عندما أغلقت أبواب السينمات والمسارح والمطاعم والمقاهي وكل مكان يعمل كمساحة للاجتماع العام، على وقع تفشي جائحة كوفيد- 19، كان المبرمج السينمائي الإيطالي كارلو شاتريان قد بدأ لتوه بممارسة مهامه مديرًا فنيا لمهرجان برلين السينمائي الدولي، قادمًا من لوكارنو السويسرية حيث عمل مديرًا فنيًا لمهرجانها العريق الذي يقترب من عامه المئة.
اليوم، ها هو كارلو شاتريان يغادر موقعه مديرًا فنيًا لمهرجان برلين السينمائي مع انتهاء فعاليات الدورة الحالة التي تحمل رقم 74 في تاريخ المهرجان العريق، وبعد 4 دورات عصيبة تمكن خلالها من العبور بمهرجان برلين السينمائي الدولي من محنة كورونا وغياب الجمهور وانخفاض معدلات الإنتاج السينمائي مدى ثلاث سنوات تقريبًا امتدت من 2020 إلى 2022.
لن يغادر شاتريان وحيدًا، بل تغادر معه زميلته مارييت ريسنبيك المديرة التنفيذية للمهرجان التي ينتهي عملها كذلك مطلع مارس، بعدما اتفقت وشاتريان على رفض مخططات وزيرة الثقافة الألمانية كلوديا روث لدمج المنصبين معًا – المدير التنفيذي والمدير الفني- بغية ان يكون هناك مدير واحد للمهرجان يجمع بين المهام الإدارية التي لا تنتهي والمهام الفنية التي تحتاج إلى كثير من التفرغ والاطلاع على صناعة السينما في كل أنحاء العالم، كما كان الوضع في عهد المدير السابق ديتر كوسليك.
«فاصلة» التقت شاتريان في أروقة المهرجان بعد إعلانه استقالته في بيان رسمي جاء فيه: «اعتقدت أنه من الممكن ضمان الاستمرارية عندما أظل جزءًا من المهرجان، لكن من الواضح تمامًا في البنية الجديدة (للإدارة) أن شروط استمراري كمدير فني للمهرجان لم تعد موجودة»، وذلك بعد إعلان ريسنبيك نيتها هي أيضًا ترك منصبها.
استقالة شاتريان لم تمر مرور الكرام لدى صنّاع الفن السابع، حيث شارك 300 شخصية بتواقيعهم في بيان احتجاجي على القرار، وطالبوا بإبقائه في منصبه، وشمل البيان أسماءً سينمائية مهمة في مقدمها المخرج الكبير مارتن سكورسيزي، المُكرَّم بـ«الدب الذهبي» في الدورة الـ74.
كانت تواقيع هؤلاء السينمائيين الكبار ردًا بليغًا على الاتهامات التي وجهها البعض إلى شاتريان خلال فترة إدارته الفنية لـ«برلين» بالتسبب في «تدهور وضع المهرجان»، فيما تمكن هو من قيادته في ظرف صعب مر به العالم، وأثّر سلبًا وبشكل حقيقي على مستويات مهرجانات أخرى، لم تتمكن–بالكفاءة نفسها- من التصدي لتفشي فيروس قاتل، وترنحات سياسية عالمية، وموجة تضخم يعاني منها الاقتصاد العالمي.
عندما التقته «فاصلة» في أروقة مهرجان برلين، بدا شاتريان شديد الانشغال كعادته، يحث الخطى في ملابسه البسيطة «الكاجوال» بين موضع وآخر، يتابع الفعاليات وانضباطها وانطباعات جمهور المهرجان من سينمائيين وجمهور وصحافيين ونقاد، بنشاط محموم وانتباه يقظ، وكأنها دورته الأولى. التقيناه في ١٥ دقيقة وحاولنا أن نأخذ فيها ما نريد من معلومات وجديد وتفاصيل أكثر عن برلين السينمائي.
سألناه عن خططه بعد توديع الـ«برليناله»، فقال: «لا يزال مبكرًا التفكير في ذلك، ما يدور في خلدي الآن أني أستحق فترة من الراحة قبل التفكير في الخطوة المقبلة، أنا الآن أستمتع بنجاح دورة برلين الحالية، وهي الختامية لي»، لافتًا إلى أن فترة الراحة يراها ضرورية ليمنح نفسه فرصة للتأمل والبحث عن خطوته الجديدة، معربًا عن أمنيته بأن يظل قادرًا على المساعدة في صناعة الأفلام.
وأوضح شاتريان في حديثه إلى «فاصلة»،أن المهرجانات في نظره هي «أهم الأدوات لمساعدة السينما المستقلة، خاصة تلك الأفلام التي لولا المهرجانات ما رأت النور، تشترك في هذا الأفلام المستقلة والأفلام القصيرة والأفلام الوثائقية كذلك».
