لا يغيب المخرج الكوري هونغ سانغ سو، عن موعده السنوي في مهرجان برلين السينمائي الدولي، فلا يمكن أن يعلن المهرجان عن قائمته السنوية إلا ويكون اسم سانغ سو ظاهرًا فيها. الشيء نفسه يحدث في مهرجان كان. قدرته على صنع هذا الكم من الأفلام بأقل قدرٍ من الوقت والمال والجهد؛ هو مشروع إبداعي يقاوم المؤسسة الضخمة للصناعة التي قد تقتل عفوية الفنان، إضافة إلى أنه لا يكتب أي سيناريو استباقي، بل يكتفي بوضع النقاط الرئيسية مثل مواقع التصوير وعدد الشخصيات في كل مشهد، ثم يأتي صباح كل يوم تصوير ليعد الحوارات لممثليه مع مساحة للتغيير خلال أداء المشاهد.
لنجاح هذا المشروع، يتطلب الأمر عزيمةً مستمرة، وإيمانًا بفاعلية الفكرة وصيانتها من كل أثر محتمل لضغط الإنتاج أو عشوائيته، وعندما يصنع هونغ أفلامًا بشكل سنوي، يكون كل إنتاج بينها واقعًا ونجاحًا لهذه المقاومة. وعندما يحين موعد توقفه أو تظهر لنا بوادرٍ توحي بتريثه، فإن ذلك سيشير مباشرةً إلى فشلها.
ومع ذلك فإن سانغ سو لا يصنع أفلامًا عادية، لكنه يدير مسيرة لها سماتها الأصيلة، التي تؤكد على الذاتية المباحة للفنان في أعماله أو المبدع في أسلوبه. هونغ سانغ سو واقعي في سعيه، وبراغماتي في سينمائيته، وهو مخرج مستقل يؤمن بالأرقام كذلك، متحركًا بين أدوات محصورة ومحددة يمكننا أن نجدها في وجوه أبطاله مثل كوان وي هيو، وكيم مين هي، والمواقع بين المقاهي، وجلسات العشاء وشوارع الأحياء السكنية، لكنه يستخدم هذه الأدوات بشكل تجريبي مستمر في هيكله السردي عند الحذف أو التكرار، أو التلاعب في العبارات داخل حواراته والتي تشكل الجزء الأكبر من ما يحدث في إطار أفلامه، أو حتى في جعل شخصياته السكيرة تصل إلى أعمق المصطلحات لتجد من خلالها فراغًا يسقط عليها بشكلٍ تلقائي.
في عمله الأحدث الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي لهذا العام، يُقدم هونغ سانغ سو ثالث أفلامه مع الممثلة الفرنسية إيزابيل هوبير بعد فيلمي «في بلاد أخرى 2012» و«كاميرا كلير 2017»، لكنه يصيغ هنا حسًا غامضًا ومثيرًا بقدر غرابة الكوميديا التي يحملها، كما يستثمر بشكل أكبر في إمكانيات هوبير مقارنة بالتعاونات السابقة.
«احتياجات مسافر» A traveler’s needs هو فيلم متحرك بطبيعته، يصرّ على التقاط التنقل باعتباره وقودًا للسرد، ويجعل ما يتقاطع مع شخصياته منسجمًا في سياق حركي رئيسي، يتنقل بين الحدائق، والمطلات، والمناظر الطبيعية، والقصائد الشعرية، مستعينًا باللغة التي تقود محدوديتها أقدار شخوصها!
يبدأ الفيلم بمشهد طويل بين آريس (إيزابيل هوبير) المعلمة الفرنسية، والكورية الشابة (هي يونغ لي). خلال المشهد تمارس آريس تكنيكًا للوصول إلى أعمق المشاعر من خلال تمرين يشبه لعبة الاستجواب، تنطلق اللعبة من سؤال: “بماذا تشعر في هذا اللحظة؟”، ثم صياغة السؤال نفسه بأكثر من طريقة أثناء ممارسة مجموعة من الأنشطة الحركية، ما يقودنا لنشهد تحولًا عند الشابة من الرضا في بادئ الأمر إلى مشاعر اللا رضا، أي للنقيض تمامًا. ومن ثم صياغة عبارة فرنسية بليغة وفلسفية على بطاقات مفهرسة تعبر عن هذه المشاعر، باعتبار أن صياغة ذلك باللغة الأخرى والارتباط بها، يرسخ الجملة لدى الطالب؛ أو هذا ما تدعيه المعلمة آريس.
