآخر، ويحاول رجلٌ أبيضٌ إنقاذه… إنه فيلم “هوليودي” وأبيض معًا! لهذا أنا مرتاح جدًا بـ “لا محبته” رغم أنف كل الجوائز والمراجعات النقدية.
اقرأ أيضا: «قائمة شندلر»… طقوس «الفُرجَة» على المآسي