إذا سألنا الجمهور عن أهم الأفلام الرومانسية في القرن العشرين، لا بد وأن يظهر فيلم “لقد وردك بريد” You’ve Got Mail في القائمة؛ هذا إن لم يتصدرها.
سيتذكر الجمهور أفلامًا أخرى مثل عندما “تقابل هاري وسالي” When Harry Met Sally، وربما بدرجة أقل فيلم “أرق في سياتل” Sleepless In Seattle.
هناك مشترك رئيسي بين هذه الأفلام الثلاثة، أنهما جميعها مأخوذة عن سيناريو للكاتبة والمخرجة الأمريكية نورا إيفرون، التي ذاع صيتها في تسعينيات القرن الماضي بفضل إحيائها المميز لنوع فيلمي genre الكوميديا الرومانسية Romantic Comedy الذي انتشلته من غياهب النسيان، وأعادت له مكانته كأحد أرسخ الأنواع الفيلمية في تاريخ السينما.
بفضل من نورا إيفرون، شهد نوع الكوميديا الرومانسية انتعاشًا خاصًا بعد سنوات من الركود والتراجع، وقد بدأ ذلك مع فيلم When Harry Met Sally عام 1989، الذي حقق نجاحًا كبيرًا أعاد الأفلام الرومانسية إلى المشهد السينمائي وتصدر شباك التذاكر عبر أفلام ذات ميزانية متوسطة، كان لإيفرون نصيب كبير في كتابة وإخراج كثير منها كما كانت صاحبة الحظ الأكبر من النجاح.
الحُب في نيويورك
طالما كانت مدينة نيويورك مسرحًا للقصص الغرامية على شاشة السينما لما لها من طابع رومانسي بمعالمها المعمارية والطبيعية والتي تظهر بشكل جمالي على الشاشة الكبيرة، وتركيبتها السكانية التي تجمع بين طبقات وجماعات عرقية مختلفة في مكان واحد.
لعبت مدينة نيويورك دورًا محوريًّا في قصص نورا إيفرون الغرامية، يجتمع العاشقين في You’ve Got Mail على حبهما للمدينة، ويتجولان في شوارعها من دون أي يعرف أحدهما الآخر.
نيويورك أيضًا هي وجهة ومستقر العاشقين في When Harry Met Sally، أما في فيلم Sleepless In Seattle، ورغم تباعد المسافة بين العاشقين، إلا أن رمزية نيويورك تبقى حاضرة عبر أحد أشهر معالمها؛ برج إمباير ستيت الذي يلتقي على سطحه العاشقان في النهاية.
(المشهد الأخير من سليبلس ان سياتل أو صورة منه)
لا تتوقف الرومانسية عند إيفرون على العلاقات العاطفية بين الجنسين، ولكننا نجدها في الحس النوستالجي والحنين إلى الماضي عبر كلاسيكيات السينما الرومانسية.
في فيلم Sleepless In Seattle تقترح آني على سام أن يلتقيا على سطح بناية إمباير ستيت، متأثرة بمشهد مماثل في فيلم An Affair to Remember 1957، وفي فيلم When Harry Met Sally تتكرر الإشارة إلى فيلم Casablanca 1942 أحد أشهر الأفلام الرومانسية في تاريخ السينما، أما فيلم You’ve Got Mail فمقتبس عن فيلم The Shop Around the Corner 1940.
التخلص من أثر السبعينيات
في هوليوود، كان التاريخ الطويل للرقابة الذاتية والتوظيف الناعم للجنس، سببًا في تحاشي التصوير المباشر للدافع الجنسي داخل السرد، وعندما بدأت هذه الدوافع في الظهور؛ ظهرت يقودها حماس عودة الذي عانى من القمع.
في النصف الثاني من السبعينيات، قدم المخرج وودي آلان تحفته الخالدة، فيلم آني هول Annie Hall، الذي مثل نقطة تحول كبيرة في نوع الكوميديا الرومانسية، ولا سيما في معالجته لموضوع الجنس. مثَّل الجنس مركزًا للسرد السينمائي لأفلام السبعينيات الرومانسية والتي أكدت على أن الجنس أمر محوري ومرغوب من الطرفين، وليس حكرًا على الرجال كما كان شائعًا في الحقبة السابقة، ومن ثم في الثقافة الشعبية.
