يمتلك كل الأطراف الرئيسيين في صناعة الفيلم الأيرلندي “أشياء صغيرة كهذه Small Things Like These” ومن اختاروه لافتتاح الدورة 74 لمهرجان برلين السينمائي أسبابًا مقنعة لاختياراتهم. المهرجان يُفضل دائمًا أن ينطلق بعرض فيلم يضم نجومًا عالميين يزيدون من الاهتمام الإعلامي، ولا أكبر في لحظتنا الراهنة من كيليان ميرفي، الذي وضعه دوره في فيلم “أوبنهايمر” لكريستوفر نولان في صدارة المرشحين لأوسكار أحسن ممثل.
ميرفي نفسه ممثل يُحب التنويع في الاختيارات، ويحاول أن تستمر علاقته بالسينما في مسقط رأسه أيرلندا بدور جيد من حين لآخر، وسط كل التزاماته في هوليوود. والدور هنا مُغري لأي ممثل، سواء في مساحته الممتدة في أغلب مشاهد الفيلم، أو فيما يحمله من مساحات لصراع داخلي. أما المخرج تيم ميلانتس فمن المنطقي أن يتحمس لتكرار التعاون مع نجم بحجم ميرفي بعدما أخرج له أحد مواسم المسلسل الشهير “بيكي بلايندرز Peaky Blinders”.
وبالطبع قبل كل ماسبق، يُمثل موضوع الفيلم مصدرًا رئيسيًا للحماس، فالحكاية المأخوذة عن رواية للكاتبة الشهيرة كلير كيجان (التي كتبت رواية أخرى تحولت لفيلم مرشح للأوسكار العام الماضي هو “الفتاة الهادئة The Quiet Girl”) تعرض فصلًا مظلمًا من تاريخ المجتمع الأيرلندي الحديث. فصل امتد لمساحة زمنية شاسعة من القرن التاسع عشر وحتى منتصف تسعينيات القرن العشرين، يحمل اسم “المغاسل المجدلية”.
المغاسل المذكورة هي مصحات نفسية دينية، تديرها راهبات متزمتات من الروم الكاثوليك، توضع فيها قسرًا الفتيات اللاتي تحملن خارج إطار الزواج، لتتعرضن لألوان من العلاج الأقرب للتعذيب، بدعوى “إصلاح الشابات الساقطات”، ولنا أن نتخيل الآليات المستخدمة لتحقيق هدف كهذا!
كل الأسباب المذكورة تجعل الحماس لفيلم “أشياء صغيرة كهذه”، حماسًا مُبررًا، وتُفسر الاستثناء الذي أقدم عليه برليناله بالسماح للفيلم لأن يكون الأول منذ سنوات، الذي يجمع بين افتتاح الدورة والمشاركة في المسابقة الدولية، فقد اعتدنا أن يكون فيلم الافتتاح معروضًا خارج كل المنافسات.
لكن رغم كل الدوافع والمسببات، جاءت النتيجة النهائية للفيلم باهتة، ليُحدث انطباعًا لحظيًا بعدم التأثير، فهو ليس فيلمًا سيئًا، لكنه ليسًا جيدًا أيضًا. فيلم سريع التطاير؛ لن تجد عائقًا في إكماله لنهايته، لكنك ستنساه على الأغلب بعد ساعات من المشاهدة.
ما سر هذا التعارض الواضح بين جاذبية المعطيات وفتور النتائج؟ وما الذي جعل فيلم افتتاح برليناله 74 يمر مرور الكرام؟
النجومية عائقًا
أول الأسباب التي يُمكن رصدها هو الهوس بالنجم على حساب الموضوع. صحيح أن كيليان ميرفي اسم له جاذبيته، ووجه نُحب أن نشاهده على الشاشة باستمرار، لكن الموضوع في الرواية يظل مصدر الإغراء الأكبر لأي شخص يود مشاهدة فيلم حقيقي بعيدًا عن سطوة النجوم وعبادتهم.
المخرج تيم ميلانتس وكاتبة السيناريو إندا والش يقرران التركيز تمامًا على شخصية بيل فيرلونج التي يلعبها ميرفي، وجعل قيمة المغسلة المجدلية الدرامية يقتصر على علاقة بطلنا بها، سواء في تجاورها مع محل عمله في تجارة الفحم، أو في ارتباطها بماضي الشخصية الذي جعل بيل أكثر حساسية لما تتعرض له هذه الفتيات داخل دار الإصلاح الكابوسية.