ورأى أنه «لولا الدور الكبير الذي تقوده المهرجانات في دعم الصناعة وأبنائها، لما وجد هؤلاء الموهوبون فرصًا حقيقية». فالمهرجانات تمنح الموهوبين فرصة الحصول على الدعم اللازم ولقاء المنتجين والصناع الذين يكفلون لأفلامهم أن ترى النور: «ليس ذلك فقط، فمن خلال فعاليات المهرجانات، يُمنح أصحاب الأفلام فرصًا في أن يُعرِّفوا أنفسهم غلى الجمهور، من خلال عرض أفلامهم التي تحتضنها المهرجانات العالمية، وتقدمها إلى متذوقي السينما المتعطشين للفن».
ولفت أيضًا، إلى أن سكان برلين – على سبيل المثل- ينتظرون المهرجان سنويًا، حيث يجدونه فرصة لاكتشاف عوالم جديدة ومناطق لم يروها من قبل من خلال السينما.
تحدثنا أيضًا عن السينما العربية، التي كان لها حضور بارز في دورات برلين الماضية، خاصة تلك التي كانت تحت قيادة شاتريان، ولا سيما بفتحه الباب أمام دول لم تحظَ من قبل بفرصة المشاركة في مثل تلك المهرجانات العالمية الكبرى، وفي مقدمها اليمن والسودان. قال إن «السينما العربية أصبحت في السنوات العشرة الأخيرة أكثر ثراء من الماضي، خاصة مع زيادة عدد الدول المنتجة للأفلام، فبعد لبنان وسوريا وشمال أفريقيا خاصة تونس، أصبحنا قادرين على مشاهدة أفلام من اليمن والسودان، فتلك الدول حاليًا أصبحت قادرة على إنتاج أفلام متنوعة بفضل تمويل صندوق البحر الأحمر لها، وأيضًا صار للمبدعين العرب القدرة على التعاون مع بلدان بعيدة عنهم كثيرًا»، معتبرًا أن ذلك «تطور عظيم ومهم لأبناء الدول العربية»، لأنه يعطيهم الفرصة للاتصال المهني القوي، مما يؤثر إيجابيًا على أعمالهم السينمائية.
الأمر نفسه – والحديث لا يزال لشاتريان- يتكرر مع منتجين من مناطق أخرى حول العالم، كانت مشاركتهم في مثل تلك المهرجانات الكبرى أمرًا صعبًا، لكن الآن اختلف الوضع: «هذا وقت جيد للدول العربية»، مشيرًا إلى أن الدورة الحالية شهدت مشاركة أفلام كثيرة من دول عربية وأفريقية مثل تونس ونيجيريا، و«العام الماضي كانت الغلبة لآسيا، وهكذا»، متوقعًا تطور تلك المشاركات خلال الأعوام المقبلة، ليس فقط عدديًا بل على مستوى جودة الصنعة كذلك.
وأشار إلى أن المهرجانات تتميز بكونها تعرض أنواعا متعددة من الأفلام من دون قيود، وتلك الأفلام تُمنَح الفرصة بعد ذلك بأن تعرض على منصات العرض التدفقي الشهيرة، وأبرزها «نتفليكس»، مما يعني أن أي شخص في العالم قادر على مشاهدتها من منزله، ويعني هذا جمهورًا أكبر «ليس للسينما العربية فقط ولكن للسينما المختلفة من كل أنحاء العالم».
ونصح شاتريان صناع الأفلام المبتدئين بالحرص على حضور المهرجانات، ليس فقط كمشاركين بأفلامهم، بل لمتابعة ما تنتجه المواهب حول العالم، «هذا يمنحهم الشعور بأنهم في بيتهم، وسط محيط يفهمهم ويلهمهم، خاصة أن المهرجانات تجتمع فيها ثقافات مختلفة من جميع أنحاء العالم، مما يصقل أفكارهم ورؤاهم حول العوالم البعيدة عنهم، وتلك فرصة للمشاهدين العاديين أيضًا، وليس فقط لصناع الأفلام».
اختتم شاتريان حديثه مع «فاصلة» مقدمًا نصيحة إلى صنّاع السينما العربية وخاصة السعودية تساعدهم في تطوير خطواتهم الجديدة في مواجهة عالم متعطش للتعرف على مجتمعاتهم وبيئاتهم المختلفة، قائلًا إنه لا بد لأي صانع أفلام مبتدئ من جميع أنحاء العالم، أن يشاهد أكبر قدر ممكن من الأفلام، لأن ذلك هو طريقه الأمثل لفهم نفسه، واكتشاف ذائقته الخاصة، وما يريد أن يقدمه إلى الفن السابع من مختلف الأشكال والألوان السينمائية.