الشيء ذاته تقوم به آريس في المشهد الذي يليه عند زبونيها اللاحقين وهما زوجان كوريان، وبنفس التكنيك يحدث كل شيء، وبنفس العبارات مثلما حدث تمامًا مع الشابة في المشهد الأول، ومن هنا يرسم هونغ أول الالتواءات في هيكل فيلمه، من خلال استدعاء سمة التكرار التي استخدمها سابقًا في فيلمه الرائع (صحيح الآن، خاطئ لاحقًا 2015) الذي يسلط فيه الضوء على ما هو إضافي في المشهد بالمقارنة بالمشهد السابق عليه، ويجعل من الاختلاف بين المشهدين ركيزة لدفع السرد، ولا يمكن تجاوز المشهد من دون الحديث عن الكوميديا العفوية التي وجدت مكانًا لها هنا عند الحديث المشترك باللغة الثانية لدى الشخصيات بالإنكليزية، والبحث في سبيل لغة ثالثة مقصدها الفرنسية.
هناك جاذبية ساحرة وغامضة لشخصية آريس، تتمثل في خلفيتها الدرامية كامرأة فرنسية غريبة على المكان، لا نعرف سبب قدومها الحقيقي إلى كوريا، فليس لها تاريخ واضح أو مستقبل محدد، ويزيد من غموضها تناقض تواجدها في بيئة غير مألوفة وحركتها التي تجعلها كمن ليس لديه وجهة محددة. وبسترتها الخضراء؛ تتجول بالحديقة كما كانت تفعل جولييت بيرتو في «سيلين وجولي يذهبان إلى القوارب 1974»، مما يثير فضولًا غير متناهي بشأن أفعالها وتلميحاتها الغامضة، سواء كان في اختلاقها للقصص، أو مراقبتها للآخرين وحرصها الشديد على الحفاظ على غموضها وسرية شخصيتها.
في أداء هوبير هناك هدوء متقن، يغلب عليه – كما عودتنا- لمسة من الشر. لكن ما يَرسُخ أكثر؛ هو ما تبديه الشخصية من قدرة على استخلاص المتعة وتقاطعاتها مع العالم الذي تدور فيه الأحداث. يظهر ذلك بوضوح في لقائها مع شخصية إنجوك، الشاب الذي يشكل معها علاقة تبدو كصداقة مبنية على المصلحة من جانبها، بينما يبدو الحب واضحًا وغريبًا من جانب إنجوك الذي يصغرها بـ 40 عامًا. في هذه اللحظة يفصح الفيلم عن معناه ويتجلى “سوء الفهم” باعتباره المد الذي يقود مصير الشخصيات، وتتسع فيه مساحات خيبة الأمل؛ لتغدو محورًا أساسيًا في دفع الأحداث.
من هنا، نشهد تمدّدًا بعد وقوع تلك اللحظات الغريبة والمُحرجة من خلال استخدام اللغة، حيث تنطلق الشخصيات لتعبئة فراغها بالكلمات، إلى أن يبدأ الفهم بالانقسام نتيجة العقبات التي تعترض طريق المعنى الحقيقي، حيث تسيء الشخصيات فهم بعضها بعضًا، مما يولّد مجموعة من المنعطفات السردية التي تعزز طبيعيتها تطوّر هذه الحبكة الدرامية.
في “احتياجات مسافر” يصيغ لنا هونغ سانغ سو وقفة حقيقية لاستكشاف تراكمات العلاقات الإنسانية، متناولًا التباين بين أعلى درجات الاهتمام الشديد، واللامبالاة؛ ليخلق خطًا سينمائيًا يتيح لنا الوقوف على فجوات الفهم والتواصل في هذا العالم المتشابك.