فاصلة

مراجعات

باربي… صناعة الضجيج «الفارغ»

Reading Time: 3 minutes

سوف يتوقف الباحثون طويلًا أمام فيلم Barbie (2023) للمخرجة غريتا غرويغ، كظاهرة مدوية في الثقافة الشعبية، وفيلم صاحبته أذكى حملة دعائية في العصر الراهن.

سيدرسون كيف استطاع تصدُّر إيرادات شباك التذاكر العالمي في عام صدوره، بمليار ونصف المليار دولار، وسيحللون كيف سيطر على محركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي وعالم الميمز، وأقنع الآلاف بالاصطفاف أمام السينمات بالملابس الوردية. وحاز ثماني ترشيحات من الأوسكار في فئات من ضمنها السيناريو- وهو الحلقة الأضعف بالفيلم. 

والأعجب؛ كيف وضع نفسه كقطب سينمائي ثانٍ مقابل لفيلم من عيار “أوبنهايمر” المختلف عنه في كل شيء لمجرد تزامنهما في العرض؟

باربي قدم تصوير وملابس وتصميم إنتاجي مميزين، وأضيف له من كاريزما النجمين مارغو روبي وريان غوسلينغ. لكن هل قدم محتوى قصصي أو فكري يؤهله لصناعة كل هذا الضجيج؟

الرمزية فوق المنطق

“باربي” تعيش حياة مخملية في عالم مواز يسمى “باربي لاند”. السيطرة فيه للنساء (آل باربي)، وهو مكان حالم وزاهي الألوان، أقرب ليوتوبيا نسائية، فيما يعيش الرجال (آل كين) مستضعفين وعلى الهامش، أقصى طموحهم أن يلفتوا انتباه باربي.

تصاب البطلة بعطب يضطرها للذهاب في رحلة للعالم الواقعي، وتفاجأ بعالم ذكوري فج يقهر المرأة ويسيطر عليه الرجال.

 بالغ صُناع الفيلم في عرضهم لتفاوت موازين القوى بين الجنسين في العالمين. لكن يمكن تقبل ذلك في سياق دراما مؤسسة على الرمزية ومدفوعة بالرغبة في التعليق الأيديولوجي، وذلك أمر مشروع. المشكلة ليست في الأهداف، بل بوسائل بلوغها.

يضج الفيلم بكثير من الإحالات الثقافية: ستانلي كوبريك، مارسيل بروست، فيلم الأب الروحي … إحالات تؤكد أن باربي موجه للكبار قبل الصغار، وأنه وبرغم طابعه الكوميدي الفانتازي، مازال يأخذ نفسه بحد أدنى من الجدية الفنية. ما يسمح لنا بطرح الأسئلة عن المنطق والرسائل التي يطرحها.

باربي هي الحل والمشكلة

الطرح النسوي بالفيلم مثير فعلًا، وإثارته تكمن في تخبطه لا في عمقه. حاول الفيلم أن يتحدى ما أسس له في البداية عن آثار باربي الإيجابية نسويًّا، كونها سبب في تنامي قوة المرأة في المجتمع، ثم يتراجع الفيلم عن تلك الفكرة بعرض نماذج من العالم الواقعي تقول النقيض: باربي عبء على النساء وألعوبة رأسمالية وليست مُلهمة ولا رمز للقوة النسائية.

ثم يتذكر الصناع أن المزايدة النسوية على باربي (كسلعة) ليست فكرة جيدة لفيلم من إنتاج شركة ماتيل (المالكة للعلامة التجارية لباربي)، فيتراجعون عن نقد باربي ومَن صنعوها، ويعود الفيلم ليدور في حلقة من التشتت والفوضى الفكرية.

مع ظهور بطولي لمخترعة باربي “روث هانلدر”، قدمها الفيلم كمُنقذة ستساهم في مزيد من الحلول السحرية من خارج دراما الفيلم، بطريقة الميتافيكشن؛ ولأن الكُتاب عاجزين عن فعل ذلك من داخل الدراما.