فيرلونج يعيش مع زوجته وبناته، يعمل بجد ويقدره مجتمعه المحلي، حتى يتقاطع طريقه مع فتاة تحاول الهرب من المغسلة المجدلية، ليستعيد ذكريات الماضي التي ندرك من خلالها إنه كان أحد الأطفال الذين تم انتزاعهم من أمهاتهم للأسباب نفسها. ليكون موضوع الفيلم الرئيسي هو محاولة بيل تجاوز ذكرياته التعيسة، والتعايش مع المجتمع الذي يُصدق في نبل المؤسسة الكنسية، وفي استحقاق الفتيات المخطئات للعلاج الأقرب للعقاب، وتقريبًا لا يوجد مشهد في الفيلم لا يضم شخصية البطل، سواء في نضجه أو في طفولته من خلال مشاهد الفلاش باك.
الاختيار يضع الفيلم في تحدٍ كبير، فمن حق صناع العمل التخلي عن الموضوع الجذاب لحساب دراما الشخصية، لكن بشرط أن تتمكن تلك الدراما من تعويض ما خسره العمل بسبب التهميش. لكن ذلك لا يحدث للأسف، فيغلب التكرار والخواء على مشاهد البطل وحده، والاقتصار على ذكرياته، وتظل أفضل مشاهد الفيلم هي تلك المرات المعدودة التي يدخل فيها المغسلة أو يتقاطع طريقه مع شخوصها. أي أن المخرج والمؤلفة قررا طواعية تقليل مساحة المادة الجذابة لحساب ما يقل عنها في كل شيء.
تعاطف غائب
السبب الثاني يكمن في رحلة شخصية فيرلونج التي يبذل كيليان ميرفي جهدًا واضحًا في جعلها أبعد ما تكون عن صورة النجم الذهنية، فهو رجل اعتيادي يفتقر لأي جاذبية مجردة، بل إن اختيار الملابس وطريقة الحركة يعطيان انطباعًا بأنه شخص قصير، أقصر من طول ميرفي الطبيعي. المفترض في رحلة درامية كهذه أن نكتشف تدريجيًا أن ما يبدو اعتياديًا يمتلك من الأسباب ما يدفعه للتصرف بشكل مغاير، وهي في حالتنا ذكريات الطفولة والفتاة التي يتورط عاطفيًا مع محنتها.
الأمران يتمان داخل إطار الاعتيادية عينها، لا يقدمان لنا أي مفاجأة أو شعور لا يمكن توقعه من البداية، فالبطل يحاول تجاهل الواقع، ثم يجرب أن يحل مشكلة الفتاة بصورة لا تُغضب من حوله، لكن الذكريات تطارده فيقرر أن يأخذ خطوة أبعد وينحاز للفتاة المقهورة، وتلك الذكريات مجرد استحضار عاطفي لمواقف تتراوح بين ما يمكن توقعه بسهولة، وما يصعب فهم العلاقات فيه بوضوح.
ناهيك عن غياب الحميمية بين البطل وأسرته، فمن المفترض أن يكمن جانب من تعاطفه في كونه يخشى أن يتكرر الأمر مع بناته، بالرغم من تأكيد كل من حوله على أنهن فتيات حسنات السمعة ناجحات في دراستهن، لا علاقة لهن بالمنحرفات في المغسلة المجدلية، لكن شعوره بأنه ينتمي لجذور مماثلة تجعله يرى إمكانية حدوث الأسوأ. لكن الفيلم يغوص في ذهنيته، ويتعمد تقديم علاقته بأسرته ببرود يصعب معه تكوين المشاعر المطلوبة.
فيلم أمريكي ولكن
ما يحدث باختصار أن المخرج يختار حكاية جذابة ويصيغها في قالب ملائم لفيلم تسوقه دراما الشخصية character driven على الطريقة الأمريكية. لكن ولأنه يرغب في أن يكون فيلمه أيرلنديًا مستقلًا؛ يُقرر أن يتخلى على كل ما يجعل الأفلام الأمريكية ممتعة، من دون أن يمتلك ما يجعله فيلمًا فنيًا جيدًا على الطريقة الأوروبية. فالإطار العام أمريكي، والاختيارات السردية أوروبية، وما بينهما متخبط بين المدرستين.
النتيجة أننا نجد أنفسنا أمام فيلم هجين، لو تلونا قصته ستبدو حكاية شيقة مليئة باللحظات الدرامية المشحونة، لكنها مصنوعة بشكل يتعمد تجاهل أغلب هذه اللحظات أو يقدمها بشكل باهت، يمتلك الفيلم ما في سينما هوليوود من سرديات كبرى ومفاصل عاطفية لحكاية يمكن توقعها، لكنه لا يشحنها بما يجعل المتوقع ممتعًا. بالتالي، جاءت النتيجة بنفس الصورة: فاترة وباهتة، يُمكنك تفهمها واستيعاب حماس المخرج والبطل والمهرجان لها، لكن من الصعب أن تشاركهم نفس الحماس.
اقرأ أيضا: بين لجان التحكيم والمنافسة في المسابقات.. حضور عربي لافت في «برلين 74»