تنطلق إيفرون من نفس الفكرة، أن الجنس أمر محوري وهام بالنسبة للجنسين، ولكنها تفعل ذلك من دون التركيز على فعل الجنس نفسه أو تصويره سينمائيًّا وسرديًّا، وهو ما يبلغ ذروته في فيلم You’ve Got Mail، الذي يقدم نسخة أقرب إلى الحب العذري، إذ يخلو الفيلم من أي فعل حميمي بين أبطاله باستثناء المشهد الأخير الذي يشهد قبلة البطلين، مع التركيز على وجود الكلب ومقاطعته لتلك القبلة، ليتحول المشهد من مشهد حميمي إلى مشهد أقرب للعائلي.
كان لعزوف إيفرون عن تصوير الجنس بشكل مباشر وقعًا إيجابيًّا على المستوى الجماهيري التجاري، إذ أن عدم تصنيف الفيلم رقابيًّا باعتباره لشرائح عمرية تتخطى 18 عامًا، يعني إتاحته لشريحة أكبر من الجمهور. ومن ناحية أخرى وغير متوقعة، كان هذا التصنيف سببًا في إتاحة الفيلم للعرض في القنوات العربية وعلى رأسها قناة MBC2 السعودية التي اعتادت على اختيار محتوى محافظ قبل الانفتاح السعودي، ولهذا كانت أفلام إيفرون ملائمة، ومن ثم وجدت أفلام إيفرون طريقها إلى جمهور واسع في الوطن العربي.
إيفرونيسك Ephronesque هو مصطلح يشير إلى تأثير نورا إيفرون على نوع الكوميديا الرومانسية، سيَّما معالجتها الرومانسية لفكرة الجنس. بعدما يموج المجتمع الأمريكي في ثورة ثقافية وسياسية شاملة في الستينيات، تتغير المفاهيم المجتمعية وعلى إثرها تتبدل القوانين المنظمة للرقابة على المصنفات الفنية، ولهذا يشير الأكاديميون إلى الأفلام الرومانسية في السبعينيات بمصطلح الرومانسية الراديكالية، في إشارة إلى نظرتها الخاصة للجنس وتوظيفه في هذا النوع من الأفلام.
لكن نورا قررت الانقلاب على هذا التصور، ليس بدافع من الرقابة المجتمعية أو القانونية، وإنما لرؤيتها الذاهبة إلى أن تصوير الجنس “يقتل هذا النوع من الأفلام” لتعود بذلك إلى الشكل الكلاسيكي للفيلم الرومانسي، ولكن بدون الجدالات السياسية التي سبق أن اقترنت به. منع التصوير الصريح للجنس هنا كان اختيارًا فنيًّا، وليس وضعًا سياسيًا مفروضًا بقوة القانون.
منح قرار نورا إيفرون تجاوز محورية الجنس في العلاقة العاطفية مساحة أكبر لاستكشاف الشخصيات دراميًّا وسينمائيًّا، ودفع للنجاح الكبير الذي حققته هذه الأفلام محليًّا وعالميًّا.
هذا الاختيار أيضًا سمح بتجديد دماء النوع السينمائي الخاص بالكوميديا الرومانسية بعد فترة من الركود، كما مثل تمظهرًا لتوجه إيفرون النسوي سيما وأن أفلامها تتمحور بشكل كبير حول الشخصية النسائية، على خلاف الأفلام الرومانسية السابقة التي تقودها الشخصيات الذكورية، ومن ثم منحت إيفرون لهذا النوع صوتًا مغايرًا جعل منها عرابة هذا الـ genre لعقدين من الزمن، قبل أن تختفي هذه الأفلام مرة أخرى لتبدل الزمن ومعاييره وميول الجماهير وأذواقها.
اقرأ أيضا: النجم الصامت… لماذا ينزعج روبرت دي نيرو من الحوارات الصحفية؟