نسوية القط والفأر

 يعاني سيناريو الفيلم من التخبط الذي انعكس على أيديولوجيا الفيلم. مثل رسم الشخصيات وتحديد التكوين الفكري والمعرفي لهم. الشخصيات هنا نصف واقعية – نصف كارتونية، ويتعامل الفيلم مع تلك الطبيعة لتكون شمّاعة تُبرر اللامنطق في سلوكهم ودوافعهم، لكنها لا تبرر غياب الاتساق.

تتفاعل باربي مع مصطلحات ثقافية معقدة مثل “فاشية” وتستوعب الكلمة رغم أنها مجرد دمية، في حين لم يفهم رفيقها كين مصطلح “بطرياركية” واحتاج للبحث وراءه، رغم أنه قادم من نفس النطاق الفكري لعالم باربي؟ إذن، فالشخصيات تملك عقل دمية أو عقل إنسان مثقف، هذا بحسب أهواء الكُتاب ونزعاتهم الفكرية، وما يريدون تمريره من خلال الشخصيات.

تتماهى باربي مع المونولوج الذي تردده الممثلة أميركا فيريرا عن معاناة المرأة في العالم الواقعي، وكأن باربي اختبرت التجربة الحياتية نفسها، وهذا غير صحيح، فتاريخها مجرد دمية في العالم المخملي.

دعك من طول المونولوج وطبيعته الفجة التلقينية؛ الأسوأ كان توظيفه فيما بعد كتعويذة حوارية أو حل سحري لعقدة ما في الدراما ،حيث عجز المؤلفون على الإتيان بحل أقل كسلًا من إلقاء محاضرة.

والأغرب أن هذا المونولوج بفحواه المُحرض على تحرر المرأة من الضغوط والإملاءات، صار هو نفسه وسيلة ضغط جديدة على النساء داخل باربي لاند، على طريقة غسيل المخ المضاد، أو كما يسميها صناع الفيلم “إعادة برمجة”، تكريسًا لسلب حق الاختيار الحر عن المرأة، مرة باستقطابها للبطرياركية ومرة للمطرياركية.

يتركنا الفيلم أمام أسئلة هامة بلا إجابة: إذا كان العالم الواقعي فاسدا بسبب اختلال موازين القوى بين الجنسين، فلماذا تحرص باربي على تطبيق الخلل نفسه داخل باربي لاند ولكن بشكل معاكس جندريا؟ وإذا كانت باربي لم تر في العالم الواقعي سوى المعاناة والميسوجينية فلماذا اختارت العودة لهذا العالم بإرادتها في النهاية؟

بين الفن والبلاستيك 

“إذا كُنت تحب باربي فهذا الفيلم من أجلك. وإذا كُنت تكره باربي فهذا الفيلم من أجلك.”

ظهرت تلك العبارة في الإعلان التشويقي الأول للفيلم، وهي عبارة تنطوي على نبرة تسويقية لَحُوحَة، قد تكون آخر ما يتناسب مع فيلم يهجو الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية، وإن أصبح هذا التناقض مفهومًا الآن بالنسبة لفيلم تتضارب فيه الرسائل والأفكار مع كل دقيقة وفي كل مشهد.

بدا أن صناع باربي سقطوا تحت تأثير التوجه التسويقي للفيلم الذي يقدم المعنى ونقيضه؛ كي يربحوا الجميع.

وهذه مشكلة عامة في الأفلام المبنية على عناصر ومنتجات ذات وضع قانوني تحميه الملكية الفكرية (intellectual property)، فهي تواجه معضلة كيف توظف الإبداع المشتق من منتج ثقافي سابق، والحذر من أن تخدش الميثولوجيا التي قام عليها. ما يحيل العمل الفني بالنهاية إلى إعلان.

اقرأ أيضا: «كثيب.. Dune2»… تحفة جديدة في مسيرة دوني فيلنوف

شارك هذا المنشور